الأحد، 17 يوليو 2011

من قيم التنوير الإسلامية - مقال للأستاذ علي العريان

عندما سئل الفيلسوف الألماني كانت عن "التنوير" ما هو؟ أجاب بأنه "خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد" ثم عرف القصور العقلي بأنه "التبعية للآخرين و عدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا" ، إن كان هذا هو جوهر التنوير الأوربي فإنه يمكننا تلمسه واضحا جليا في آيات القرآن الكريم ، نعم لا أدعي أن قيم التنوير هي قيم الإسلام فهنالك اختلاف جلي بينهما إلا أن هذه الدعوة أي دعوة الإنسان إلى الاستقلالية الفكرية و النأي عن ثقافة القطيع نجدها واضحة وضوحا تاما في الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة ، يمكنني إحصاء ما يفوق الثلاث عشرة آية في القرآن الكريم تنهى عن التقليد الأعمى للآباء و الزعماء و تأمر بالبناء الحر للقناعات و الأفكار و العقائد الدينية و غيرها بل و تنهى عن التبعية العمياء في مقام العمل و السلوك أيضا منها قوله تعالى : (( و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون . و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون )) البقرة 170-171 (أيضا انظر الزخرف 22 ، الأنبياء 51 ، الشعراء 69 ، المائدة 104، الأعراف 28، لقمان 21، سبأ 43، الأحزاب 68، الصافات 21) . يوضح القرآن الكريم الخلفية السيكولوجية لثقافة القطيع وهي حالة لا يكاد يخلو منها عصر من عصور البشرية ، فكما نرى اليوم القبلية و القرابة تطغى على المنطق و العقل ، نرى ذلك أيضا في الأمم السابقة فعن إمامنا جعفر الصادق (ع) في حديث له عن قوم نوح (ع) معلقا على الآية المباركة (( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث و يعوق ونسرا )) قال (ع): (( كانوا يعبدون الله عز و جل فماتوا فضج قومهم وشق ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله فقال لهم "أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم و تأنسون بهم و تعبدون الله" فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز و جل وينظرون إلى تلك الأصنام ، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن و نشأ أولادهم فقالوا "إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز وجل فذلك قول الله تبارك وتعالى "ولا تذرن ودا ولا سواعا" الآية )) ، و يمكننا تلمس هذا المنطق الجاهلي في التاريخ الإسلامي أيضا فعندما أمر رسول الله (ص) المسلمين بولاية أمير المؤمنين (ع) و قال لهم كما روي عن زين العابدين (ع) (( يا عباد الله اتبعوا أخي ووصيي علي بن أبي طالب – عليه السلام – بأمر الله ولا تكونوا كالذين اتخذوا أربابا من دون الله تقليدا لجهال آبائهم الكافرين بالله ، فإن المقلد ممن لا يعلم دين الله يبوء بغضب من الله و يكون مع أسراء إبليس لعنه الله .. الخ )) تفسير الإمام العسكري ص583. و لكننا نرى أن تقديس بعض المسلمين لآبائهم كان أعظم من تقديسهم للإسلام حتى إذا ما اصطفوا لقتال الحسين (ع) أعلنوها صراحة (( إنما نقاتلك بغضا منا لأبيك )) الذي قتل آباءهم المشركين ، و هذا المنطق الجاهلي واضح في أبيات قالها يزيد بن معاوية شامتا بقتل الحسين (ع) وهي:

ليت أشياخي ببدر شهدوا .. جزع الخزرج من وقع الأسل


لأهلوا و استهلوا فرحا .. و لقالوا يا يزيد لا تشل


فجزيناه ببدر مثلا .. و أقمنا مثل بدر فاعتدل


لست من خندف إن لم أنتقم .. من بني أحمد ما كان فعل


و عند رجوعنا للروايات الشريفة نجد أن ذم تقليد الآباء و الزعماء تجاوز أمر الدين إلى أمور الدنيا أيضا فعن معمر بن خلاد قال: إن أبا الحسن (ع) اشترى دارا و أمر مولى له أن يتحول إليها و قال: إن منزلك ضيق . فقال: قد أحدث هذه الدار أبي . فقال أبو الحسن (ع) : (( إن كان أبوك أحمق ينبغي أن تكون مثله )) الكافي ج6 ص525. كم يثير استغرابي ما يقوله المهاتما غاندي عن عبادة البقرة ، فمع أن هذا الرجل يعتبر قائدا سياسيا تاريخيا ومثقفا و كان قد درس القانون في بريطانيا و ذاع صيته في العالم حتى لقب بأب الأمة الهندية و يعتبر اليوم ميلاده عطلة رسمية في الهند إلا أننا نجده يقول عن ديانته الموروثة (( إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى العالم ، وهي إحساس برباط الأخوة بين الإنسان وبين الحيوان و الفكر الهندي يعتقد أن البقرة هي أم الإنسان وهي كذلك في الحقيقة ، إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي وهي خير حماية للهند ، عندما أرى البقرة لا أعدني أرى حيوانا لأني أعبد البقرة و سأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع ، و أمي البقرة تفضل أمي الحقيقية من عدة وجوه فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين و تتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا ، و لكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائما ولا تتطلب منا شيئا مقابل ذلك سوى الطعام العادي ، و عندما تمرض الأم الحقيقية تتكلف جنازتها مبالغ طائلة و عندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهي حية لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم و الجلد والقرن ، أنا لا أقول هذا لأقلل من قيمة الأم ، و لكن لأبين السبب الذي دعاني لعبادة البقرة ، إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة و الإجلال و أنا أعد نفسي واحدا من هؤلاء الملايين )) عن أديان الهندي الكبرى لأحمد شلبي ص36. هذا الكلام قد يضحك بعض أفراد مجتمعنا لكنه يثير مجموعة من التساؤلات أهمها .. هل اتخذنا نحن عقائد و قناعات تضحك أولئك الذين يعيشون في مجتمعات أخرى دون أن ننتبه إلى خطئها و سذاجتها؟ و إذا انتبه الإنسان الواعي إلى هذه النقطة عرف مدى أهمية دعوة القرآن إلى تمحيص العقيدة و إقامتها على أساس الدليل و البرهان ، و هكذا نعرف أهمية ما دعا إليه الفيلسوف ديكارت من تمحيص الأفكار و التشكيك المنهجي فيها حتى الوصول إلى اليقين خصوصا تلك الأفكار التي تتبناها السلطة السياسية و السلطة الدينية و المجتمع مما يكون له تأثير قوي في نفس المتلقي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق