الأحد، 17 يوليو 2011

مقاربة شيعية نحو التعددية الدينية من رؤية العلامة الطباطبائي

هذا جزء من بحث مطول كتبه الأستاذ علي العريان حول التعددية الدينية (لا يجوز النقل إلا مع الإشارة إلى اسم الكاتب):

* مقاربة شيعية نحو التعددية من رؤية العلامة الطباطبائي[1]:

تنبع هذه الرؤية من علم الأصول و بالتحديد من الخلاف القائم بين المخطئة و المصوبة ، حيث يذهب المخطئة إلى أن للتكاليف الشرعية مصالح و مفاسد في نفسها بينما يذهب المصوبة إلى أن لا فائدة في نفس التكاليف الشرعية و إنما تكمن الفائدة في الامتثال و الطاعة و الانقياد للأمر الإلهي كأن يأمر الآباء أبناءهم بأوامر لا علة لها من أجل تربيتهم على الطاعة و الامتثال لا أكثر ، فكمال الإنسان على رأي المصوبة أن يكون كالجارحة بالنسبة لله تعالى التي لا تعصيه طرفة عين (( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون )) و على هذا كلما كان العمل أشد و أصعب كان يحتاج إلى امتثال أكبر و بالتالي محققا لتكامل أشد ، كما أن المعاصي تتفاوت في درجة التمرد فليس كل إنسان قادر على أن يكون قاتلا للحسين (ع) مثلا بدليل ما حدث في واقعة عاشوراء عندما أرادوا حز نحر الحسين (ع) فهذا يحتاج إلى درجة من التمرد و التسافل غير متوفرة في عموم الناس .
و لكن أليس تجريد العبادات من المصالح و المفاسد و تعليقهما على الانقياد و الامتثال و التعبد يقتضي القول بأن الرياضات الروحية المبتدعة محققة للغرض أيضا بل ربما تكون أفضل لكونها أشد من التكاليف الشرعية و أصعب؟ بل يقتضي القول بالتعددية الدينية و أن الامتثال لمنظومة من الأوامر يحقق الغرض المطلوب من العبادة؟ في هذا يقول العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في "رسالة الولاية" : (( نعم يبقى الكلام في كيفية السير في طريق آية النفس ، وهل بيّنت الشريعة السُبل للوصول إلى هذا المقام السامي أم أهملت ذلك وأوكلت كيفيته إلى السالكين أنفسهم ؟ زعم بعض أنّ كيفية السير من هذا الطريق غير مبيّنة شرعا ، حتى ذكر بعض المصنفين أنّ هذا الطريق في الإسلام كطريق الرهبانية التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم إلهي به فقبل الله سبحانه ذلك منهم قال سبحانه: (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )) قال: فكذلك طريق معرفة النفس غير واردة في الشريعة إلا أنها طريقة إلى الكمال مُرضية. من هنا ربما يوجد عند بعض أهل هذا الطريق وجوه من الرياضات ومسالك مخصوصة لا تكاد توجد أو لا توجد في مطاوي الكتاب والسنة ولم يشاهد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام). وذلك كله بالبناء على ما مر ذكره وأن المراد هو العبور والوصْل بأي نحو أمكن بعد حفظ الغاية ، وكذلك الطرق المأثورة عن غير المسلمين من متألهي الحكماء وأهل الرياضة كما هو ظاهر لمن راجع كتبهم ، أو الطرق المأثورة عنهم. لكن الحق الذي عليه أهل الحق ، وهو الظاهر من الكتاب والسنة ، أن شريعة الإسلام لا تجوز التوجه إلى غير الله سبحانه للسالك إليه تعالى بوجه من الوجوه ، والاعتصام بغيره سبحانه إلا بطريق أمر بلزومه وأخذه وأن شريعة الإسلام لم تهمل مثقال ذرّة من السعادة والشقاوة إلا بينتها ، ولا شيئا من لوازم السير إلى الله سبحانه يسيرا أو خطيرا إلا أوضحتها ، فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. قال سبحانه: (( ونزلنا علَيكَ الكتابَ تِبْيَاناً لكل شيء )) وقال سبحانه : (( ولَقد ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا القرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )) وقال سبحانه: ((قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )) وقال سبحانه: (( لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) والأخبار في هذا المعنى من طريق أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بل متواترة عن أبي حمزة الثمالي (رحمه الله) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع فقال : "يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلا وقد نهيتكم عنه" مما تقدم يظهر أن حظ كلّ امرئ من الكمال بمقدار متابعته للشرع وقد عرفت أنّ هذا الكمال أمر مشكك ذو مراتب ، ونعم ما قال بعض أهل الكمال ، إنّ الميل من متابعة الشرع إلى الرياضات الشاقة فرار من الأشق إلى الأمهل فإن اتباع الشرع قتل مستمر للنفس (الهوى) دائمي ما دامت موجودة ، والرياضة الشاقة قتل دفعي ، وهو أسهل إيثاراً. وبالجملة فالشرع لم يهمل بيان كيفية السير من طريق النفس ))[2] فواضح أن العلامة يرى بأن الشريعة الإسلامية هي الأسرع في الإيصال إلى الكمال بل و الوصول إلى الأكملية محصور في طريقها ، فصلاة الصبح ركعتان قبلهما وضوء إن كان المكلف على حدث أصغر ، ولا يجوز أن يؤتى بدل ذلك بعشرة ركعات مثلا قبلهما غسل مع أن هذا أحمز و أشد ، ولو كان كلام المصوبة صحيحا لما كان ثمة فرق بين الإتيان بصلاة الصبح ركعتين أو عشرة بل تكون العشرة أفضل لأنها أبلغ من تحقيق العبودية و الانقياد ، و لكن السيد العلامة الطباطبائي (رحمه الله) يبين في نهاية كلامه أن الكمال ذو مراتب لا يتحقق أعلاها إلا بالشريعة الإسلامية ، و لكن هل يمكن تحقيق بعض هذه المراتب في غير الشريعة الإسلامية؟ و إذا كان ذلك ممكنا فهل يجب على الإنسان أن يسعى إلى الأكمل أم هل يجوز له أن يكتفي ببعض مراتب الكمال؟ يأتي الجواب على ذلك بأدلة نقلية و عقلية بأن المكلف ملزم بأن يسعى إلى الأكمل دون بعض مراتب الكمال كما أنه مكلف بأصل المسير نحو كماله ، و عليه أن يبذل قصارى جهده لتحقيق هدف خلقته ، نعم جعل الله طرقا أخرى غير الشريعة الإسلامية موصلة إلى أواسط الطريق لكي لا يضيع جهد من عمل وفق اجتهاده من المستضعفين و المجتهدين كما تبين في مبحث المستضعف ، و لكن السائر على هذه الطرق لا يصل إلى الكمال المطلق بل قد لا تزيده كثرة السير إلا بعدا عن القرب الإلهي و هدف الخليقة ، من هنا نجد أن الروايات و الآيات توعدت المعاندين دون المسلمين للحقيقة ممن أخطأ الحق بل قد نستفيد من بعض الآيات و الروايات أن الله تعالى يهدي المسلمين للحقيقة إلى الصواب في نهاية المطاف قال تعالى : (( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر و أنثى ))[3] و قال سبحانه : (( و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ))[4] ، قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في كتابه "الإنسان و العقيدة" : (( ومن هنا يظهر أن المختص من السعادة بالمنتحل بدين الحق ، إنما هو كمالها وأما مطلق السعادة فغير مختص بالمنتحل بدين الحق ، بل ربما وجد في غير المنتحل أيضا إذا وجد فيه شيء من الانقياد أو فقد شيء من العناد بحسب المرتبة . وهذا هو الذي يحكم به العقل ويظهر من الشرع ، فإنما الشرع يعين حدود ما حكم به العقل ، كما في الحديث المشهور عنه (صلى الله عليه وآله) ، قال : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) وذلك كما ورد في كسرى وحاتم أنهما غير معذبين لوجود صفتي العدل والجود فيهما . وفي (الخصال) عن الصادق عن أبيه عن جدّه عن عليّ (عليهم السلام) قال : (( إن للجنة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبيُون والصدّيقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا ، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول : رب سلم شيعتي ومُحبي وأنصاريَ ومَن تولاني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بُطنان العرش : قد أُجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك . ويشفع كل رجل من شيعتي ومَن تولاني ونصرني وحارب مَن حاربني بفعل أو قول في سبعن ألف من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت )) وفي "تفسير القمي" مسندا عن ضُريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له : جُعلت فداك ما حال الموحدين المقرّين بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال : (( أما هؤلاء ، فإنهم في حُفرهم لا يخرجون منها . فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة فإنه يُخد له خدا إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب فيدخل عليه الروحُ في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيئاته فإما إلى الجنة وإما إلى النار فهؤلاء المُرجَون لأمر الله )) قال : (( وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم وأما النصاب من أهل القبلة ، فإنه يخد لهم خدا إلى النار التي خلقها الله في المشرق فيدخل عليهم اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ، ثم بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم )) وفي دعاء كميل المروي عن عليّ (عليه السلام) : (( فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك لجعلت النار كلها بردا وسلاماً ، وما كانت لأحد فيها مقرا ولا مقاما ، لكنك تقدَّست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنة والناس أجمعين وأن تخلد فيها المعاندين )) الدعاء ، وأكثر الآيات القرآنية إنما توعد الذين قامت لهم البيّنة وتمّت عليهم الحجّة وتقيد الكفر بالجحود والعناد ، قال تعالى : (( وَالَذِينَ كَفَرُوا وَكَذبواْ بِآيَاتِنَا أولـئكَ أَصْحَابُ الجَحِيم )) وقال تعالى : (( ليهلك مَنْ هلكَ عَن بينَة ويحيى منْ حي عَن بَينَة )) وبالجملة : فالميزان كل الميزان في السعادة والشقاوة والثواب والعقاب هو سلامة القلب وصفاء النفس ، قال سبحانه : (( يَوْمَ لا ينفعُ مَالٌ ولا بَنُون إِلا مَن أتى الله بِقَلب سليم )) وقال سبحانه : (( يوم تبلى السرائرُ )) وجميع الملل الإلهية تروم في تربية الناس هذا المرام ، وهذا مسلم من سلائقها وما تندب إليها ، وهو الذي يراه الحكماء المتألهون من السابقين وأما شريعة الإسلام ، فأمرها في ذلك أوضح غير أنها ـ كما مرّ في أوار الفصل الثاني ـ تدعو إلى كل سعادة ممكنة إلا أن معرفة الرب من طريق النفس حيث كانت أقرب طريقا وأتمّ نتيجة فإتيانها لها أقوى وآكد ؛ ولذلك ترى الكتاب والسنة يقصدان هذا المقصد ، ويدعوان إلى هذا المدعى بأي لسان أمكن ))[5] و واضح الفرق بين هذا المنهج و المنهج المخالف للنصوص و الذي يقصر دخول الجنة و النجاة من النار على فئة قليلة هي الشيعة فقط أو ربما بعض الشيعة .

[1] راجع لمزيد من التوضيح الدرس 43 من الدروس الصوتية في العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري

[2] رسالة الولاية ص37

[3] سورة آل عمران الآية 195

[4] سورة العنكبوت الآية 69

[5] الإنسان و العقيدة نسخة الكترونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق