الجمعة، 31 أغسطس 2012

العم انتيبا المسيحي والسيد موسى الصدر .. موقف رائع يثير دموع الوفاء


الأسس العقلية للتعددية الدينية - بحث كتبه علي العريان

 

* تمهيد:

 

بعدما تبينت للقارئ الكريم المنطلقات النقلية التي ينطلق منها مثبتوا التعددية الدينية بقي أن نناقش المنطلقات العقلية و الفلسفية التي ينطلق منها بعض دعاة التعددية الدينية ، وتعتبر جذور الأسس التي تبتني عليها نظريات التعددية الدينية ذات الصبغة العقلية و التي يجب بحثها أولا كامنة في نظرية المعرفة أو ما يعرف ببحث الابستمولوجيا ، و من هنا يصير لزاما على الباحث أن يحقق هذه المباني في محلها من علم الفلسفة ، و بالتالي وجب أن ننصح القارئ الكريم بأن يقوم بدراسة عميقة لنظرية المعرفة و وجهة نظر علماء الإسلام فيها إضافة إلى دراسة مباحث التوحيد قبل الخوض في هذا الباب ، و أيضا يجب أن أشير إلى أن بحث التعددية الدينية من البحوث المعاصرة التي كثر فيها الأخذ و الرد و في هذا المقام سنركز على الإشكالية كما يمكن أن تظهر من الفكر الشيعي الإسلامي وقد نضطر إلى الإشارة إلى بعض التقريبات و الأمثلة و الأفكار التي طرحها غير الإسلاميين لأهميتها ، بعبارة أوضح سأشير في هذا البحث إلى إشكالية التشبيه و التعطيل و نسبية التوحيد المأخوذة من النصوص الشيعية و التي تعتبر من أهم الإشكاليات بين مدرسة الحكمة المتعالية و المدرسة الشيخية و التبعات الطبيعية لهذه الإشكالية في مسألة التعددية الدينية ، و قد التفت إلى هذه الإشكالية قبل تعرفي على جون هيك فوجدته ينطلق من نفس المنطلق لذا سأركز على نظرية هيك في التعددية و انطلاقه من إشكالية التشبيه و التعطيل و أبين أن الخلاف بين الشيخية و الحكمة المتعالية لا يخرج عن كونه مصداقا لما طرحه هيك من إشكالية ، ثم سأقرر مقاربة العلامة الطباطبائي (رحمه الله) المنطلقة من علم الأصول وروايات أهل البيت (ع) حول التعددية ، ثم سأناقش الفكرة الانثروبولوجية في تطور الأديان مستعينا بجهود الشيخ المطهري في كتاب النبوة في رده عليها ، و أخيرا سأشير إلى أفكار الصوفيين حول التعددية الدينية و خصوصا الشيخ محيي الدين بن عربي باعتباره رمزا من رموز العرفان الشيعي كما يعتقد مؤيدوه ، و في هذا الإطار نجد ثلاثة مواضيع رئيسية يطرحها الشيخ في الفصوص و غيرها من كتبه أولاها فكرة المجالي الإلهية و ثانيها التمييز بين التجربة القلبية و إمكان وقوع الخطأ فيها و ثالثها التمييز بين الدين عند الله و الدين عند الناس ، إلا أنني سأكتفي بالإشارة إلى هذه الأفكار دون الخوض في مناقشتها لما يتطلبه ذلك من إسهاب و تخصص ، أخيرا أشير إلى أن تقسيم البحث إلى نقلي و عقلي ليس تقسيما دقيقا كل الدقة و إنما تحريت فيه التسهيل إلى حد ما .

 

* بعض جهود علماء المنطقة والعالم و بحوثهم في التعددية الدينية

 

يمكن القول بأن إشكالية التعددية الدينية اصطدمت بالفكر الشيعي التقليدي من خلال المفكرين الإيرانيين المتأثرين بالغرب ، كما وضعت هذه الإشكالية بصمة واضحة في السياسة الإيرانية و ما فيها من صراع دائر بين المحافظين و الإصلاحيين ، وتعد أبرز مصنفات التيار التقليدي في الحوزة العلمية هي الكتاب الذي كتبه آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي حول التعددية الدينية ، و المقال الذي نشره آية الله الشيخ جعفر السبحاني في كتابه "رسائل ومقالات" ، و في الجانب الآخر هنالك كتابات عبد الكريم سروش و بالتحديد كتاب "الصرط المستقيمة" و كتابات الفيلسوف الإيراني حسين نصر ، إضافة إلى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي و بالتحديد كتابه "خوارق اللاشعور" ، و كتابات الدكتور وجيه قانصو و منها ما عتمدنا عليه كثيرا في هذا البحث ، إضافة إلى كتاب المفكر الإيراني حيدر حب الله بعنوان "بين الطريق المستقيم و الطرق المستقيمة" .

عالميا يعد جون هيك رجل الدين الانكليزي من أهم حملة راية التعددية الدينية و المنظرين لها و قد طرح مجموعة من البحوث و الكتب في هذا المجال ، و غير هيك هنالك الكثيرون في الغرب ممن يحمل هذه الراية كالأكاديمية الأمريكية ديانا إيك التي طرحت عدة بحوث في هذا المضمار منها "أمريكا المتدينة الجديدة" .

 

* إشكالية التشبيه و التعطيل و نسبية التوحيد و علاقة هاذين المبحثين بفكرة التعددية الدينية:

 

هل يمكننا معرفة ذات الله و حقيقته؟ و إذا كانت معرفتها ممكنة فما هو مقدار المعرفة الممكنة؟ و إذا لم تكن معرفتها ممكنة هل يعني ذلك انغلاق باب معرفة الله و بالتالي بطلان الدين لأن الأساس الذي يبتني عليه الدين و هو معرفة الله غير ممكن ؟ و إذا كان هنالك مقدار من معرفة ذات الله ممكن دون الإحاطة بها فهل هذا المقدار متساو عند الجميع أم أنه متفاوت بين شخص و آخر حسب مقامه و قابليته؟

سأناقش هنا ثلاث أطروحات طرحها علماء الإمامية في حل هذه الإشكالية ، الأطروحة الأولى تبنتها مدرسة الحكمة المتعالية التي أسسها صدر المتألهين الشيرازي ، و الأطروحة الثانية هي أطروحة مدرسة الشيخ الأوحد أحمد الأحسائي ، و الأطروحة الثالثة هي تلك المنسوبة إلى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليهم أجمعين) ، ثم سأشير إجمالا إلى الإشكالية خارج المذهب الجعفري.

 

- عدم إمكانية معرفة كنه ذات الله تعالى:

 

تتفق هذه الأطروحات جميعا على أن معرفة كنه ذات الله تعالى غير ممكنة و أوضح رواية يستدلون بها على ذلك ما روي عن المعصوم (ع) أنه قال : (( هل سمي – أي الله عز و جل – عالما قادرا إلا لأنه وهب العلم للعلماء و القدرة للقادرين فكلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله زبانيتين كما لها فإنها تتصور أن عدمهما نقص لمن لا تكونان له ))[1] و بالتالي جاءت التصريحات على عدم إمكانية معرفة كنه الذات في كلمات جميع الأعلام من مختلف المدارس ، فمن مدرسة الحكمة المتعالية نجد الشيخ المطهري يقول : (( .. و ما يسعى إليه القرآن في هذا المضمار هو أن يسجل بأن الله أسمى و أرفع من تلك الأفكار و التصورات الموجودة حول الله ، بل هو أرفع و أنزه حتى من حد التوصيف .. الخ ))[2] ثم يستشهد بالرواية الأولى السابقة ، و كذلك يقول السيد كمال الحيدري في كتاب "التوحيد" : (( من النتائج الأخرى التي تثبت على التوحيد الذاتي ببعديه الواحدي و الأحدي استحالة معرفة الله بالكنه ، إذ لا يمكن أن نقف على ذاته و كنهه و حقيقتته "يا من لا يعرف ما هو إلا هو" فحيث ثبت أن الله سبحانه غير متناه و ما عداه متناه فمن المحال أن يحيط المتناهي بغير المتناهي ، و أنى له ذلك! فلو أن الإنسان اكتنه حقيقة شيء ووقف على كنهه فقد أحاط به ولو كانت تلك إحاطة علمية ، و لما كان الواجب سبحانه غير متناه ، فمن المستحيل للإنسان أن يكتنهه ، حيث لا يمكن للمتناهي – كما مر – أن يحيط به علما ، و في هذا الاتجاه راح القرآن الكريم و المأثور من حديث النبي و أهل بيته (ص) يحذران الإنسان من الانزلاق إلى هذا الوادي السحيق ، لما يفضي إليه من تيه و ضياع وضلال )) ثم يسوق النصوص الدالة على ذلك ، و من مدرسة الشيخ الأحسائي يقول السيد كاظم الرشتي (قده) في كتابه "أصول العقائد" ما نصه : (( إياك ثم إياك أن تدعي معرفة علم الله و معرفة قدرته و حياته و سمعه و بصره و كرمه إذ لا فرق بينها و بين ذاته ، كما أن معرفة الذات محال فكذلك صفاته الذاتية ، فمن عرف تعلق علمه تعالى بالمعلومات و أدرك كيفيته عرف الذات و من ادعى ذلك فهو كافر ))[3].

و لو رجعنا إلى الفيلسوف الانكليزي جون هيك لرأينا هذه الفكرة – أي استحالة إدراك كنه الذات الإلهية – حاضرة في استدلاله على نظريته بقوة فهو يبين أن استحالة اكتناه الذات فكرة سائدة عند كثير من الملل و الأديان فالهندوسية تعتقد بما يسمى نرجونا برهمان أي برهمان بدون صفات ووراء أي تصنيف أو استيعاب بشريين فمن الأقوال المشهورة في الاوبنشاد (( هناك حيث لا تذهب العين إلى أي مكان ولا ينعقد الكلام ولا يتحقق الفهم نتكلم عن برهمان عن شكل لا مفكر فيه )) ، و في الماهايانا البوذية دارماتا دارماكايا لا يمكن إدراكه ، و في النصوص الطاوية تمييز بين الطاو الأزلي و الطاو الذي يوصف ، فالأزلي فوق الوصف و التصور ، و في اليهودية الصوفية (الكابالا) لا يمكن أن يدرك جوهر الله ، ثم إن هيك ينقل نصوصا عديدة من مفكري النصارى استشهادا على ذلك ، فغريغوريوس النيصي يقول : (( بساطة الإيمان تعني أن الله لا يمكن إدراكه أو استيعابه بأي تعبير أو فكرة أو نشاط ذهني ، و هذا لا يقتصر على البشر و الملائكة بل يطال كل مخلوق ذكي ، فالله لا يمكن التفكير فيه أو التعبير عنه ، و الاسم الوحيد الذي يحمله هو أنه الكائن الواحد الذي فوق كل اسم )) و يتابع اوغسطينوس هذا التقليد بالقول (( إن الله يتعالى حتى على الذهن )) و يقول توما الأكويني (( مادة الألوهة تتجاوز كل شكل يمكن أن يصل إليها فكرنا )) و يقول (( العلة الأولى تتجاوز الفهم و الخطاب البشري )) و (( أفضل من يعرف الله الذي يعترف بأنه مهما فكر و قال في الله فسيبقى دون أن يصل إلى ما هو عليه )) و يعرف انسلم الله بأنه (( أعظم مما يمكن التفكير فيه ، فإذا ظننا أننا نعلم ما هو فإن ما نعلمه ليس الله )) و استشهد أيضا بأقوال آخرين كالمتصوف مايستر إيكهارت و يوحنا الصليب وبول تيليش و جوردن كوفمان و كارل بارت[4] .

يخلص جون هيك كما ينقل عنه الدكتور وجيه قانصو إلى أن (( أديان العالم الكبرى تتفق فيما بينها على أن الحقيقة الإلهية تقبع في منطقة الغموض المطبق وراء أية معرفة أو إدراك ممكن الذي يسمى النيرجونا اللانهائية المتعالية ، أو الألوهة القصوى أو الله فوق إله الأديان . إنه الحق الذي يدل لا تناهيه الذاتي على أنه ليس شيئا أو جزءا من الكون يوجد إلى جنب الأشياء الأخرى ، و ليس كائنا يدرج ضمن نوع أو جنس معين ، إنه الكائن الذي لا يمكن تعريفه أو الإحاطة به ، ولا يمكن رسم حدود لطبيعته ، ولا يمكن مساواته مع أي شيء معرف (identified) أو مختبر (experienced) . مطلقية الحق تعني أن التوصيف الوحيد الذي نصفه به هو أنه لا متناه ولا محدود ، أي توصيف سلبي ينفي أي توصيف إيجابي و يتعداه ، لأن كل تعريف لله و أي شرح إيجابي لكينونته الداخلية (Inner being) يكون تحديدا خارجا عن ذات الله ، فكل ما تنسبه أذهاننا أو أفكارنا إلى الله إنما هي صور جزئية عنه و تعبير عن كائن محدود ، لا تناهي الذات الإلهية يعني عدم إمكان معرفة الله مع إمكان معرفة ما ليس هو ))[5]

 

- العجز عن إدراك الله تعالى ووصفه

 

تبين أن الإنسان المحدود بحدود العقل و المادة لا يمكنه أن يحيط باللامتناه و اللامحدود ، فعلى سبيل المثال يعتبر وجود الله تعالى منزها عن المكان و الزمان و لا يستطيع العقل البشري أن يتصور أي صورة منزهة عن المكان و الزمان ، لقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذه الحقيقة كالمروية عن أمير المؤمنين (ع) (( لا يشمل بحد ولا يحسب بعد و إنما تحد الأدوات أنفسها و تشير الآلات إلى نظائرها ))[6] ، يذكر التاريخ أن الديانة اليونانية القديمة كانت تلبس الآلهة صفات البشر من الحب و الكراهية و الخصام و الحقد فهب بعض المفكرين و من أقدمهم زينوفان ليدحضوا هذه الفكرة حيث يقول : (( إن الناس هم الذين استحدثوا الآلهة و خلعوا عليها هيأتهم و عواطفهم و لغتهم ، ولو كان في وسع الثيران أن ترسم لنا صورة لآلهتها لصورتها على مثالها )) و قد حارب فلاسفة اليونان نزعة التشبيه anthropomorphism بضراوة[7] .

إذن فالعقلاء متفقون على أن الله في ذاته لا يمكن إدراكه كما لا يجوز تشبيهه بخلقه ، فكلما تصوره المخلوق في ذهنه في أدق معانيه هو مخلوق مثله مردود إليه ، و السؤال الذي يطرح : كيف وصفت الكتب السماوية و النصوص الدينية الله تعالى بأنه عالم حي سميع بصير قديم قدير و غير هذه مما يعرف بالصفات الذاتي؟ الإنسان لم يدرك مفاهيم هذه الصفات إلا بعدما نظر في الخلق و رأى أن هذه أكمل صفات الخلق فنسبها لله تعالى؟ بل إن صفة الوجود نفسها عندما نقول "الله موجود" صفة لم ندركها إلا من خلال ملاحظتنا للخلق فنحن عندما شاهدنا الزهرة و الشجرة و السماء و الأرض و الجبال و الإنسان و الحيوان رأينا أنها جميعا تتصف بوصف بديهي هو الوجود فكلها موجودة و لكن كيف جاز لنا أن نسحب هذه الصفة على الذات الإلهية إن كانت هذه الذات عصية على الإدراك كما بينا؟ واضح أن تنزيه الإله عن أن يحيط به الذهن البشري يؤدي إلى نفي صفة الوجود عنه لأنها صفة ينتزعها الذهن البشري مما يؤدي إلى نفيها عنه أو التوقف في إثباتها و بالتالي الإلحاد و إنكار وجود الله تعالى أو اللاأدرية و التوقف في إثبات وجوده و بالتالي إبطال الدين على كافة الاحتمالات؟

 

- مقدار المعرفة الممكنة

 

كما يتفق كثير من أصحاب الملل على أن معرفة حقيقة و كنه الذات الإلهية ليس ممكنا ، يتفقون على أن نوعا من أنواع معرفة الله تعالى ممكن ، و إلا لانغلق باب معرفة الله و بالتالي باب الأديان جميعا ، يمكنني أن أقول بأن التوحيد هو نقطة معينة بين ثلاثة أضلاع لمثلث ، الضلع الأول هو التشبيه و الضلع الثاني هو التعطيل و الضلع الثالث هو انغلاق باب المعرفة ، لا بد للباحث أن يجد النقطة التي تبعد مسافة مناسبة عن هذه الأضلاع الثلاثة لكي يكون موحدا و بيان هذا البحث ليس محل الكلام.

فالسؤال هنا ما هو هذا المقدار الممكن من معرفة الله تعالى ؟ يقول في ذلك أحد شراح مدرسة الحكمة المتعالية و هو السيد كمال الحيدري (( يحدد بعض المحققين ثغور المعرفة الممكنة بأنها معرفة الله بوجه ، لا من جميع الوجوه لأنها إذا كانت من جميع الوجوه صارت اكتناهية ، و هي ممتنعة كما أنها لو أسقطت الوجه الممكن لهوت إلى التعطيل ، في تعقيب على حديث الإمام الصادق مع الزنديق – حيث قول الإمام (ع) "لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا" – يقول الشعراني : "معنى الحديث أنا لم نكلف بعبادة شيء لم ندركه أصلا بل بشيء ندركه بوجه و نجهل حقيقته . و هذا نظير النفس فإن وجوده معلوم و إلا لم يكن فرق بين الحي و الميت ، و لكن حقيقته مجهولة لأكثر الناس ، و كثير من الأدوية نعرفها بخاصتها في العلاج و آثارها ولا نعرف حقايقها ، و كذلك نعرف الله بوجه ولا نعرفه بكل الوجوه" ))[8] و في هذا الكلام تركيب واضح للذات من وجوه و أن بعض هذه الوجوه يمكن إدراكه دون الآخر و التركيب يلزم الاحتياج كما تقرر في محله و هو مخالف لما ثبت من بساطة الذات الإلهية ، فإن قيل بأن الكلام في مفهومنا عن الذات لا في مصداقها ، أقل إذن ليس هنالك ثمة فرق بين هذا المنحى و خصومه المتهمين بالتعطيل ، فالمفهوم ليس هو سوى الصورة الذهنية المخلوقة المردودة إلينا بنص رواية أمير المؤمنين (ع) ، و بالتالي نجد أن مدرسة الشيخ الأوحد أحمد الأحسائي (أعلى الله مقامه) رفضت هذه الفكرة و بينت أن الطريق إلى معرفة الذات الإلهية مسدود و الطلب مردود و أن غاية ما يمكن للإنسان أن يعرفه هو مخلوقات الله تعالى و التي تدل على الله سبحانه دلالة إشارة لا دلالة تكشف ، و هذه الإشارة ليست إشارة مكانية و إنما إشارة قلبية ، و بالتالي فدور العقل هو أن يضعنا على أولى عتبات القلب الذي يعبر عنه الحديث القدسي (( ما وسعني أرضي ولا سمائي و لكن وسعني قلب عبدي المؤمن )) ، و بالتالي فمعرفة الذات الإلهية ممتنعة حتى بالنسبة إلى أفضل الخلق و هو الحقيقة المحمدية و غاية ما يمكن للحقيقة المحمدية أن تدركها هو ذاتها لا ذات الله و قد تجلى الله تعالى لكل مخلوق فيه بلا وحدة وجود (( بل تجلى لها بها وبها امتنع عنها )) (( من عرف نفسه فقد عرف ربه )) (( أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه )) يقول السيد كاظم الرشتي (قدس سره) : (( و الكمالات التي تثبتها لله سبحانه هي التي نراها نحن كمالا ، و الفاقد لها ناقصا ، لا أنه في الواقع و نفس الأمر الواجب تعالى بذلك الكمال حاشا و كلا ، كيف نحكم باتصافه سبحانه بشيء و الحال أنه لا نعرفه بوجه من الوجوه وطور من الأطوار ، مثلنا مثل النملة تثبت لله زبانيتين حيث تراهما كمالا في نفسها و فاقدهما ناقص ، فالذي هو أتم كمال عند نفسها أثبتته لخالقها و صانعها و لو أن صانعها منزه عما وصفته به و موجب نقص عندنا ، يجب علينا أن ننزه الواجب عنها ، فمثلها عند من هو أعلم منا و أعرف و أقرب من المبدأ مثل النملة عندنا ، و لما لم يكلفنا الله بما لا طاقة لنا به ولا نقدر على معرفة الذات حتى نعرف الصفة اللائقة به قبل منا ما وصفناه به و علمناه كمالا في أنفسنا .. إلى أن قال .. قال تعالى شأنه "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصون" يعني : أن الله منزه و مبرأ عما وصفه به المشركون و الكفار ، إذ وصفهم لا يليق بجناب قدسه وجلال عزه و عظمته ، إلا وصف عباده المخلصين لأن وصفهم بطور الفطرة السليمة و غاية بذل الجهد في المعرفة و أنا أجل و أعظم من أن أكلف بما لا يطاق ، ولما نفى الله سبحانه وصف المشركين و أثبت وصف المخلصين ، و توهم من ذلك أن نفيه ربما لكون وصف المشرك بخلاف الواقع و إثباته لكونه موافقا للواقع و نفس الأمر و الحقيقة ، أزال هذا التوهم بقوله "سبحان ربك رب العزة عما يصفون" يعني: أن هذا التوهم فاسد ، و أن ربك رب العزة و الجلالة منزه و مبرأ عن جميع ما يصفه عباده المخلصون وملائكته المقربون و أنبياؤه المرسلون حتى نبينا محمد المصطفى و أوصيائه الطاهرين "صلوات الله عليهم أجمعين" لأن جميع الخلق مشتركين في عدم معرفتهم بأن صانعهم ما هو و أي شيء ، إنما يرون الآثار و يستدلون بها على المؤثر ، فلا توصل الآثار إلى حقيقته و كيفيته و كميته أبدا ، إن قلت أن الله وصف نفسه لنا و هو عالم بحقيقة نفسه و ذاته فيكون وصفه لنا وصف النفس الأمري؟ قلنا: إن الله سبحانه عالم بذاته و حقيقته و قادر على وصف نفسه و ذاته لكن لا يكلف الخلق إلا بما يتمكنون من فهمه و إدراكه و تعقله .. الخ ))[9] و بالتالي فهم يرون أن الألفاظ المختلفة التي نصف بها الله تعالى بصفاته الذاتية فنقول عالم حي قدير سميع بصير هي ألفاظ مترادفة لا نفهم معناها و كلها تعني الذات البات الممتنع عن المعرفة الكامل المطلق يقول السيد الرشتي : (( فالصفات الذاتية قديمة هي عين الذات قل علم مثلا أو قل ذات لا فرق بينهما كالألفاظ المترادفة كالسيف و الصارم مثلا ))[10].

 

- النزاع بين الإمامية في المعرفة الممكنة و بعض انعكاساته

 

لقد أدى هذا الخلاف – و الذي يعتبر بحق أحد مواطن الافتراق الرئيسية في الفكر الشيعي و خصوصا بين مدرسة الشيخ الأوحد و الملا صدرا – إلى العديد من المناوشات الساخنة و التداعيات العقائدية في مسائل أخرى من العقيدة ، فحيث انغلق باب معرفة الله تعالى إلا من طريق آياته عند مدرسة الشيخ الأوحد صار البحث في الآيات هو مركز الدراسة و التوجه أثناء العبادة و بالتحديد أعظم هذه الآيات و هم محمد و آل محمد (ص) بينما صار هم أتباع مدرسة العرفان و الحكمة المتعالية هو الفناء في الذات الإلهية ، و هنا أنقل نموذجين لهذا النزاع ، النموذج الأول ما ينقله السيد الرشتي حيث يقول : (( فقد وقع بيني و بين واحد من الفضلاء مناظرة يعجبني نقلها و هي: أنه بعدما جرى بيني و بينه كلام كثير انجر الكلام إلى مسألة العلم ، و كانت المسألة بيننا أن الأعيان الثابتة هل هي مجهولة أم لا؟ فقال لي : كيف علم الله سبحانه إذا علم المعلومات فالعلم لا يكون لا بمعلوم؟ قلت له: إن تسأل عن علم الذات أي العلم الذي هو من صفات الذات فلا أعلمه بوجه من الوجوه ولا يمكن لي التكلم فيه أبدا ، قولك أن العلم لا يكون بلا معلوم في الإمكان صحيح ، العلم يحتاج إلى معلوم ، و أما في الأزل فلا أعلم ، و الذي أعلم أنه واحد و ليس معه في رتبة ذاته أحد ولا شيء ، كان الله و لم يكن معه شيء ، فقال لي: الفرق بيننا و بينكم أنا نعلم و مطلعون على كيفية علمه ووجه تعلقه بالمعلوم و أنتم لا تعلمون ، و ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، قلت له: قولك حسن ، و الفرق الذي بينته أحسن ، نحن نقر و نعترف بجهلنا و نعلم أننا لا نعلم ، فجهلنا جهل بسيط ، و أنتم لا تعلمون ولا تعلمون أنكم لا تعلمون ، فجهلكم جهل مركب ، و يكفينا فخرا و فرقا أننا نتبع نبينا (ص) و نقول كما قال "ما عرفناك حق معرفتك" و أنتم تتبعون المخالف و أمثاله حيث ادعيتم معرفة الذات و إدراك العلم الذي هو الذات ، الحاصل الحق في المسألة هو الذي قال أمير المؤمنين (ع) "الطريق مسدود و الطلب مردود دليله آياته ووجوده إثباته" و قال – عز من قائل – "سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" .. الخ ))[11] و في الجانب الآخر يقول صادق حسن زاده مؤلف كتاب "أسوة العرفاء" تحت عنوان "الشيخية من وجهة نظر السيد القاضي" : (( يقول محيي الدين بن عربي و العرفاء بالله إن معرفة الله ممكنة للإنسان و إن مقام الإنسان و درجته و شخصيته هي التي تستطيع طي هذا الدرب و نيل لقاء المحبوب ، كما أن لقاءه تعالى هو الفناء في ذاته ، لأن عدم الفناء و المحو فيه يعني عدم حصول معرفته ، أما في حال تحقق الفناء فليس هناك غير الله من شيء باق ليعرف الله و من ثم فإن الله سبحانه هو الذي يعرف نفسه . و يقول الشيخية : إن معرفة الحق تعالى أمر محال ، فالممكن هو معرفة أسمائه و صفاته ، و ذاك أمر لا يشمل عامة الناس ، بل يختص بالكاملين منهم فحسب ، لذا فإن اسم الرازق و الخالق و المحيي و المميت و السميع و البصير و العليم و القادر و الحي و ما ينشأ منها يمثل حقيقة الأئمة المعصومين (ع) والذين هم في مقام غير مقام الذات ، كما أن غاية سير كل فرد من أفراد البشر هو الفناء في ذلك الاسم الذي يفضله و يسمو عليه ، و من هنا فإن مقام و درجات الناس تختلف بحسب اختلاف استعدادهم في الفناء في الأسماء الكلية أو الجزئية ، فهم في النهاية فانون بأجمعهم في الأسماء و الصفات ، كما أن حقيقة الأسماء و الصفات الإلهية في المراتب العالية تتجسد في تلك الولاية الكلية المتحققة في المعصومين ، و الإنسان الكامل هو الذي يستطيع أن يجد الطريق إليها و يكتسب معرفتها . و توجد في هذه النظرية إشكالات مهمة هي (أولا) إنها توصد سبيل المعرفة بالخالق حيث إن الله تعالى خلق السماء و الأرض و الأفلاك تمهيدا لمعرفة البشر و (ثانيا) إن هذه النظرية تجسد حقيقة معنى التفويض ، أي إنها تمثل أجلى صوره ، فالمفوضة يعتقدون بأن الله سبحانه خلق العالم فأوكل تدبيره إلى الأئمة ، أما هؤلاء الشيخية فيقولون : ليس تدبير العالم وحده في يدهم فحسب ، بل إن خالق العالم و ابتداعه و الرزق و الإحياء و الإماتة و السلامة و المرض هي بأجمعها في أيديهم . و هذا الوجه هو أقبح ما يمكن تصوره في التفويض ، حيث إنه يمثل عزلا لله سبحانه من جميع الأمور و الجهات و تخليته في زاوية من العالم بدون أثر ولا مسمى ، و إبطالا لفعله و هيمنته ، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا و (ثالثا) إنه من أجلى أقسام الشرك و أظهرها ، فقد اعتبر أن هناك مؤثرا غير الله في جميع الموجودات و (رابعا) إنه من أظهر أقسام الارتفاع و الغلو لأنه لا يكتفي باعتبار المعصومين المصدر الوحيد للأمور ، بل إن لم يشرك الله معهم في ذلك فقد أوكل هؤلاء أمر العالم بشكل مطلق إلى الأئمة و اكتفوا بذكر الله على ألسنتهم فهم في الحقيقة يعدون الله سبحانه أجوف بلا معنى ولا مغزى (خامسا) إن عبادتهم انصبت على هذه الذوات المقدسة فقط فهم يسألون منهم حاجاتهم و يتوسلون إليهم و يأملون بهم وحدهم غافلين بل متناسين ورافضين الله الواحد القهار الذي خلقهم والآخرين ، و الذي له الولاية عليهم كل آن و (سادسا) أي دليل قائم على أن معرفة الله مختصة بالأئمة المعصومين لا تتعداهم ؟ فهؤلاء بشر و سائر الناس بشر أيضا و ما أمكن لهؤلاء عقلا هو ممكن لغيرهم أيضا ، كما ينبغي شرعا – باعتبارهم أئمة – تمكن المأموم من إدراكهم في العمل و الوصول و إلا لما كان للإمامة من معنى . و كان سماحة وصي المرحوم القاضي المرحوم آية الله الحاج الشيخ عباس القوجاني – أعلى الله درجاته – يقول : قلت يوما لسماحة السيد (الأستاذ القاضي) : ما هو الإشكال في عقيدة الشيخية؟! فهم من أهل العبادة و أهل الولاية أيضا ، ناهيك عن أمر إظهارهم المحبة و الإخلاص للأئمة (ع) كما نفعل ، كما أن فقههم فقه الشيعة ، يضاف إلى ذلك عدهم كتب الأخبار معتبرة و عملهم برواياتنا و إجمالا فإننا مهما بحثنا عن إشكال في نهجهم الأخلاقي و العملي لم نجد ما يقدح فيهم . أجاب المرحوم القاضي : اجلب "شرح الزيارة" للشيخ أحمد الأحسائي غدا! فأحضرت له "شرح الزيارة" للشيخ الأحسائي في اليوم التالي ، فقال : اقرأ ، فقرأت فيها ما يقرب من ساعة كاملة ، ثم قال: يكفي هذا! أتبين لك الآن ما هو الإشكال فيهم؟ إن الإشكال يكمن في عقيدتهم. إذن هذا الشيخ يحاول في كتابه هذا إثبات أن ذات الله سبحانه ليس لها اسم ولا رسم فهي فوق صفاته و أسمائه و أن ما يتحقق في العالم إنما يتحقق بالأسماء و الصفات ، و أنها هي المبدئة لخلق العالم و خلق آدم و المؤثرة في تدبير شؤون هذا العالم في بقاء الحياة و دوامها ، فذلك الله ليس له اتحاد مع الصفات و الأسماء ، بل إنها تعمل بصورة مستقلة ، لذا فإن عبادة الإنسان ستكون موجهة لأسماء الله و صفاته ، لا إلى ذاته التي لا يوصف ولا يتسع لها الوهم و الخيال. و من ثم فإن الشيخ الأحسائي يعتبر الله سبحانه مفهوما فارغا بلا تأثير و خارجا عن الأسماء و الصفات و هذا عين الشرك . أما العارف فيقول بأن ذات الله أسمى من الوصف و أعلى من الخيال و الوهم ، و إن لها السيطرة و الهيمنة على الأسماء و الصفات ، و إن جميع الأسماء و الصفات موجودة في ذاته القدسية دون أن يكون لها حدود وجودية ولا تعينات ولا تقيدات كما أن جميع الصفات و الأسماء ترجع إلى الذات و أن المقصد و المبدأ و المنتهى هي ذاته ، كل ما في الأمر أن ذلك يتم عن طريق الأسماء و الصفات ، و لذا فإننا نشير إلى تلك الذات بقولنا "وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض" ولو لم يكن ذلك معلوما لدينا – انتهى كلام سماحة السيد القاضي ))[12].

 

- المعرفة الممكنة في الأديان الأخرى:

 

من مقدمات جون هيك الاستدلالية على نظريته في التعددية الدينية التفريق الحاصل في مختلف الأديان بين حقيقة الذات الإلهية التي لا يمكن إدراكها و بين تجليات الله تعالى لخلقه و التي يمكنهم أن يدركوها على اختلاف تفسير الأديان للجانبين ، ففي الهندوسية تمييز بين نرجونا برهمان أي برهمان بدون صفات ووراء أي تصنيف أو استيعاب بشريين و ساغونا برهمان أي برهمان في علاقته مع خلقه ذو الصفات المعروفة للوعي البشري ، و في البوذية تمييز بين دارماتا دارماكايا و بين يوبايا دارماكايا أي دارماكايا المتجلي في العالم و الممتلئ عطفا و هكذا في بقية الأديان.

يرى هيك أن حضور الله تعالى بنفس درجة احتجابه و أن عدم إمكانية معرفته لا تعني انغلاق باب المعرفة ، و لكن معرفة المخلوق بالله تندرج في سياق علاقة الله بخلقه و بالعالم أي بتجلي الله سبحانه بصفاته كالخالقة و الرازقية و التدبير و الرحمة ، و هنا يقع إشكال مفاده أن القول بأن معرفة الله غير ممكنة و أن معرفته ممكنة أيضا قول متناقض ، و يجيب هيك على هذا الإشكال من زاويتين:

1- معرفتنا بالله ليس معرفة لكنه ذات الله و إنما هي معرفة لله من خلال التجليات و الظهورات التي ظهر لنا الله بها و بطبيعة الحال هذه الظهورات مخلوقة و ليست هي ذات الله تعالى و إنما هي أفعاله ، و أيضا نعرفه من خلال ما يوحيه إلى البشر ، و لو قارنا هذه الفكرة بالفكر الشيعي لوجدناها مطابقة لما يقوله الشيخ الأوحد من أن معرفتنا بالله سبحانه عن طريق آثاره و مخلوقاته التي تدل على ذاته دلالة إشارة لا دلالة تكشف .

2- الزاوية الثانية اعتماد فكرة توما الأكويني عن التنبؤ التشابهي Analogous prediction و التي تعني أننا مثلا عندما نقول أن الله خير فلا نعني من وصف الخير ما نعنيه عندما نطلقه على الإنسان بل هو خير فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى خيرا مطلقا لا يقيده أي قيد لا مثيل له في المخلوقات ، و حقيقة هذه الصفة اللامتناهية لا يمكن أن يدركها الإنسان المتناهي ، و لكن تبقى هنالك وجه شبه بين صفاته و صفات الإنسان و هذا الشبه منحصر في التمظهر الخارجي لهذه الصفات أما طبيعتها و حقيقتها داخل الذات الإلهية فلا يمكن مطابقتها مع صفات الإنسان ، و يطرح على هيك الإشكال الذي طرح على مدرسة الحكمة المتعالية نفسه و هو أن هذا الطرح يلزم منه تركيب الذات مما به الاشتراك و ما به الامتياز فالله مشابه للحق من وجه و مختلف عنهم من وجه آخر و هذا تركيب ينافي ما ثبت من بساطة الذات الإلهية ، و قد حلت مدرسة الحكمة المتعالية هذه المشكلة من خلال التفريق بين المفهوم و المصداق[13] و هو ما فعله هيك حيث يقول كما ينقل الدكتور وجيه قانصو عن كتابه "الله له عدة أسماء" : (( .. فلو تأملنا في الصفات التي ننسبها لله و بنحو خاص : الحب و العدالة و المعرفة و القوة ، نجد أنها صفات مختلفة و متمايزة عن بعضها البعض ، في حين تعتقد جميع الأديان بعدم تمايز و تغاير الصفات الذاتية لله ، فقدرته عين علمه و عين قوته و عين محبته و عين حياته ، فالله في ذاته واحد و بسيط و التمايز بين صفاته حاصل في وعينا فقط .. الخ ))[14] ، يقول هيك قبل الفقرة السابقة برجوع الصفات إلى السلوبات (( غاية ما يدركه العقل عن الله هو نفي الصفات عن ذاته لا إثباتها له ))[15] فعندما نقول بأن الله تعالى عالم فإنما نعني أنه ليس بجاهل دون أن نثبت له صفة العلم و هذا الرأي هو رأي الشيخ الصدوق الذي يستفيده من الأخبار الشريفة ، و حول رأي الشيخ الصدوق (ره) يقول السيد كمال الحيدري (حفظه الله) : (( يمكن تلمس آثار نظرية التعطيل في نصوص فريق من محدثي الإمامية و إن جاءت بلا هذا العنوان ، على سبيل المثال نقرأ للشيخ الصدوق (ت: 381هـ) بعد انتهائه من نقل روايات صفات الذات قوله "قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب رضي الله عنه : إذا وصفنا الله تبارك و تعالى بصفات الذات فإنما ننفي عنه بكل صفة منها ضدها ، فمتى قلنا إنه حي نفينا عنه ضد الحياة وهو الموت و متى قلنا إنه عليم نفينا عنه ضد العلم و هو الجهل" إلى آخر ما يذكره من صفات. إن هذا النسق الذي يحصر المعرفة بنفي الضد يصب في اتجاه نظرية التعطيل ، أجل ، يمكن توجيه الكلام بصرفه إلى عدم معرفة المصداق ، فلو كان المراد نفي معرفة المصداق دون المفهوم ، لكان الكلام صحيحا جزما ، و إلا من غير المعقول القول بأن الإدراك الإنساني لا يفقه معنى لمفاهيم العلم و الحياة و السمع ))[16] و يمكننا الإشكال هنا على هذا المنحى بأنه منحى لا يختلف عما ذهبت إليه مدرسة الشيخ الأوحد إلا في التعبير ، فالمفهوم ليس هو سوى الصورة الذهنية المخلوقة التي هي ليست الله تعالى كما تبين في الرواية ، و بالتالي فالسيد الحيدري يقول بعدم إمكان معرفة المصداق أي الذات الإلهية ، و بالتالي لا يكون تنقيح المفهوم إلا لنفيه في النهاية و إلا فلو كنا ننقح المفهوم كي نتوجه إليه في العبودية لكنا كمن يتقن صنع الصنم كي يسجد له من دون الله لأن المفهوم مخلوق الإنسان و هو غير المصداق ، فعبر عن هذا التنقيح في الرواية بقوله (ع) (( في أدق معانيه )) ثم نفى كون ذلك الذات الإلهية (( فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم )) و لذا نجد أن صدر المتألهين الشيرازي (ره) في نظريته عن العلم قال بأنه علم حضوري إجمالي أي علم بسيط غير مركب في عين الكشف التفصيلي ثم يعجز أعلام المدرسة عن حل هذه الإشكالية فيقول السيد كمال الحيدري بعد نقل عبارة الطباطبائي (( فما سواه من شيء فهو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المتعالية علما تفصيليا في عين الإجمال و إجماليا في عين التفصيل )) يقول (( لكن هذا العلم إذا صار مفصلا كيف يكون بسيطا؟ هذا سؤال عن الكيفية يرجع إلى الكنه و معرفة المصداق و هو ما لا مجال إلى معرفته فما يعرفه الإدراك البشري أن الله يعلم الأشياء تفصيلا قبل الإيجاد مع بساطة ذاته المتعالية لكن لا مجال إلى تصوير كيفية ذلك ))[17] و إنما وقعت مدرسة الحكمة المتعالية في هذه الإشكالية حينما اعتبرت علمه سبحانه علما حضوريا مما يلزم منه حضور المعلوم لدى العالم و هذا ما لم يرد بنص علاوة على استتباعه لإشكاليات فلسفية عديدة مما اضطرهم إلى العجز عن شرح الكيفية و التعطيل في نهاية المطاف ، فلو أنهم التزموا بما التزمت به مدرسة الشيخ الأوحد و هو مقدار ما ورد في النصوص لسلموا من هذا التخبط .

 

- الفصل بين إدراك حقيقة الذات و تجلياتها و إخراج العقل عن الساحة و إشكالية أن التوحيد أمر تعبدي :

 

يتبين إلى هنا أن العقل عاجز عن إدراك كنه ذات الله تعالى و إن كان يدل دلالة قطعية على وجوده سبحانه و كماله دلالة إشارة لا دلالة تكشف ، و يقع العقل عندئذ في مشكلة فلسفية و أخرى لغوية عندما يريد تصور الذات الإلهية أو التعبير عنها و إليهما تشير الرواية التي ينقلها أعلام مدرسة الشيخ الأوحد كثيرا في مصنفاتهم عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (( إن قلت هو فالهاء والواو كلامه صفة استدلال عليه لا صفة تكشف له , وإن قلت الهواء صفته فالهواء من صنعه رجع من الوصف إلى الوصف ودام الملك في الملك انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله , الطريق مسدود والطلب مردود دليله آياته ووجوده إثباته ))[18].

و مهم جدا أن نؤكد أن العقل لا يقع في تناقض منطقي عندما يريد أن يدرك الله تعالى لأنه عاجز عن إدراك الحقيقة الإلهية و لكنه يضعنا على أول عتبات المعرفة القلبية عندما يأتينا بمؤشرات الاستدلالية لا تكشفية من برهان النظم و الصديقين و غيرهما من البراهين القطعية على وجود الله تعالى و كماله ، و هنا يبدأ دور القلب كما ورد في الحديث القدسي (( ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن )) و كما ورد في دعاء عرفة (( كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيبا و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا ))[19] و القلب لا يستطيع أن يدرك الذات الإلهية أيضا و لكنه طور متقدم يأتي بعد طور العقل ، و من هنا نشأ القول بتعدد الأديان فإذا كان عقل جميع البشر عاجزا عن معرفة ذات الله تعالى لا بعضها ولا كلها لأن ليس لها بعض و كل إذ البعض و الكل من صفات المحدود ، ولا من وجه لأن ليس لها وجوه لأن هذا من صفات المركب المتناهي ، أصبح البشر جميعا عاجزين عن معرفة طبيعة الذات الإلهية مما يجعل التوحيد مسألة تعبدية لا سبيل عقلي إليها ، فحتى مع القول بأن المفهوم الذي نصنعه عن الله في أدق معانية يستلزم أن نقول بأنه واحد بالوحدة الحقة الحقيقية أي البساطة المطلقة و الكمال المطلق فإن هذا التصور ليس هو الله تعالى و الله منزه عنه أيضا ، فلا يكون هذا الوصف لله تعالى مطابقا للمصداق الواقعي أي ذات الله و إنما هو تكليف شرعي تعبدي ، كما أن تكليف النملة أن تنسب الزبانيتين لله تعالى و هو توحيد بالنسبة لها ، و من هنا قال من قال بالتعددية الدينية بعدم واقعية جميع النظريات التي تشرح طبيعة الذات الإلهية سواء تلك القائلة بالتوحيد أو التثليث أو غير ذلك ، و أن لا سبيل عقلي إلى إثباتها و إنما سبيل إثباتها هو الوحي و النقل .

 

- نسبية التوحيد و حديث النملة:

 

للرواية التالية (( هل سمي – أي الله عز و جل – عالما قادرا إلا لأنه وهب العلم للعلماء و القدرة للقادرين فكلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله زبانيتين كما لها فإنها تتصور أن عدمهما نقص لمن لا تكونان له ))[20] أهمية بالغة في إثبات نسبية التوحيد ، فتوحيد النملة بالنسبة إلى الإنسان كفر و توحيد الإنسان العادي بالنسبة إلى توحيد الأنبياء كفر و توحيد عامة الأنبياء بالنسبة إلى توحيد رسول الله (ص) كفر ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، و روي في ذلك عن أبي عبد الله (ع) قال : ذكرت التقية يوما عند علي بن الحسين (ع) فقال : (( و الله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله و لقد آخى رسول الله بينهما فما ظنكم بسائر الخلق .. الخ ))[21] ، كما وردت غيرهما من الروايات في ذلك ، و السؤال المهم هنا : هل هنالك ثمة تعارض بين ما ثبت من نسبية التوحيد و بين واقعيته؟[22] لعل الجواب اتضح مما قدمناه من أن المعرفة المطلوبة هي معرفة آيات الله سبحانه الدالة عليه دلالة إشارة لا دلالة تكشف ، و نضيف قائلين إن نسبية التوحيد لا تتنافى مع واقعيته فليس مرادنا من النسبية النسبية الذاتية التي تنتهي إلى السفسطة و الشك ، فعلى سبيل المثال يعتبر طلب العمل كمال نسبي و نسبيته لا تخل بواقعيته فهو كمال بالنسبة إلى الإنسان و لكنه ليس كمالا بالنسبة لله تعالى ، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى أن يكون للإنسان أولاد فهو كمال (( إن شانئك هو الأبتر )) و لكنه ليس كمالا بالنسبة لله تعالى (( ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه )) فهذه أمثلة لأمور نسبية و لكنها واقعية في نفس الوقت ، ولا تخل نسبيتها بواقعيتها ، نعم لو أريد بالتوحيد إدراك كنه ذاته سبحانه لكان مقصودنا منه اعتباريا لا واقع له .

و مما يستدل به على هذه النسبية هي تلك الروايات التي أشارت إلى تفاوت العقول بين البشر كما روي عن الباقر (ع) أنه قال : (( إنما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا ))[23] و عن رسول الله (ص) : إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم ))[24] و ما روي عن كميل بن زياد (ع) قال : كنت مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في مسجد الكوفة ، وقد صلينا العشاء الآخرة فأخذ بيدي حتى خرجنا من المسجد فمشى حتى خرج إلى ظهر الكوفة لا يكلمني بكلمة فلما أصحر تنفس ثم قال : (( يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها .. الخ ))[25] فالتفاوت في ما يحويه الوعاء و نسبيته إنما هو بسبب حجم الوعاء و قابليته على الاحتواء ، و بمثال آخر إنما تعكس المرآة من نور الشمس بقدر نظافتها و حجمها و إلا فإشراق الشمس على جميع المرايات بقدر متساو دون أن تستطيع أي منها أن تحيط بعين الشمس و إنما تدرك من الشمس أشعتها و آثارها التي لا فصل بينها وبين الشمس ولا وصل ولا كيف لذلك ، قال المانزدراني في شرح أصول الكافي : (( .. للسالك مقامات كثيرة بعضها فوق بعض إلى أن يبلغ أعلاها و هو مقام الفناء في الله ، ولا ريب في أن كل مقام سابق نقص بالنسبة إلى المقام اللاحق و كل مقام لاحق كمال بالنسبة إلى المقام السابق و من هنا يظهر سر قولهم "حسنات الأبرار سيئات المقربين" فلا ريب في أن السالك ما دام سالكا و لم ينته سلوكه إلى أرفع المقامات أو انتهى إليه و رجع إلى ما دونه لإعانة سائر السالكين فهو في مقام نقص و النقص تقصير و التقصير يوجب الاستغفار و من هنا ظهر وجه استغفار المعصوم لنفسه و الله ولي التوفيق ))[26] .

و عندما نرى أن الإسلام قام على التوحيد[27] و طالب الناس جميعا بأن يؤمنوا بالتوحيد نعرف أن هنالك حدا أدنى مطلوب من المعرفة التوحيدية و هو القول بالوحدة العددية مع أنها كما تبين في محله من مباحث التوحيد تستلزم المحدودية في ذات الله سبحانه فهي شرك بالنسبة إلى الوحدة الحقة الحقيقية أي القول بالبساطة المطلقة في الذات الإلهية و أنه سبحانه فوق أوهام الذهن ، و لكننا نجد الشارع المقدس رضي بمقولة "لا إله إلا الله" ليحقن بها الدم و المال و العرض و يرتب أحكام الإسلام (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) و الظاهر أن تحديد هذا الحد الأدنى من المعرفة التوحيدية لا دليل عليه سوى النقل و التعبد و الله العالم لأن العقل البشري و بمعونة النقل يستطيع الوصول إلى التوحيد و لكنه في النهاية يقول بأن هذا المفهوم الواحد البسيط المطلق الذي توصلت إليه ليس هو الله ، و بهذا يطرح سؤال و هو : ما فائدة أن نصل إلى هذا المفهوم حتى إذا ما نقحناه و صنعناه في أكمل صورة نفيناه و قلنا بأن الله سبحانه أنزه من كل تصور ووصف؟! إلى هذه المرحلة ينتهي دور العقل و يبدأ دور القلب .

 

* علاقة تفسيرنا للذات الإلهية بالجانب العملي من الدين:

 

هل هنالك رابط عقلي بين الاعتقاد بالتوحيد و بين الجانب العملي من الدين أي الفقه و الأخلاق؟ و هل التوحيد الذي كان النبي يأمر المشركين باعتقاده في بداية الدعوة شعارا لحركة إصلاحية و ليس هو إلا عقيدة غيبية و تكليف شرعي أم أنه كان أمرا مطلوبا عقلا و يتوقف عليه بشكل عقلي بحت المنهج الإصلاحي كما لو أننا نقول الخمر مضر بالصحة إذن يجب تجنبه ، بخلاف قولنا الخمر رجس من عمل الشيطان فيجب تجنبه؟ و هل شهود مؤسسي الديانات كان لحقيقة واحدة و لكن تفاسيرهم لهذه الحقيقة اختلفت و من هنا اختلفت تعاليمهم الأخلاقية و الفقهية أم أن شهودهم كان لحقائق مختلفة إحداها فقط هو الله و هي الحقيقة التي شهدها محمد (ص) و ما سواها كان وهما أو شياطين و بالتالي كان هذا منشأ الاختلاف في التعاليم العملية؟

نحن إذا قلنا بأن المفهوم الذي يصنعه الإنسان لله في أدق معانيه ما هو إلا مخلوق فإننا نقطع أية صلة بين إدراك الله تعالى و بين الجانب العملي مما يسد علينا هذا الباب العقلي ليبقى باب الوحي و النبوات فقط مفتوحا لنا و لا تكون عقيدة التوحيد إلا أمرا تعبديا وجب علينا عن طريق الوحي لا العقل ، و أما العقل فلا يقول إلا أن الواحد بالوحدة الحقة الحقيقية هو أرقى ما يمكن أن تتصوره عن الله ولكنه ليس هو الله ، و لكن هل يختلف الأنبياء فيما بينهم في وصف الله تعالى و في تشريعاتهم الفقهية و الأخلاقية؟ ثبت من الروايات أنه لم يبعث نبي إلا و دعا إلى التوحيد فتفسير الخبرة الدينية عند الأنبياء جميعا جاء متطابقا مجمعا على عقيدة التوحيد و إن كان هنالك تفاوت بين الأنبياء (ع) لا نعلمه في مراتب التوحيد ، و لم تتأثر عقيدة الأنبياء بظروفهم فقد دعا محمد (ص) إلى التوحيد مع أن بيئته كان تعتقد بالوثنية و الشرك و تعدد الآلهة بينما دعا المسيح (ع) الذي عاش بين بني إسرائيل الموحدين إلى التوحيد أيضا أو إلى التثليث كما يدعيه النصارى غير متأثر ببيئته بناء على اعتقادهم ، و أما بالنسبة للجانب العملي فقد اتفق الأنبياء على أحكام أساسية ثابتة كتحريم الخمر و اختلفوا في مسائل باختلاف المقتضيات و ظروف المكان و الزمان مما لا يستدعي التناقض بل إن النبي الواحد قد يأتي بتعاليم مختلفة في موضوع واحد بتغير الظروف كما في حال التقية مثلا ، و بالتالي لا تعد تعاليم الأنبياء متناقضة و في هذا يقول آية الله السبحاني في "رسائل و مقالات" معلقا على اقتباس من كلام سروش في كتابه "صراطهاي مستقيم" : (( إن أحد دعاة التعددية ينسب التضاد إلى الله و يقول "إن أول من بذر بذور التعددية في العالم هو الله ، و الله هو الذي أرسل أنبياء مختلفين فتجلى لكل واحد بشكل و أرسل كل واحد إلى مجتمع و جعل على كل لسان و ذهن تفسيرا خاصا و بهذا الشكل أجج بوتقة التعددية" ولازم هذا الكلام أن الله أوحى إلى أحدهم التوحيد و أوحى إلى الآخر الشرك بينما نجد جميع الأنبياء قد عبؤوا أنفسهم لدعوة التوحيد فهل يمكن أن ننصب هذا الكلام إلى فاعل هادف؟ ))[28]

 

 

* وجه تشابه بين إشكالية النسبية في فلسفة إيمانويل كانت و إشكالية التشبيه و التعطيل في مباحث التوحيد:

 

يتفق كانت مع سائر المثاليين في التفريق بين ظواهر الأشياء و حقائقها ، فما ندركه من الوردة مثلا هو أعراضها من لون و رائحة و ملمس و طعم و العقل يفرض وجود جوهر و حقيقة قائمة بذاتها تقوم هذه الأعراض ، و اعتبر ديفد هيوم بعض الأفكار العقلية الأساسية كفكرة الجوهر و قانون العلية أفكارا وهمية لا واقع لها مما أقلق ايمانويل كانت و جعله يأتي بنظريته النسبية حيث فرق بين الشيء في ذاته العصي على الإدراك و الشيء لذاتنا ، ذهب كانت إلى أن حقائق الأشياء لا يمكن إدراكها و لكنه اختلف مع هيوم في نفي واقعيتها ، و وجه التشابه الذي أود أن أشير إليه هنا يتضح من إشكالية هيغل على مثالية كانت حيث ذكر أن فكرة كانت تناقض نفسها بنفسها فكانت لم يفترض وجود الشيء في ذاته إلا لكي يرجع إحساساتنا إلى علة موجودة في الواقع الخارجي ، فعلى الرغم من أن كانت قال بأن المقولات العقلية كمقولة العلية و الوجود هي القوالب التي تجعل الشيء لذاتنا نسبيا و أن الشيء في ذاته منزه عن هذه القوالب إلا أننا نراه يصف الشيء في ذاته بالعلية و الوجود و هما مقولتان من مقولاته المعروفة ، و لو قيل بأن الشيء في ذاته لا يوصف بالعلية لما كان هنالك دليل يدل على وجوده و لما احتجنا إلى افتراض وجوده أساسا ، ولو قلنا بأنه لا يتصف بالوجود لكان معدوما أو مجهولا مطلقا[29].

لو تأملنا فيما سبق لرأينا تشابها كبيرا بين هذه الإشكالية و إشكالية التشبيه و التعطيل فبينما يرى كانت أن الشيء في ذاته عصي على الإدراك إلا أنه يضطر إلى أن يصفه بالعلية و الوجود و أنه جوهر قائم بذاته ، و هذا بالضبط ما نفعله بالنسبة إلى الله تعالى كما تبين ، بل إن المنطقيين ميزوا بين الفصل المنطقي و الاشتقاقي و قالوا بأن الفصول المنطقية هي التي غالبا – إن لم يكن دائما – ما تقع في التعاريف ، إذن و بنفس المنطق فنحن نحاول الوصول إلى أدق صورة ممكنة للجواهر المخلوقة المحيطة بنا إلا أننا و بعد أن نصفها بأدق ما يمكننا أن نصفها به نبقى على إيمان بأن ما ندركه ما هو إلا ظواهرها و أعراضها إلا أن لهذه الظواهر و الأعراض دور الدلالة على وجود جوهر قائم بذاته و مقوم لها دلالة إشارة لا دلالة تكشف ، و لعل هذا معنى من معاني ما يقوله البعض بأن الله ألقى مثاله في خلقه ، و (( من عرف نفسه فقد عرف ربه )) و (( ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله و بعده و معه )) على المعنى الذي لا يتوافق مع وحدة الوجود بل إنه و كما دلت الأعراض على الجوهر دلالة إشارة لا دلالة تكشف و كما أنه خاف لشدة ظهوره ، فما بالك بالذات الإلهية سبحانه و تعالى عما يصف الواصفون .

أخيرا وبعد مراجعة لكلمات جون هيك وجدته يشير أيضا إلى وجه تشابه بين إشكالية التشبيه و التعطيل و نظرية كانت و لكن لا يمكنني أن أدعي أنه يقصد ما بينته من وجه الشبه و أنقل عبارته كما هي حيث يقول: (( الله بالنسبة لكانط كان افتراضا و ليس اختبارا ، إلا أننا نرى أن فكرة الحق في ذاته ليست نابعة من حياتنا الأخلاقية بل من خبرتنا و حياتنا الدينيتين ، فالآلهة المعروفة كبرهمان و سونيتا هي تجليات ظاهراتية للحق داخل عالم التجارب الدينية ، كما أن الحق يختبر من قبل البشر بنحو يماثل الطريقة التي اقترحا كانط في اختبار العالم و ذلك عن طريق تلقي المعطيات التي تردنا من الكائن الخارجي ثم تصنيف و تفسير تلك المعطيات وفق المقولات و نظام الأحكام الصورية المتموضعة في أجهزتنا الإدراكية ))[30] فتأمل ، فالآثار المادية التي ندركها بحواسنا إذا وضعناها في مقولة العلية و لاحظنا أن بعضها علة للبعض الآخر مما يكون سلسلة علل و معاليل لا بد أن تنتهي إلى علة أولى لا علة لها ، فهذا اختبار فيزيائي أنتج معرفة ميتافيزيقية و هو ما أشار إليه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) في قوله : (( استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقف على التجربة أيضا فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة و درجة ))[31] ولا يفهمن من تعقيبنا هذا على كلام هيك بأنه يقول بأن المدركات التي توضع في القوالب الذهنية هي مدركات حسية بالضرورة كما يقول كانت بل إن هيك يرى بأن شهود الله تعالى في تراث الأمم جميعا و التجربة البشرية للكائن المتعالي هي في حد ذاتها إدراك معتبر كالإدراكات الحسية يقول الدكتور قانصو : (( ولا بد من التنبيه هنا أن المعطيات التي يتلقاها الإنسان في حياته لا تقتصر على الحس فقط بل هنالك أنماط رسائل متعددة يتلقاها الإنسان و يستجيب لها بطرق متعددة ، و يمكن تحسس ظواهر الموضوع عن قرب كما يحصل باللمس و يمكن تحسسه عن بعد ، عبر الإشعاعات و الموجات التي يرسله و يبثها ، كالموجات الكهرومغناطيسية و الإشعاعات الحرارية ، كما أنه يمكن للرسائل أن تكون ظاهرة و قابلة للتحسس و قد لا تكون قابلة للتحسس إلا بواسطة أجهزة تحسس أكثر تعقيدا و تقدما ، لذلك و كما يمكن تحسس حضور الحق بواسطة الحس و المشاهدة ، يمكن أيضا تحسس حضوره ورؤية تجليه بإشارات غير حسية ، تنبع من أعماق الإنسان أو تنبع من الكون ، و يتلقاها الإنسان بأدوات تحسس غير حسية و التي و بعد مرورها في قنوات إدراكه الذاتية تأخذ تلك الإشارات و الرسائل دلالة و حقيقة و معنى يعبر عنها بالتجربة الدينية ))[32] و جدير بالتأمل و المقارنة كلام هيك هذا مع كلام بعض علماء الشيعة في التفريق بين التجربة الصوفية أو العرفانية التي هي علم حضوري لا يمكن أن يقع فيه الخطأ و بين تفسيرها و الذي يمكن أن يقع فيه الخطأ حتى بالنسبة إلى الأنبياء (ع)[33].

 

* ما بين نموذج كانت المعرفي و نموذج هيك:

 

تأثر جون هيك بالنظرية النسبية عند إيمانويل كانت إلا أن ذلك لا ينبغي أن يوقع الباحث في خلط بين النظريتين ، فرأي كانت في استحالة الوصول إلى يقين في المعارف الميتافيزيقية معروف و إخراجه فكرة الله عن نطاق العقل النظري ليجعلها ضرورة أخلاقية مشهور ، و لكن هيك يرى إمكانية الوصول إلى المعارف الميتافيزيقية غير أنه حاكى نظرية كانت في أنه ميز بين الله في ذاته العصي على الإدراك و الله لذتنا أي الظاهر لنا بتجلياته و وحيه كما تقدم ، كما أنه حاكاها في حديثه عن قوالب أو مقولات توضع فيها تجربة إدراك الإله مما يجعل هذا الإدراك نسبيا إلا أن مقولاته هذه تختلف أيضا عن مقولات كانت فمقولات كانت فطرية و توجد عند الناس جميعا فنسبية كانت يتساوى فيها جميع البشر فهي نسبية في إدراك الواقع و ليست تفاوتا فيما بين أفراد البشر بينما يبدو أن هيك يهدف إلى إثبات نسبية في إدراك الله يتفاوت فيها البشر فيما بينهم مما يشرع للتعددية الدينية ، و من هنا نجد هيك يستشهد بعبارة للقديس توما الأكويني "المعرفة هي بحسب نمط العارف" و من اللطيف أن أشير أنني سمعت بعض الأساتذة ممن حضرت دروسه من علماء الشيعة يذكرون عبارات مشابهة كقولهم "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"[34] و استشهادهم بالبيت الشعري التالي:

عباراتنا شتى و حسنك واحد .. و كل إلى ذاك الجمال يشير

 

* نموذج جون هيك المعرفي:

 

أ- مجال التجربة الإنسانية :

 

بينما يخرج كانت الميتافيزيقيات من مجال التجربة الإنسانية يصنف هيك مجال التجربة الإنسانية إلى ثلاثة أصناف :

1-   التجربة الطبيعية (الفيزيائية) و هي التي تتعلق بتواصل الإنسان مع الطبيعة

2- التجربة الاجتماعية : و هي تتعلق بكل ما له علاقة بواقع التفاعل الإنساني المتبادل سواء كان على مستوى الأفراد أو الجماعات بما في ذلك القيم و العلاقات المعنوية و التدبيرية

3-   التجربة الروحية: و هي التجربة مع الحقيقة الإلهية

و تشترك هذه الأصناف في كون جميعها معارف تجريبية تبدأ بمعطيات حسية أو حدسية أو معنوية أو روحية ثم يتم عبر الجهاز الإدراكي تفسير هذه التجربة و الحكم على حقيقتها ، فكما أن كانت كان يرى أن المعارف الميتافيزيقية ذات بعدين بعد موضوعي و هو ما تدركه الحواس الخمس و بعد ذاتي و هو المقولات التي نضع فيها هذه الإدراكات الحسية المشتتة ، يوسع هيك من إطار البعد الأول ليتجاوز ما تدركه الحواس الخمس إلى ما يدركه القلب و الحدس ، و يأتي ببعد ثان بتفسير آخر كما سيأتي ، فتكتسب المعرفة الإلهية صبغتها الذاتية من خلال ما يضيفه عليها المدرك – بكسر الراء – من تأويل و تفسير للتجربة المعرفية ، و من هنا يستشهد هيك بمقولة لتوما الأكويني يقول فيها "المعرفة هي بحسب نمط العارف" ، و يجعل هيك هذا الجانب الذاتي أي التفسير و التأويل مدار المعرفة بحيث تبقى التجربة بدون أي معنى ما لم تضع في قالب التفسير و التأويل ، و من هنا يمكن لشخص أن يفسر تجربة معينة تفسيرا غيبيا بينما يفسرها الآخر تفسيرا ماديا ، و المتمعن في فكرة هيك هذه يجد أنها سفسطة واضحة لا تدع مجالا لأية قيمة للمعطيات المكتسبة من التجارب المعرفة المنفعلة بالموجودات المعلومة ، و من هنا فهو يرى استحالة إثبات أو بطلان واقعية أية تجربة و هذا سد بين لباب المعرفة البشرية لأن التجربة في مفهومه لا تقتصر على التجربة الميتافيزيقية بل تشمل الفيزيائية و الاجتماعية كما مر .

 

* الدليل على وجود الله تعالى عند هيك و مقارنة بينه و بين كانت

 

بينما ينفي هيك وجود أي دليل خارجي على وجود الله تعالى و يقصر الدليل على التجارب الروحية الممتدة في الثقافات المختلفة عبر الأزمنة المتفاوتة و التي تراكمت في التاريخ ، و هو يختلف مع كانت في أن الله تعالى ضرورة أخلاقية يدركها العقل العملي لا النظري و يقول في ذلك : (( الله بالنسبة لكانت كان افتراضا و ليس اختبارا إلا أننا نرى أن فكرة الحق في ذاته ليست نابعة من حياتنا الأخلاقية بل من خبرتنا و حياتنا الدينيتين فالآلهة المعروفة كبرهمان وسونياتا هي تجليات ظاهراتية للحق داخل عالم التجارب الدينية ، كما أن الحق يختبر من قبل البشر بنحو يماثل الطريقة التي اقترحها كانت في اختبار العالم ، و ذلك عن طريق تلقي المعطيات التي تردنا من الكائن الخارجي ثم تصنيف و تفسير تلك المعطيات وفق المقولات و نظام الأحكام الصورية المتموضعة في أجهزتنا الإدراكية ))[35].

ثمة جانب آخر يحاكي فيه هيك كانت و هو فكرة القوالب فبينما يرى كانت بأن هنالك قوالب و مقولات مشتركة بين جميع البشر تجعل معرفتهم بالواقع الخارجي (الشيء في ذاته) معرفة نسبية ، كقالب المكان و الزمان حيث أن الشيء في ذاته مجرد من الزمان و المكان و لكن الإنسان لا يستطيع أن يدركه دون أن يضعه في هذين القالبين ، يرى هيك أن هنالك قوالب في إدراك الله و لكن هذه القوالب منها ما هو مشترك بين البشر جميعا و هي الشخصي Personae و اللاشخصي impersonae فمختلف الأديان و الاتجاهات الفكرية إما أنها آمنت بإله شخصي مجسم أو أنها آمنت بإله مجرد فوق التصور ، و هنالك نوع آخر من القوالب تختلف باختلاف الثقافة و المجتمع و الزمان و العادات و التقاليد و اللغات .

يستعين هيك بحجج أخرى لإثبات النسبية لا تخرج عما ذكره السابقون له من السفسطيين و المثاليين ، كالتشكيك في الحواس و الإشارة إلى أنها تتفاوت شدة و ضعفا مما يؤدي إلى تعدد المدركات لاختلاف القابل لا الفاعل أي لتفاوت الحس المدرك لا الوجود الخارجي كما هو في ذاته .

و يشير هيك لإثبات نسبيته إلى أثر العلاقة مع الشيء في إدراكه فالقلم هو أداة كتابة بالنسبة إلى الإنسان الذي يستعمله في ذلك و ليس هو إلا قطعة لا فائدة منها بالنسبة إلى إنسان بدائي لا يعرف ما هي الكتابة ، وهو هنا يستشهد ببعض المفكرين كجورج هايزنبرج حيث يقول : (( إن موضوع البحث في العلوم الطبيعية لم يعد الطبيعة في ذاتها و إنما الطبيعة و قد خضعت للتساؤل الإنساني فبهذا المقياس لا يقابل الإنسان إلا نفسه ، فما نسميه بالعالم الموضوعي هو من صنع تدخلنا الناشط و طرق مشاهداتنا المتطورة ، و تجاربنا ليست هي الطبيعة و إنما هي الطبيعة بعد أن تغيرت و تبدلت باجتهادنا في سير البحث ))[36] فأوصاف كالرحمة و المحبة و العدل إنما نسوقها على الله من حيث علاقتنا به تعالى .

 

* الحاجة إلى الدين و الوحي

 

يمكننا تقسيم الحاجة إلى الدين و الوحي إلى قسمين ، القسم الأول هي الحاجة الدنيوية و بالتحديد الاجتماعية ، و القسم الثاني هي الحاجة الأخروية و بعبارة أخرى الخلاص و النجاة يوم القيامة ، و السؤال المهم هنا هل يمكن لجميع الأديان أن تحقق هاتين الحاجتين على حد سواء؟ و هذا ما سنناقشة فيما يلي تفصيلا ، سنناقش أولا إشكالية الخلاص و النجاة و ثانيا إشكالية وقوع التناقض بين ادعاءات الأديان المختلفة و كيف واجه دعاة التعددية ذلك و هذه الإشكالية ترد على هدفي الدين معا فالإصلاح الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بتعاليم متناقضة كما أن كيفية الخلاص في الآخرة أمر مجهول لا يمكن أن يعرف إلا عن طريق الوحي و العقل يعلن عجزة عن الحكم إيجابا أو سلبا في أغلب جزئيات الأحكام الشرعية و بالتالي لزم أن تكون هنالك تعاليم دينية مأخوذة عن طريق الوحي كما يجب أن لا تكون هذه التعاليم متناقضة .

 

- هل تحقق الأديان جميعا الخلاص و النجاة

 

بما أن للأديان المختلفة أطروحات مختلفة عن طبيعة وحقيقة الخلاص و الثواب و العقاب فإننا سنتجاوز الحديث عن هذا الجانب و سنركز على الخلاص و النجاة بمفهوميهما العامين ، لا شك أن ليس للعقل دور في تحديد التكاليف الجزئية اللازمة للنجاة و الفوز و الخلاص و هذا ما استدل به بعض علماء الشيعة على وجوب بعث الأنبياء (ع) و أنه مقتضى كمال الله تعالى ، و بما أن التكاليف التي تقول بها الأديان و المذاهب المختلفة متفاوتة بل قد تكون متناقضة لا بد أن الحق المنجي في إحداها ، و بالتالي بطل القول بتعدد الأديان ، و لكن هل معنى هذا أن أتباع الأديان و المذاهب الأخرى معذبون غير ناجين ؟ لقد تبين و سيتبين أكثر جواب هذا السؤال في مباحث أخرى .

لقد واجه جون هيك عندما طرح نظريته حول التعددية الدينية معضلة الخلاص هذه ، و حاول أن يطرح تفسيرا للنصرانية التي كان يعتنقها يتوافق مع نظريته التعددية و يخالف الاعتقاد السائد بين النصارى من أن الاعتقاد بالصليب و التثليث و الفداء و ألوهة المسيح شروط للخلاص كما أن الاعتقاد بالتوحيد و نفي الشركاء شروط للخلاص في الإسلام ، أتى هيك بتفسير للنصرانية يتوافق مع نظريته ، و لكن المشكلة التي لم يستطع هيك أن يتجاوزها هي أنه كان عليه أن يأتي بتفسير يتوافق مع نظريته من كل دين من الأديان التي جوز التعبد بها و قبلها  و هذا يلزم أن يكون متخصصا في كل واحد من هذه الأديان الكثيرة ، و فيما عدا ذلك فإن نظريته ستنتهي إلى تناقض واضح بحيث يقول مثلا يجوز التعبد بمذهب الشيعة و مذهب الكاثوليك و مذهب السنة ، و التعبد بهذه المذاهب - و من خلال تراثها الثابت قطعا - يقتضي الإيمان بانحصار الخلاص فيها .

يجد هيك تعارضا بين القول بانحصار الخلاص في عقيدة معينة كالاعتقاد بالثالوث و الصليب و بين العدالة الإلهية إذ أن صدفة المولد هي التي جعلت النصارى يعتقدون بهذه الأمور دون غيرهم ، و بالتالي فهو يأتي بمفهوم جديد للخلاص إذ يقول (( يجعل فكرة الخلاص هذه غريبة في زماننا و يدفعنا لأن نفكر في الخلاص بنحو أكثر تماسكا و صلابة ، و نحاول ربط الخلاص بما له علاقة بالقيمة الحقيقية للوجود الإنساني ))[37] و من الواضح أن هيك بهذا يأتي بدين جديد ذي مفهوم خاص عن الخلاص و النجاة يقع في عرض الأديان الأخرى لا في طولها ، يقول العلامة السبحاني (( من الغريب أن هذا الباحث المسيحي الذي ابتعد عن المسيحية أيضا قد جلس في غرفة مغلقة و أخذ يتحدث عن الأديان السماوية دون أن يعرض نظريتهم على كلامهم أو يقرأها لهم ليتأكد من موافقتهم على آرائه ))[38]

لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن الكريم تتحدث عن الفوز و النجاة و الخلاص من قرن الإيمان بالعمل الصالح ، فالإيمان بلا عمل و العمل بلا إيمان غير كافيين للنجاة يوم القيامة و النصوص الدالة على ذلك كثيرة جدا حتى قد يقال بأن من ضروريات مذهب التشيع القول بعدم قبول أعمال من لا يؤمن بولاية أمير المؤمنين (ع) و أن أعماله كلها تذهب يوم القيامة هباء منثورا ، و كذلك الأمر في النصرانية بالنسبة لمن لا يؤمن بالصليب و الثالوث و الفداء ، و عندما نراجع مفهوم جون هيك عن الخلاص نجده يقلل من أهمية العنصر العقائدي النظري و يعلق الخلاص على العنصر الأخلاقي العملي بشكل رئيسي فهو يقول (( كان عمل الروح القدس الأساسي هو الارتقاء بمستوى الجماعة المسيحية الأخلاقي فوق أخلاقيات العالم المحيط ، و قد طلب المسيح من الرجال و النساء أن يعتنوا بطريقة حياتهم و يعيشوا حياة المملكة الآتية ، بأن يحبوا جيرانهم و يديروا الخد الآخر ، و يتغلبوا بفعل الخير على فعل الشر ، و تكون الثقة بالله بديلا عن حبهم للممتلكات و السلطة ، و أن يعطوا بدون مردود ، و تبين قصة المسيح في فصل الضأن عن المعز أن معيار الخلاص في الآخرة هو معيار عملي ، يتعلق بالسلوك و ليس معيارا لاهوتيا يتعلق بجملة معتقدات ، فالذين يرثون الملكوت المعد لهم منذ إنشاء العالم هم الذين أطعموا المسيح بإطعامهم الجائع ، و سقوه بسياقتهم العطشان ، و آووه بإيوائهم الغريب و كسوه بكسوتهم العريان ، و عادوه بعيادتهم المرضى و أتوا إليه حين أتوا إلى المحبوس ، ففي كل مرة صنعوا إلى هؤلاء فإليه قد صنعوه ، هذا السلوك هو الثمر الطبيعي للدين الحقيقي و كما يقول المسيح "من ثمارهم تعرفونهم" ))[39] ولا يخفى تعارض هذا الكلام لو طبقناه على الإسلام و المذهب الشيعي مع نصوص كثيرة متواترة تولي أهمية فائقة للعقيدة النظرية كالتوحيد و النبوة و الولاية ، بل إن كلام هيك يتضمن تشكيكا في قطعية صدور العقائد الدينية و تشكيكا في قطعية صدور الوحي أو تأويلا لمعناه بحيث تعامل العقائد المنقولة إلى الناس عبر الوحي معاملة التراث البشري الثقافي العادي ، و هذا الكلام مقارب لدعوى البراهمة و الأولوهيين Deists الذين يعتمدون العقل العملي كأساس لنظامهم الأخلاقي بالإضافة إلى تراث الأديان لا باعتبارها أديانا إلهية بل أفكارا بشرية يؤخذ منها و يرد ، و لذا نجد هيك يمد بجرأة مفهوم الخلاص ليشمل المناضلين الملاحدة و العلمانيين و الماركسيين إذا كانوا أصحاب أخلاق و رسالة فهو يقول : (( تتغير أشكال القداسة مع تغير أشكال الوضع البشري و قد فتحت نزعات التحرر المعاصر الباب لقداسة سياسية جديدة تمثلت في شخصيات حديثة كغاندي و مارتن لوثر و كاميليو توريس ، هكذا قداسة سياسية لا تستبدل الأشكال القديمة ، و لكنها تفتح مجالا جديدا للنشاط داخل الحياة الدينية و تخلق طرقا جديدة لسمو الذات و الارتقاء بالوجود الإنساني تتمثل في العمل السياسي و الاجتماعي و حفظ الأرض و العمل ضد التهديد النووي و الكيميائي ، و نعد من هؤلاء أيضا الماركسيين و الاشتراكيين و البيئيين و دعاة السلام ، الذين و رغم كونهم جميعا علمانيين و يرفضون أية فكرة غيبية إلا أنهم يحققون تحررا و خلاصا لأنفسهم و للعالم أكثر من بعض المتدينين الأنانيين ، إنهم في طريق الخلاص رغم عدم علمهم بذلك ، لأنهم يجهدون في التحول من التمركز حول الذات إلى التمحور حول الحقيقة ))[40] .

يستشد هيك ببعض مؤرخي الأديان الذين قسموا الأديان إلى قسمين هما (أ) أديان ما قبل العصر المحوري و (ب) أديان ما بعد العصر المحوري The axial age ، و يقصد بالعصر المحوري تلك المرحلة التي تشكلت فيها أديان العالم الكبرى و ظهر فيها مفهوم الخلاص و النجاة حيث لم تكن الأديان البدائية و أديان ما قبل العصر المحوري تهدف إلى تحقيق الخلاص لأتباعها و إنما كانت تهدف إلى إيجاد معنى مستقر و متوازن للحياة خاصة فيما يتعلق بالبقاء و الاستمرار و إلى حفظ وحدة القبيلة و تعاون أفرادها ، و جاءت أديان العصر المحوري لتطرح أفكار الخلاص ، و تبعتها على ذلك الأديان التي جاءت بعد العصر المحوري كالبوذية و المسيحية و الإسلام إذ أن هذه الأديان منبثقة من أديان العصر المحوري فالبوذية منبثقة من الهندوسية و المسيحية من اليهودية و الإسلام من اليهودية و المسيحية .

و واضح أن التقصي التاريخي المسطور إنما يشير إلى أن فكرة الخلاص وليدة التطور الفكري الناتج عن التطور المعيشي للإنسان و هي بذلك ليست ذات صلة قطعية بالله تعالى عن طريق الوحي ، و من هنا تتضح الصلة الوثيقة بين هذا المبحث و ما يبحث في باب النبوة من تفسير حقيقة الوحي[41] و على كل حال لو اعتمدنا القرآن كمصدر من مصادر التاريخ لرأينا تكذيبا واضحا لهذه الفكرة فهو يقول عن أحد أقدم الأنبياء و هو نوح (ع) : (( و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ))[42] بل انظر إلى قول هابيل لأخيه قابيل : (( إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين ))[43] و ما تتضمنه هذه الآيات من فكرة الخلاص و النجاة بل و التركيز على التوحيد التي لم يبعث الله نبيا إلا بها كما تبين من الروايات التي نقلناها آنفا .

و حتى لو جردنا الموضوع عن جانب الوحي و الاتصال بالله و قلنا بأن جميع الايدولوجيا المطروحة لحل المشاكل الاجتماعية صالحة للاستخدام و مؤدية إلى الإصلاح فالشيوعية و الاشتراكية و الرأسمالية و النظام الإسلامي و غيرها من الأنظمة صالحة جميعا حتى في مواضع تناقضها لكان هذا الكلام ضربا من السفسطة المنتهية إلى القول بجواز اجتماع النقيضين .

 
تعارض ادعاءات الحقيقة[44]

 

الإيمان بالتثليث إما أنه منج يوم القيامة أو أنه مهلك و أنه لا قيمة له ولا يجوز أن يكون منج و مهلكا يوم القيامة للزوم ذلك اجتماع النقيضين ، القول بالتعددية الدينية يلزم أن نقول بأن المؤمن بالتثليث ناج و هالك في آن واحد مما يلزم التناقض أو أن نقول بأن هذه العقائد لا مدخلية لها و أهم شيء هو العمل و الأخلاق كما فعل هيك .

و إن جئنا إلى الأخلاق فهل يعتبر التسول من مكارم الأخلاق و دافعا نحو التواضع و الإحساس بشعور الفقراء كما تقول البوذية أم أنه امتهان لكرامة الإنسان نفسه؟ لا يمكن أن تكون كلتا الإجابتين صحيحة ، و قس على هاذين المثالين غيرها من الأمور سواء في الناحية العملية الأخلاقية الاجتماعية أو النظرية العقائدية الأخروية .

ربما يقول قائل بأننا أقررنا بأن الحقيقة الإلهية عصية على الإدراك و بنسبية التوحيد و أنه أمر تعبدي و هذا كفيل بتشريع التعددية ، و لكن الحق أن التعاليم الدينية ليست مقتصرة على فهم حقيقة الذات الإلهية بل تشتمل أيضا على تعاليم كثيرة عقائدية و أخلاقية و فقهية و غيرها ، و حتى بالنسبة إلى فهم الذات الإلهية نجد كل دين يطرح مفهوما للذات الإلهية لا يسمح بتجاوزه فالإسلام يفرض على أتباعه الإيمان بالتوحيد و نفي الشركاء كما تفرض النصرانية الإيمان بالتثليث و بعض الأديان الإيمان بالثانوية و هكذا .

الأمثلة عديدة على وقوع التعارض بين تعاليم الأديان فبينما يعتقد المسلمون أن المسيح (ع) لم يقتل و لم يصلب يعتبر ذلك من أسس العقيدة النصرانية ، بل إن الخلاف واقع بين المذاهب المختلفة من الدين الواحد فبينما يعتقد الشيعة بأن الزهراء (ع) كسر ضلعها و أسقط جنينها ينفي السنة هذه الواقعة من أساسها ، و لا شك أن الحق لا يتعدد في هذه الأمور و في ذلك يقول الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل (( لما كانت الأديان الكبرى لا تتفق فيما بينها فإنه من المنطقي ألا يكون أكثر من دين واحد على حق ))[45].

إشكالية التناقض هذه تهدد نظريات التعددية و تضربها بالصميم و لذا خصص جون هيك جزءا من بحوثه ليناقشها و يردها ، و يبدأ أولا بتصنيف أنواع التعارضات الواقعة بين الأديان كما يلي :

 

- مستويات تعارض الحقائق الدينية :

 

أولا: التعارض التاريخي

 

التعارض التاريخي يكون إما تعارضا في نقل واقعة تاريخية يمكن إثباتها بالوثائق و النصوص و الآثار و غيرها ، أو تعارضا في تفسير نوايا و سرائر الأشخاص مما لا يمكن إثباته بوثيقة أو غير ذلك ، فمثلا يتفق السنة و الشيعة بأن عمر بن الخطاب اعترض على طلب الرسول (ص) عندما كان يحتضر و أمر بإحضار دواة و كتف ليكتب كتابا للمسلمين لا يضلون بعده ، و لكن تفسير السنة لنية عمر تختلف عن تفسير الشيعة ، و على كل حال أولى جون هيك أهمية للجانب الأول من التعارضات التي تقع في حوادث ظاهرية يمكن إثباتها بالوثائق و غيرها ، و تبرز أهمية المشكلة هنا في أن بعض القضايا التاريخية تعتبر عقائد ثابتة و راسخة و جزءا من المنظومة العقائدية للدين أو المذهب لا يصح إلا به ، كالإيمان بحادثة الإسراء و المعراج في الإسلام ، و الإيمان بحادثة الغدير في المذهب الشيعي ، و أحيانا يثبت دين حادثة تاريخية أساسية و ينفيها دين آخر كحادثة الصلب التي ينفيها الإسلام و تثبتها النصرانية و كاعتقاد أن النبي إبراهيم (ع) ضحى بابنه إسماعيل عند المسلمين حيث يعتقد اليهود أنه ضحى باسحق (ع).

و عندما نراح الحلول التي يطرحها جون هيك لهذا النوع من التعارض لا نرى أي حل واقعي للمعضلة ، فالمعالجة الأولى التي يقدمها هي النقد التاريخي و الفحص العلمي للأحداث التاريخية التي يدعيها أي دين للتأكد من ثبوت و عدم ثبوت الحدث و الاعتماد في ذلك على الوثائق و الأدلة العلمية و إثارة حالة النقد الذاتي بين أتباع الأديان و المذاهب ، و واضح أن هذه المعالجة و من خلال الخبرة التاريخية الطويلة في هذا المجال عجزت عن حل المعضلة الطائفية و بقي الناس متمسكين بعقائدهم حتى تلك التي لا دليل عليها ، بل إن ادعاء أن بعض الأحداث التاريخية تعتبر من الأجزاء الأساسية في الدين أو المذهب التي يخرج منكرها عن ذلك الدين أو المذهب يجعل من معالجة هيك هذه دعوة لابتكار ديانة جديدة في عرض الديانات و المذاهب الأخرى لا في طولها كما بينا ، و أما المعالجة الثانية التي يطرحها هيك فهي أيضا عاجزة عن تقديم حل فعلي للإشكالية فحسب رأيه "يكون السبيل الوحيد لحل تعارض الحقائق التاريخية بين الأديان هو تعميم التسامح بين الأديان فليؤمن أتباع أي دين بما يريدون و ليكونوا متسامحين مع أتباع باقي الأديان و مع حقائق الأديان الأخرى ، حتى ولو كانت متعارضة مع حقائق دينهم ، فالإيمان بثبوت حقيقة تاريخية ما أو عدمه لا يسلخ عن أي دين وظيفته في خلاص البشر و تحررهم ، الوظيفة التي تتمحور حول الانتقال من التمركز الذاتي في الحياة إلى تمركز الوجود و الحياة على الحق الأعلى ، بعبارة أخرى عدم الإيمان بجملة حقائق تاريخية مؤكدة أو الإيمان ببعض الحقائق التاريخية المغلوطة لا يفقد أي دين أهليته في تحقيق واقع خلاصي أو تحرري للأفراد أو الجماعات بل يمكن القول أن وظيفة الخلاص لا تتطلب منظومة دينية كاملة و سليمة من أية ثغرات أو أخطاء ، بل يكفي أن يكون مجمل تكوين أي دين مؤهلا للقيام بوظيفته المحورية ، ألا و هي توفير شروط الخلاص و التحرر البشريين"[46] و علاوة على أن معالجة هيك هذه لا تمس صميم الإشكالية ولا تعالجها فهي غير ممكنة التطبيق بين كثير من الأديان و المذاهب التي يتطلب الإيمان بأحدها اتخاذ موقف عدائي من الآخر أو رموزه فعلى سبيل المثال يعتبر تقديس بعض الشخصيات في التاريخ الإسلامي واجبا شرعيا أساسيا في المذهب السني بينما يعتبر اتخاذ موقفا عدائيا اتجاههم واجبا شرعيا في المذهب الشيعي و لا يقبل أبدا على أساس النصوص الدينية أن يتخذ أحد موقفا محايدا اتجاه هذه الشخصيات[47] .

 

ثانيا: التعارض فوق التاريخي

 

و هو التعارض الواقع في الحقائق العقلية و الفلسفية كأزلية الكون و فيما إذا كان له بداية و نهاية و كيفية بداية الكون و مصير البشر بعد الموت ما بين فكرة التناسخ و فكرة الجنة و النار ، و يوضح هيك أن الديانات الشرقية كالهندوسية و البوذية تتخذ مواقف تقابل مواقف الديانات الإبراهيمية بصورة عامة في هذه القضايا ، و يعالج هيك المسألة بنفس طريقة معالجته للتعارض التاريخي حيث يحث على التسامح و تقبل الرأي الآخر ، كما ينفي صلة الاعتقاد بهذه القضايا عن مسألة الخلاص و النجاة كما تبين سابقا ، أضف إلى ذلك أنه يقلل من حدة التعارض بين الأديان الشرقية و الإبراهيمية في هذه القضايا حيث أن هنالك العديدون من أتباع الديانات الإبراهيمية مثلا يعتقدون بالتناسخ كما أن هنالك العديدين من أتباع الديانات الشرقية لا يعتقدون به و يرون أنه نوع من الأسطورة .

لقد حاول هيك أن يأخذ القول الفصل من العلوم الطبيعية و بالتحديد علم الكونيات (الكوسمولوجيا) إلا أنه لم يجد جوابا شافيا في هذا المجال مما جعله يبحث في المسألة في إطارها الديني .

 

ثالثا: التعارض الإلهي

 

أي التعارض في فهم طبيعة الذات الإلهية و يرى هيك أن هنالك قالبين رئيسيين هما القول بالإله المشخص و هو ما تذهب إليه الأديان السامية و قد عرف من جال مباحث التوحيد أن القول بالإله البسيط المجرد اللامحدود هو مذهب أهل البيت (ع) ، و القول الثاني هو القول بالإله المجرد و هو ما تذهب إليه الديانات الشرقية ، و قد مر الكلام في هذا الموضوع مفصلا .

 

* مقاربات جون هيك و التعدديين لتفسير التناقض الواقع بين الأديان:

 

أ- الجهل المتبادل

 

خلاصة هذه المقاربة أن الأديان حتى زمن قريب نشأت و تبلورت في بيئات و ثقافات منغلقة غير محتكة بالأديان الأخرى حتى بدأت هذه الأديان لاحقا بالتوسع ووقعت الحروب بينها بدل الحوار ، فنشأت الحقائق الدينية في كل دين في تجاهل كامل لأية حقيقة دينية تستحق الاهتمام خارجه و لعل ما فتح باب النظر و الاهتمام في الأديان الأخرى هو الجهد الأكاديمي الذي نشط في أواخر القرن الـ19م في علم مقارنة الأديان و فيما قبل ذلك كانت الكتابة عن الأديان الأخرى كتابة إدانة و اتهام و افتراء ، و على أساس ذلك يرى هيك (أولا) أن تبلور الحقائق الدينية في بيئة مغلقة يعني أنها ليست حقائق مطلقة بل حقائق متأثرة بثقافة و ظروف تلك البيئة و (ثانيا) أن ما تم تثبيته من حقائق دينية في أي دين لم يأت لينقض دينا آخر و إنما نشأ من دون ملاحظة الأديان الأخرى.

و يمكن أن يلاحظ أن هذا الكلام لا يحل إشكالية التناقض بأي وجه من الوجوه كما أنه لا يمكن تعميمه فالمذهب الوهابي مثلا نشأ كردة فعل كما أن البروتستانتية نشأت أيضا كردة فعل إصلاحية على مذهب آخر و هكذا كثيرة من الأمثلة ، كما أن نشأة الأديان في بيئات متباعدة لا ينفي التعارض الواقع بينها إذا كانت هذه الأديان بصدد تقديم إجابات عن مواضيع مشتركة كإثبات أو نفي وجود الله مثلا أو كحرمة نكاح المحارم أو إباحته .

 

ب- نقد مبدأ الدين

 

و في هذه المقاربة يجرد الدين من كونة منظومة فكرية مبنية على أسس عقلية ليوصف بأنه جزء من التراث الشعبي و العادات و التقاليد و بالتالي لا معنى أساسا لأن نناقش تعارض الأديان فمناقشتنا للأديان كمناقشتنا لعادات الشعوب و طبائعهم و أمزجتهم و سؤالنا عن الصحيح منها ، يقول ألفرد كانتويل : (( ما نسميه و نميزه كدين هو وحدة تجريبية يمكن تعقب وقائعها في التاريخ و يمكن تحديد تموضعها و تواجدها الجغرافي ، فما يسمى الدين كالإسلام و المسيحية و البوذية هو مجرد ظاهرة بشرية أو مجموعة كائنات بشرية ذات تاريخ خاص )) و يقول (( منذ عصر التنوير عندما بدأت أوربا تعتبر الدين كنظام عقلاني و فكري و نسق من المعتقدات أصبح بالإمكان و لأول مرة تسمية المسيحية و البوذية بالدين و أصبح بالإمكان بالتالي توصيفها بالصحيحة و الخاطئة ، فالأسماء التي نعرف بها الأديان المختلفة كمجموعة نظم متنافسة من المعتقدات الدينية و الفكرية قد اخترعت في القرن الثامن عشر (ما عدا الإسلام) ، ولم تكن قبل ذلك معروفة كذلك ، و بالتالي لم يكن أحد ينظر إلى كونها صحيحة أو خاطئة بقدر ما ينظر إليها كمجموعة تقاليد و علاقات تطورت داخل بيئات ثقافية و حضارية متنوعة ، أي أن النظر إلى الدين كمجموعة معتقدات و أفكار هو الذي دفع إلى اعتبارها إيدولوجيات متنافسة )) و هذا الكلام مرفوض جملة و تفصيلا في المذهب الشيعي إذ أن قاعدة اللطف المبحوثة عند علماء العقيدة تقتضي أن لا تخلو الأرض من حجة سواء كان نبيا أو إماما أو وصيا و بالتالي فإن التعاليم الإلهية التي هي الإسلام موجودة في كل زمان بل إن أول الخلق كان نبيا و هو آدم (ع) و قد بلغ رسالة التوحيد كما بينا في معنى الإسلام و الفرق بينه و بين الشريعة ، ثم إنه كيف يقال بأن عادات الشعوب لا يمكن أن يحكم عليها بالصحة و الخطأ؟ نعم هنالك عادات تقع في إطار المباحات و تختلف بين شعب و آخر و قبيلة و أخرى ، و لكن هنالك عادات يحكم العقل العملي و الدين المبتني على القواعد العقلية اليقينية بحرمتها أو قبحها أو وجوبها أو استحبابها كوأد البنات في الجاهلية و أكل لحوم البشر ، و كذلك يلاحظ أن في الكلام المذكور إنكار مبطن لارتباط الأنبياء ارتباطا واقعيا بالله تعالى من خلال الوحي ، و كلام هيك مشابه لكلام مشركي قريش عندما اتهموا النبي (ص) بأنه أخذ الوحي من حداد رومي فنزلت الآية المباركة (( و لقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين ))[48] و قد نفى الله تعالى أية جنبة ذاتية للنبي (ص) في الوحي فقال : (( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ))[49] فالمسلمون يعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى نصا و معنى ، و أؤكد أن نص القرآن أيضا ليس من صنع رسول الله (ص) و إنما هو من الله تعالى .

 

ج- مقاربة الأرنب و البط

 

لو كان شكل الأرنب مألوفا عند أصحاب ثقافة ما و شكل البط مجهولا عندهم بينما كان شكل البط مألوفا عند ثقافة أخرى و كان شكل الأرنب مجهولا عندهم ، ثم عرض على كل من الثقافتين حيوان شبيه بالأرنب و البط لقرر أصحاب الثقافة الأولى وبلا شك أن الحيوان المعروض هو أرنب بينما يقرر أصحاب الثقافة الثانية بأنه بطة ، يأخذ هيك هذه المقاربة من فتغنشتاين في كتابه "تحقيقات فلسفية" ثم يضيف أنه لو سئل أصحاب الثقافة الأولى عن التفسير الذي ذكره أصحاب الثقافة الثانية لخطأوهم و العكس صحيح ، و بالتالي يمكن القول إن تناقض الحقائق الدينية ليس تناقضا حقيقيا و إنما هو مبني على الثقافة و البيئة و غيرهما من العوامل التي تؤدي إلى تباين تفسير المجتمع للخبرة الدينية .

و على هذا النسق يقول بيتر فارب في كتابه "بنو الإنسان" : (( و بالرغم من أن معظم الناس يميلون لتنظيم ما يصل إلى أدمغتهم من مؤثرات بصرية في عدد محدود من طرق متشابهة ، فإن بعض الإدراك يعتمد إلى حد كبير على اختلاف المدركين في ميزاتهم الفردية ، و مما يؤثر في الإدراك تأثيرا هاما واضحا أن الناس يرون ما يتوقعون رؤيته ، و هذه التوقعات نتيجة مباشر لخبراتهم السابقة و مستوى تعليمهم و حوافزهم ، ففي تجربة تقليدية قسم عدد من المتطوعين إلى ست مجموعات ، أفراد كل مجموعة متجانسون يشتركون معا في اهتمام مشترك كالدين أو الاقتصاد الخ . ثم عرضت على شاشة صور وكلمات مختلفة و طلب إلى المتطوعين تسجيل الكلمة أو الصورة التي أدركوها أولا "فوجد أن أفراد المجموعة الواحدة المتشابهين في الاهتمام كان اختيارهم في الغالب متشابها" فالذين كانوا يهتمون بالدين كانوا أول من أدرك كلمة "مقدس" و الاقتصاديون أدركوا قبل غيرهم كلمة "دخل" أو "ربح" ... الخ ))[50]

و المتأمل فيما سبق يجده أليق بحل التعارض في تفسير التجربة القلبية الصوفية و قد أشرنا إلى كلمات عرفاء الشيعة في ذلك و لكن أنى يمكن حل التناقض التاريخي و الفوق تاريخي و التشريعي (الفقهي) الحاصل بين الأديان بهذه المقاربة .

 

د- مقاربة الفيل

 

من المقاربات التي استعان بها دعاة التعددية لتفسير التعارض الواقع بين الأديان مقاربة الفيل التي ذكرت في "مثنوي" و نقلها جون هيك بتصرف و حاصلها أنه لو فرضنا مجموعة من المكفوفين أو المبصرين في غرفة مظلمة وكانوا لا يعلمون ما هو الفيل ، و جئناهم بفيل ثم لمس بعضهم عاج الفيل و لمس البعض الآخر رجله و لمس الباقون خرطومه ، ثم لو طرحنا عليهم سؤالا عن الفيل ما هو؟ لأجاب من لمس عاجه بأنه شفرة محراث ضخم و أجاب من لمس رجله بأنه عمود كبير حي ، ولأجاب من لمس خرطومه بأنه أفعى عظيمة ، و كل هؤلاء على حق و كل منهم عرف جزء الحقيقة .

و أجيب هذا التمثيل بأن الأشخاص المفروضين في هذا المثال يفتقدون الحاسة التي من خلالها يمكن إدراك الواقع و هي البصر أو أن هنالك مانع من عمل هذه الحاسة و هو الظلام ، و إلا لما كانوا يختلفون في تشخيص الحقيقة ، كما أنه لا يمكنهم أن يدركوا المبصر – بفتح الصاد – عن طريق اللمس ، كما لا يمكن إدراك الأصوات عن طريق البصر و هكذا ، و من هنا فإنه لا يمكن إدراك وجود الله تعالى عن طريق الحواس و التجربة كما أراد الغربيون و إنما يدرك الله تعالى عن طريق البرهان و العقل و عن طريق الفؤاد أو القلب أو الحدس على اختلاف التسميات و الذي هو أداة الكشف و الشهود ، يقول العلامة السبحاني : (( كما أنّ هناك حاسة خاصة لإدراك المعارف الإلهية وصفات الله الجلالية والجمالية وبشكل عام إدراك القضايا الماورائية وهي العقل والبرهان ، ولا يمكن الابتعاد عن العقل والاعتماد على الحس في إدراكها. فالنتيجة التي خلصنا لها من هذا المثال هي النتيجة نفسها التي أكدها الشاعر مولوي ، إذ قال: إنّ جهل هؤلاء بحقيقة الفيل يعود إلى فقدان شرط الإدراك الحسي وهو الشمعة والنور، وإلا فمع تحقق الشرط المذكور سيكشف الواقع لهم ، وباستخدام العقل والمنطق سيتمكن المتدينون أيضاً من تمييز الحق عن الباطل والصحيح من الفاسد ))[51] فلم يكن جلال الدين الرومي يذهب إلى التعددية الدينية كما فهم هيك بل إن لمولوي أقوالا صريحة في كتبه يصرح فيها بانحصار الحق في دين معين[52].

 

هـ - مقاربة المخروط الزجاجي[53]

 

لو فرضنا وجود مخروط زجاجي كبير ذي أسطح متعددة ذات ألوان مختلفة و كان هنالك مجموعة من الناس ينظرون إلى هذا المخروط من جهات مختلفة ثم طلب منهم أن يصفوا المخروط لوصفه كل منهم طبقا للجهة التي كان ينظر من خلالها و كان كلهم على حق ، و واضح لمن درس المنطق الأرسطي و عرف الوحدات الثمانية في مبحث التناقض ضعف هذا الاستدلال على التعددية الدينية .

 

و- مقاربة الموجة و الذرة

 

قد يكون هنالك ظهورات و تجليات متعددة للشيء الواحد فالضوء مثلا يمكن أن يدرج كموجات ممتدة و يمكن أن يدرك كمجموعة ذرات ، و الطاولة مثلا يدركها رجل الشارع بأنها قطع من الخشب مصممة بشكل توضع عليه الأشياء ، و يدركها الفيزيائي بأنها كتلة من الجزئيات و هذه الجزئيات عبارة عن مجموعات من الذرات و هذه الذرات عبارة عن مجموعات من الالكترونات و الأنوية و النيوترونات و كل من مكونات الذرة هذه عبارة عن مجموعة من الجزيئيات الأصغر كما ثبت في علم الفيزياء الجزيئية ، و قد يأتي عالم النبات فينظر إلى الطاولة الخشبية نظرة تتمحور حول نوع الخشب و الشجرة التي أخذ منها و هكذا ، و على أساس التمظهر يمكن وصف الطاولة بأوصاف متباينة ظاهرا إلا أنها ليست متناقضة و هكذا استخدم هيك هذه المقاربة ليحل معضلة تعارض ادعاءات الحقيقة و هي مقاربة صالحة لما تقدمه الأديان من تفسير لبعض الحقائق الغيبية أو غيرها إلا أنها لا تصلح أيضا في تفسير التعارض الحاصل فيما تقدمه الأديان من ايدولوجيات أو اعتقادات تتعلق بقضايا تاريخ إما أنا حصلت أو لم تحصل كصلب المسيح (ع) .

 

ز - الحقيقة الحرفية و الحقيقة المجازية

 

لا شك أن كثيرا مما ورد في النصوص الدينية جاء على نحو المجاز و الرمز ، فقد اختلف علماء الشيعة مثلا في الأعور الدجال الذي يخرج آخر الزمان و منهم من اعتبر ذلك رمزا لا رجلا واقعيا ، و من هنا قد يحصل التناقض بين ادعاءات الحقيقة بحيث يفهم ما جاء مجازا على أنه حقيقة حرفية ، و يفهم ما جاء على لسان الشارع مقصودا به حقيقته الحرفية على أنه رمز و مجاز ، و يضرب جون هيك مثالا على ذلك من النصرانية في فكرة تجسد الله في المسيح حيث يرى بأن الفكرة كانت تتداول في المراحل المسيحية المبكرة و يقصد بها معناها المجازي ثم أصبحت لاحقا عقيدة يقصد بها معناها الحرفي .

و في الواقع تعتبر مقاربة هيك هذه إضافة إلى المقاربات السابقة صالحة و فعالة في حل العديد من مواقع التعارض بين ادعاءات الحقيقة إلا أنها ليست كافية لنسف جميع أوجه التعارض بين الأديان بما فيها الأوجه الأساسية سواء منها العقائدية أو الأيدولوجية أو التاريخية ، و إذا كنا لا نوافق هيك فيما يذهب إليه من تشريع التعددية الدينية إلا أننا نرى بأن مجهوده في هذا المضمار يستحق التنقيح و العناية كي يستخدم في نشر التسامح الديني و التقريب بين الأديان و المذاهب و تقليص دوائر الخلافات حتى ضمن إطار المذهب الواحد .

المشكلة التي وقع فيها هيك هي أنه أراد أن يجمع بين أمرين الأول تمسكه بدين معين و هو النصرانية و النصرانية كأديان أخرى غيرها تحصر الخلاص في اتباعها ، لكنه أراد في نفس الوقت أن يقول بالتعددية الدينية لأنه يراها أمرا واقعا في الحياة و بالتالي فقد اضطر إلى أن يغير كثيرا من المفاهيم الدينية وفق رؤيته و استنادا إلى عقله كمفهوم الخلاص ، و بالتالي كأنه جمع بين الألوهية Deism التي لا تعتقد بالنبوات و تعتمد العقل أساسا للتوصل إلى التكاليف الإلهية و بين الإيمان بالنبوات المعتمد على الوحي و الكتب المقدسة .

 

* الأديان كمصادر متعددة للحقيقة:

 

ينسب إلى بعض دعاة التعددية القول بأن كل دين عبارة عن خليط من الحق و الباطل و لا يوجد بينها ما هو حق محض أو باطل محض و بالتالي فكل دين يشتمل على جزء الحقيقة و من يمكن للشخص أن لا يعتنق دينا محددا و إنما يستفيد من كل الأديان على حد سواء و يأخذ منها و يرد ، و بالتالي لا يصنف الشخص تحت ديانة محددة بل هو مسلم و مسيحي و يهودي و زرادشتي و بوذي و هندوسي في نفس الوقت ، و واضح مدى تعارض هذه الدعوة مع تعاليم عديد من الأديان ، فمن الأديان ما يدعي العصمة لنفسه كالإسلام ، و من الأديان ما لا يدعي ذلك فمثلا ينسب إلى بوذا بعض الأقوال التي تفيد بأنه لم يدع العصمة لنفسه و أمر بالنظر في تعاليمه و عدم أخذها أخذ المسلمات مع قوله بأن البوذية هي أسرع الطرق الموصلة إلى التنوير ، فالدعوة التعددية المذكورة لا تتوافق مع الأديان التي تدعي انحصار الحقيقة فيها كالإسلام دون غيرها من الأديان ، فقد بين القرآن و بكل وضوح كفر من يؤمن ببعضه دون البعض الآخر حيث قال : (( أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون ))[54] و قال سبحانه : (( إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا و أعتدنا للكافرين عذابا مهينا ))[55] و هذا لا يعني عدم وجود بعض الحقائق في الأديان الأخرى إلا أن المصدر النقي للحقيقة لا يوجد إلا في دين واحد .

 

* مقاربة شيعية نحو التعددية[56]:

 

تنبع هذه الرؤية من علم الأصول و بالتحديد من الخلاف القائم بين المخطئة و المصوبة ، حيث يذهب المخطئة إلى أن للتكاليف الشرعية مصالح و مفاسد في نفسها بينما يذهب المصوبة إلى أن لا فائدة في نفس التكاليف الشرعية و إنما تكمن الفائدة في الامتثال و الطاعة و الانقياد للأمر الإلهي كأن يأمر الآباء أبناءهم بأوامر لا علة لها من أجل تربيتهم على الطاعة و الامتثال لا أكثر ، فكمال الإنسان على رأي المصوبة أن يكون كالجارحة بالنسبة لله تعالى التي لا تعصيه طرفة عين (( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون )) و على هذا كلما كان العمل أشد و أصعب كان يحتاج إلى امتثال أكبر و بالتالي محققا لتكامل أشد ، كما أن المعاصي تتفاوت في درجة التمرد فليس كل إنسان قادرا على أن يكون قاتلا للحسين (ع) مثلا بدليل ما حدث في واقعة عاشوراء عندما أرادوا حز نحر الحسين (ع) فهذا يحتاج إلى درجة من التمرد و التسافل غير متوفرة في عموم الناس .

و لكن أليس تجريد العبادات من المصالح و المفاسد و تعليقهما على الانقياد و الامتثال و التعبد يقتضي القول بأن الرياضات الروحية المبتدعة محققة للغرض أيضا بل ربما تكون أفضل لكونها أشد من التكاليف الشرعية و أصعب؟ بل يقتضي القول بالتعددية الدينية و أن الامتثال لمنظومة من الأوامر يحقق الغرض المطلوب من العبادة؟ في هذا يقول العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في "رسالة الولاية" : (( نعم يبقى الكلام في كيفية السير في طريق آية النفس ، وهل بيّنت الشريعة السُبل للوصول إلى هذا المقام السامي أم أهملت ذلك وأوكلت كيفيته إلى السالكين أنفسهم ؟ زعم بعض أنّ كيفية السير من هذا الطريق غير مبيّنة شرعا ، حتى ذكر بعض المصنفين أنّ هذا الطريق في الإسلام كطريق الرهبانية التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم إلهي به فقبل الله سبحانه ذلك منهم قال سبحانه: (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )) قال: فكذلك طريق معرفة النفس غير واردة في الشريعة إلا أنها طريقة إلى الكمال مُرضية. من هنا ربما يوجد عند بعض أهل هذا الطريق وجوه من الرياضات ومسالك مخصوصة لا تكاد توجد أو لا توجد في مطاوي الكتاب والسنة ولم يشاهد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام). وذلك كله بالبناء على ما مر ذكره وأن المراد هو العبور والوصْل بأي نحو أمكن بعد حفظ الغاية ، وكذلك الطرق المأثورة عن غير المسلمين من متألهي الحكماء وأهل الرياضة كما هو ظاهر لمن راجع كتبهم ، أو الطرق المأثورة عنهم. لكن الحق الذي عليه أهل الحق ، وهو الظاهر من الكتاب والسنة ، أن شريعة الإسلام لا تجوز التوجه إلى غير الله سبحانه للسالك إليه تعالى بوجه من الوجوه ، والاعتصام بغيره سبحانه إلا بطريق أمر بلزومه وأخذه وأن شريعة الإسلام لم تهمل مثقال ذرّة من السعادة والشقاوة إلا بينتها ، ولا شيئا من لوازم السير إلى الله سبحانه يسيرا أو خطيرا إلا أوضحتها ، فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. قال سبحانه: (( ونزلنا علَيكَ الكتابَ تِبْيَاناً لكل شيء )) وقال سبحانه : (( ولَقد ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا القرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )) وقال سبحانه: ((قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )) وقال سبحانه: (( لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) والأخبار في هذا المعنى من طريق أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بل متواترة عن أبي حمزة الثمالي (رحمه الله) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع فقال : "يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلا وقد نهيتكم عنه" مما تقدم يظهر أن حظ كلّ امرئ من الكمال بمقدار متابعته للشرع وقد عرفت أنّ هذا الكمال أمر مشكك ذو مراتب ، ونعم ما قال بعض أهل الكمال ، إنّ الميل من متابعة الشرع إلى الرياضات الشاقة فرار من الأشق إلى الأمهل فإن اتباع الشرع قتل مستمر للنفس (الهوى) دائمي ما دامت موجودة ، والرياضة الشاقة قتل دفعي ، وهو أسهل إيثاراً. وبالجملة فالشرع لم يهمل بيان كيفية السير من طريق النفس ))[57] فواضح أن العلامة يرى بأن الشريعة الإسلامية هي الأسرع في الإيصال إلى الكمال بل و الوصول إلى الأكملية محصور في طريقها ، فصلاة الصبح ركعتان قبلهما وضوء إن كان المكلف على حدث أصغر ، ولا يجوز أن يؤتى بدل ذلك بعشرة ركعات مثلا قبلهما غسل مع أن هذا أحمز و أشد ، ولو كان كلام المصوبة صحيحا لما كان ثمة فرق بين الإتيان بصلاة الصبح ركعتين أو عشرة بل تكون العشرة أفضل لأنها أبلغ من تحقيق العبودية و الانقياد ، و لكن السيد العلامة الطباطبائي (رحمه الله) يبين في نهاية كلامه أن الكمال ذو مراتب لا يتحقق أعلاها إلا بالشريعة الإسلامية ، و لكن هل يمكن تحقيق بعض هذه المراتب في غير الشريعة الإسلامية؟ و إذا كان ذلك ممكنا فهل يجب على الإنسان أن يسعى إلى الأكمل أم هل يجوز له أن يكتفي ببعض مراتب الكمال؟ يأتي الجواب على ذلك بأدلة نقلية و عقلية بأن المكلف ملزم بأن يسعى إلى الأكمل دون بعض مراتب الكمال كما أنه مكلف بأصل المسير نحو كماله ، و عليه أن يبذل قصارى جهده لتحقيق هدف خلقته ، يقول آية الله السبحاني : (( و لو أعرضنا عن كل ما تقدم نقول : إن الأديان التاريخية الكبيرة هي بمنزلة مجموعة معرفية تتشكل من منظومة عقيدية واحدة إلا أننا متى شخصنا الأكمل من بينها فعلينا بحكم العقل اتباعها ، و هذه الحقيقة صرح بها بعض أنصار البيلوراليزم ، يقول "وليم الستون" : "أنا لا أعتقد أن جميع الأديان التي امتدت على طول التاريخ ستستمر حتى اليوم و هي متساوية بذلك من منظار معرفي" ويقول "و من الممكن أن نرجح ملاحظات الآخرين على قسم من هذه المنظومة على البعض الآخر" ))[58] ، نعم جعل الله طرقا أخرى غير الشريعة الإسلامية موصلة إلى أواسط الطريق لكي لا يضيع جهد من عمل وفق اجتهاده من المستضعفين و المجتهدين كما تبين في مبحث المستضعف ، و لكن السائر على هذه الطرق لا يصل إلى الكمال المطلق بل قد لا تزيده كثرة السير إلا بعدا عن القرب الإلهي و هدف الخليقة ، من هنا نجد أن الروايات و الآيات توعدت المعاندين دون المسلمين للحقيقة ممن أخطأ الحق بل قد نستفيد من بعض الآيات و الروايات أن الله تعالى يهدي المسلمين للحقيقة إلى الصواب في نهاية المطاف قال تعالى : (( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر و أنثى ))[59] و قال سبحانه : (( و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ))[60] ، قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في كتابه "الإنسان و العقيدة" : (( ومن هنا يظهر أن المختص من السعادة بالمنتحل بدين الحق ، إنما هو كمالها وأما مطلق السعادة فغير مختص بالمنتحل بدين الحق ، بل ربما وجد في غير المنتحل أيضا إذا وجد فيه شيء من الانقياد أو فقد شيء من العناد بحسب المرتبة . وهذا هو الذي يحكم به العقل ويظهر من الشرع ، فإنما الشرع يعين حدود ما حكم به العقل ، كما في الحديث المشهور عنه (صلى الله عليه وآله) ، قال : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) وذلك كما ورد في كسرى وحاتم أنهما غير معذبين لوجود صفتي العدل والجود فيهما . وفي (الخصال) عن الصادق عن أبيه عن جدّه عن عليّ (عليهم السلام) قال : (( إن للجنة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبيُون والصدّيقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا ، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول : رب سلم شيعتي ومُحبي وأنصاريَ ومَن تولاني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بُطنان العرش : قد أُجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك . ويشفع كل رجل من شيعتي ومَن تولاني ونصرني وحارب مَن حاربني بفعل أو قول في سبعن ألف من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت )) وفي "تفسير القمي" مسندا عن ضُريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له : جُعلت فداك ما حال الموحدين المقرّين بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال : (( أما هؤلاء ، فإنهم في حُفرهم لا يخرجون منها . فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة فإنه يُخد له خدا إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب فيدخل عليه الروحُ في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيئاته فإما إلى الجنة وإما إلى النار فهؤلاء المُرجَون لأمر الله )) قال : (( وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم وأما النصاب من أهل القبلة ، فإنه يخد لهم خدا إلى النار التي خلقها الله في المشرق فيدخل عليهم اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ، ثم بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم )) وفي دعاء كميل المروي عن عليّ (عليه السلام) : (( فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك لجعلت النار كلها بردا وسلاماً ، وما كانت لأحد فيها مقرا ولا مقاما ، لكنك تقدَّست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنة والناس أجمعين وأن تخلد فيها المعاندين )) الدعاء ، وأكثر الآيات القرآنية إنما توعد الذين قامت لهم البيّنة وتمّت عليهم الحجّة وتقيد الكفر بالجحود والعناد ، قال تعالى : (( وَالَذِينَ كَفَرُوا وَكَذبواْ بِآيَاتِنَا أولـئكَ أَصْحَابُ الجَحِيم )) وقال تعالى : (( ليهلك مَنْ هلكَ عَن بينَة ويحيى منْ حي عَن بَينَة )) وبالجملة : فالميزان كل الميزان في السعادة والشقاوة والثواب والعقاب هو سلامة القلب وصفاء النفس ، قال سبحانه : (( يَوْمَ لا ينفعُ مَالٌ ولا بَنُون إِلا مَن أتى الله بِقَلب سليم )) وقال سبحانه : (( يوم تبلى السرائرُ )) وجميع الملل الإلهية تروم في تربية الناس هذا المرام ، وهذا مسلم من سلائقها وما تندب إليها ، وهو الذي يراه الحكماء المتألهون من السابقين وأما شريعة الإسلام ، فأمرها في ذلك أوضح غير أنها ـ كما مرّ في أوار الفصل الثاني ـ تدعو إلى كل سعادة ممكنة إلا أن معرفة الرب من طريق النفس حيث كانت أقرب طريقا وأتمّ نتيجة فإتيانها لها أقوى وآكد ؛ ولذلك ترى الكتاب والسنة يقصدان هذا المقصد ، ويدعوان إلى هذا المدعى بأي لسان أمكن ))[61] و واضح الفرق بين هذا المنهج و المنهج المخالف للنصوص و الذي يقصر دخول الجنة و النجاة من النار على فئة قليلة هي الشيعة فقط أو ربما بعض الشيعة .

 

* الفهم الفلسفي للدين[62] :

 

مقاربة أخرى للتعددية الدينية ربما نستطيع القول أنها تلتقي مع نظرية جون هيك تنطلق من أنثروبولوجيا الدين و تطوره مع تطور الفكر البشري و نمط الحياة و المعيشة ابتداء بعبادة المجموعة السماوية كالقمر في فترة الصيد و القنص و الرعي ثم عبادة الشمس عندما انتقلت البشرية من مراحل الصيد و القنص و الرعي إلى مرحلة الاستقرار و الزراعة لما للشمس من دور في ذلك ثم عبادة سائر النجوم ، و المرحلة الثانية من مراحل العبادة اتجه فيها الإنسان للأرض كإله ، و المرحلة الثالثة اتجه فيها إلى الجنس حيث ربط الإنسان بين خصوبة المرأة و الأرض و ربط الجنس بسر الحياة الذي تنشأ منه ، ثم انتقال الإنسان إلى عبادة الحيوانات بمختلف أنواعها و يرى هيجل أن "عبادة الحيوان عند المصريين القدماء تمثل مرحلة أرقى من تلك المرحلة التي عبدوا فيها ظواهر الطبيعة المادية فقد تصور المصريون في عالم الحيوان الشيء الباطني و ما هو غير قابل للإدراك"[63]، في المرحلة الخامسة عبد الإنسان نفسه و الملوك ، و في المرحلة السادسة ظهرت الديانات البشرية المتمثلة في ديانات الحضارات القديمة كديانة التوحيد عند اخناتون و البوذية و الديانة الهندية القديمة و الزرادشتية و الكونفوشية حتى ظهرت الديانات السماوية الثلاثة اليهودية و المسيحية و الإسلام .

يأتي التفسير الفلسفي للسرد السابق مميزا بين الخبرة الدينية أو ما يعرف بالخبرة الصوفية و بين تفسير هذه الخبرة ، فالخبرة الدينية موجودة عند جميع البشر على مر العصور ظاهرة عند بعضهم و خفية عند البعض الآخر و هذه الخبرة أو الحس "يكمن في أعماق كل قلب بشري بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء"[64] و هذه الخبرة هي الدين ، و هنالك على الجانب الآخر تفسير هذه الخبرة و هو التمظهر الديني الذي يظهر في عبادة الكواكب و النجوم تارة و عبادة الأوثان تارة أخرى و هكذا كما بينا متغيرا حسب ظروف الزمان و المكان و البيئة و الثقافة و نمط الحياة ، و من هنا يخلص الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إلى التعددية الدينية حيث يقول : (( ولا بد هنا من أن نبرز حقيقة هامة قد تغيب عن الكثيرين و قد تسبب مشكلات لا حصر لها و هي أنه من الخطأ تماما أن نوحد بين هذه الخبرة الدينية و بين لون معين من ألوان التفسيرات التي قدمت لها ، أو أن نقول إن الدين هو هذا الشكل المعين الذي عبر عن الخبرة الدينية في مرحلة من المراحل ولا شيء غير ذلك ، و إلا سوف نقع في مشكلات لا حصر لها ، ولعل من أبسطها مثلا – أن ينتج عن ذلك أن أتباع دين معين لا بد أن يكونوا ملاحدة في نظر أتباع دين آخر و هو خلط لا يقبله عاقل ، فالاختلاف لا يعني اختلاف هذه الخبرة وإنما يعني اختلاف تفسيرها و التعبير عنها ، فالخبرة الدينية كغيرها من الخبرات البشرية ذات طابع واحد عند الناس جميعا ، و هذا هو المعنى الصحيح للقول بان الدين صالح لكل زمان و مكان ، فهي لا تختلف بين الأفراد إلا بمقدار ما تختلف الخبرات البشرية الأخرى كالخبرة الجمالية أو الحسية أو غيرهما .. الخ ))[65] ثم يستشهد بولتر ستيس على ذلك ، و كما تعرض جون هيك إلى إشكالية تعارض ادعاءات الأديان تعرض دعاة هذه النظرية إلى ذلك حيث قالوا : (( و إذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك كان في استطاعتنا أن نقول إنه على الرغم من أن ثمة أشكالا عديدة من الفن و مذاهب مختلفة من الفلسفة الجمالية ، و هي مذاهب قد لا تقل في تناقضها بعضها عن بعض عن العقائد الدينية المختلفة ، إلا أن الفن في النهاية هو الفن ، و الإحساس بالجمال هو الإحساس بالجمال و كذلك الحال أيضا بالنسبة للديانات ))[66]

 

- الإلحاد استجابة للخبرة الدينية أيضا:

 

بينما يعتبر الدكتور إمام عبد الفتاح الإيمان بكائن متعال أسمى تفسيرا إيجابيا للخبرة الدينية ، يعتبر الإلحاد أي إنكار هذا الكائن المتعال تفسيرا سلبيا لنفس الخبرة الدينية التي هي حقيقة الدين و بالتالي فهو يؤكد أن الإلحاد (لاهوت سلبي) ، فالإلحاد في نهاية المطاف ليس نفيا لقضايا فقط كنفي وجود الله بل يتعدى النفي إلى الإثبات كإثبات المادة الأولى أو غير ذلك ، كما أن التعصب قد يتعلق بالإيمان و الإلحاد على حد سواء مما يعد مؤشرا على أن الإلحاد تفسير للخبرة الدينية على حد التفسير الإيجابي ، و لو بنينا على طرح الدكتور إمام عبد الفتاح هنا القول بأن الممارسات الدينية الخاطئة و المخالفة للأخلاق و القيم و العلم و العقل هي الدافع عند الكثيرين نحو الإلحاد و ليس الدافع لهم إلى ذلك هو التمرد أو الرذيلة لأمكننا المزاوجة بين هذه الفكرة و فكرة جون هيك حينما قال بأن المذاهب الوضعية النضالية كالماركسية و غيرها تؤدي إلى الخلاص و النجاة أيضا .

 

- مناقشة الفهم الفلسفي للدين:

 

أول ما يمكن ملاحظته على السرد السابق هو الاستدلال بالتدرج في تفسير الخبرة الدينية على أن حقيقة الدين هو الخبرة الدينية لا تفسيرها ، و بالتالي يكون الإسلام مثلا ليس سوى مرحلة فكرية من مراحل التفكير البشري تتوافق مع البيئة و نمط العيش ، و الحق أن الإسلام بمفهومه العام الشامل للأديان الإلهية الحقة و الأعم من الشرائع – و كما يعتقد المتشرعة – قديم بقدم البشرية فأول الخلق على الأرض كان نبيا و هو آدم (ع) و لم تخل الأرض يوما من حجة يدعو إلى التوحيد و النهي عن عبادة غير الله و النهي عن الفواحش كالزنا و شرب الخمر ، و بالتالي لا يمكن القول بأن طقوس شرب الخمر في الكنسية أو البغاء المقدس أو الأشكال المختلفة من الشرك هي تفسيرات للخبرة الدينية على حد الإسلام و تعاليمه كما بينا ذلك في روايات نقلناها تبين التعاليم المشتركة التي دعا إليه جميع الأنبياء دون استثناء ، يقول الشيخ المطهري (رحمه الله) : (( .. هناك نظريتان بشأن ظهور عقيدة التوحيد واتجاهات عبادة الأصنام بينهما تضاد ، يشير الاتجاه الأول إلى أن الفكرة التي ظهرت بين البشرية للمرة الأولى هي عبادة الطبيعة ثم اكتسبت عبادة الطبيعة منحى تكميليا فمرت تدريجيا بعبادة الأرواح ثم تغيرت تدريجيا أيضا إلى الوحدانية المتمثلة بعبادة إله واحد . هذه النظرية هي الغالبة لدى أكثرية ذوي الفكر المادي حيث يذهبون إلى أن الفكر الإنساني سار في خط ارتقائي مواز لنمو اقتصاديات الحياة الإنسانية ، بل يذهبون إلى تأسيس نوع من العلاقة بين الجانبين ، فعلى سبيل المثال عندما تتحكم في المجتمع و تهيمن عليه سلطات و قوى متعددة ، فإن ذلك المجتمع سيتجه لعبادة أرباب متعددين أما عندما تكون هناك سلطة واحدة في المجتمع تكون لها الهيمنة لوحدها على إدارته ، فإن ذلك سيكون باعثا لأن يتجه المجتمع في العبادة إلى قوة واحدة . و في كل الأحوال تتجه منهجية التفكير المادي على الأغلب إلى أن التوحيد ولد متأخرا ، فقد مضت ألوف السنين على الإنسانية و هي لم تعرف فكرة الإله الواحد و خالق الكل الذي يستحق العبادة و إنما ظهر ذلك فيما بعد ، بإزاء ذلك ثم نظرية معاكسة ...... تعتقد أن عبادة الأصنام هي وليدة عبادة الله (النمط التوحيدي) فالذي كان يسود البشرية في الوهلة الأولى هو التوحيد و عبادة الإله الواحد ثم حصل الانحراف في هذا المجال ليتمخض عن عبادة الأصنام ، بل جاء في أخبارنا ورواياتنا توضيحا لهذا التحول حيث سئل الإمام [المعصوم عليه السلام] عن وقت ظهور عبادة الأصنام ، فأوضح أنه كان للنبي إدريس تلميذ حكيم باسم "اسقلينوس" يكن له الناس أجل مراتب الاحترام و الحب و أسماها ، عندما توفي تأثر الناس لوفاته كثيرا فلقنهم الشيطان فكرة ملخصها أن يصنعوا لهذا الحكيم تمثالا ، بحيث يسلون أنفسهم برؤيته عما أصابهم من الجزع بفقده ، صنع الناس التمثال للحكيم اسقلينوس و راحت تزور نصبه ، ثم صارت تعظمه حتى امتلكها بالتدريج قناعة مفادها أن لهذه المجسمة [النصب] مزايا معينة و أن روح اسقلينوس قد حلت فيها . بعدئذ صاروا يتوجهون إلى هذا التمثال لطلب حاجاتهم حتى تغيرت سجية عباده الله تدريجيا إلى عبادة الصنم . يؤمن بهذا الاتجاه النظري بعض المستشرقين و عدد من علماء الآثار القديمة و للألماني المعروف "ماكس مولر" نظرية في هذا المضمار كثيرا ما رأيتها في الكتب يذهب فيها إلى أن التوحيد أسبق في الحياة الإنسانية من عبادة الأصنام ، نقل عنه ذلك جول لابوم الذي كتب تفسيرا للقرآن الكريم و آخرون و ربما كان هو أول باحث أوربي يتبنى هذه النظرية بين الأوربيين . و بذلك نحن نؤمن إجمالا أن أول ما ظهر بين البشرية هو عبادة الإله الواحد ثم تمخض المسار عن عبادة الأصنام ، و من جهة أخرى نحن نؤمن أن للأنبياء حضورا في جميع أرجاء الدنيا و قد دعوا الناس إلى التوحيد و من ثم فإن العقائد المنحرفة و الثنوية و التوجه إلى آلهة متعددة و عبادة الأصنام قد ظهرت فيما بعد .. الخ ))[67] و بهذا يتبين موقف الإسلاميين اتجاه ما يسمى بالفهم الفلسفي للدين المنطلق من منطلقات انثروبولوجية ، و أخيرا أختم بكلام آية الله السبحاني حول ذلك إذ يقول : (( من مباني البيلوراليزم فصل الدين عن الشريعة ، فالدين بنظر البيلوراليزم أمر إيحائي ، بينما الشريعة (تعاليم الأنبياء) في مثلث العقيدة ، الأخلاق ، و الأحكام العملية فهي نتاج ذهن الأنبياء ، و حينما تطبق البيلوراليزم سيكون المحور هو الإيمان وليس الشريعة ، و إذا كان الإيمان أساس العمل فسيصان من كل اختلاف ، أما إذا كان الأساس هو الشريعة ، فلا شك سنواجه تعاليم متضادة ستكون نواة للتشدد و الصراع و التنافس ، الإيمان يعني ارتباط النظام العالمي مهما كانت قيمته عالية بعالم آخر هذا من جهة ، و من جهة أخرى فإن الإنسان لا يلتزم بتعاليم الأنبياء ما لم تؤثر به ، و الكمال المعنوي يتحقق عن طريق العقيدة و العمل فمن يقول "محورية الإيمان نواة للوحدة و التوحيد و محورية الشريعة سبب للتفرقة و الانقسام" كمن يعين المدعى مسبقا في كلامه ، ثم يسعى لإثباته ، فتجريد الدين من الشريعة إنهاء للدين و إنهاء للحياة الدينية ، وما لم يترافق الإيمان بالله و العمل الصالح فلا يؤثر الإيمان شيئا في تحقيق سعادة الإنسان ))[68]

 

* التعددية الدينية في الفكر الصوفي :

 

لعل دعاة التعددية الدينية في الغرب يجدون في الفكر الإسلامي الصوفي ركنا متينا يستندون عليه ، فلا شك أن بعض المتصوفة قال بوحدة الأديان أو التعددية الدينية ، كما لا شك أن هذا الاعتقاد ليس مشتركا بين المتصوفة جميعا ، و تبقى نسبة الاعتقاد بالتعددية إلى بعض أعلام الصوفية بأعيانهم  موضع جدل يختلف فيه الباحثون باختلاف تفسيراتهم لكلماتهم كما هو الحال مع ابن عربي أو جلال الدين الرومي مثلا ، من الباحثين المعاصرين الذين ينفون صلة أغلب المتصوفين المسلمين بالتعددية الدينية المطروحة في الغرب هو محمد ليكنهاوزن[69] حيث يقول (( إذا كان هيك واقعاً تحت الانطباع القائل بأن تعدديته الدينية المختزلة يمكن أن تلقى تأييدا في التصوف الحقيقي أو العرفان , فمن مناقشة علمية جدية يمكن القول بأنه على خطأ . فبينما يمكن أن يوجد عدد من أصحاب الطرق الصوفية المنحلين الراغبين لأن يلعبوا دوراً خصص لهم من قبل هيك , فضلاً عن وجود قوانين في الغرب لا يمكن إدخال أو تثبيت أي من غير المسلمين فيها , فإن الأغلبية العظمى من العرفاء في الإسلام كانوا ثبتوا ملاحظة صارمة للشريعة , سابقة على هذا التثبيت في السير والسلوك الروحيين )) ثم قال : ((حاول الصوفيون جادين توضيح حقيقة أن هناك اختلافات بين الأديان التي نزلت أو أنزلت من السماء مع تمييز واضح بين الظاهر والباطن فيها . إن الاختلافات بينها هي اختلافات ظاهرية , أما الباطن فواحد . مع ذلك فإن الغالبية العظمى من الصوفيين يؤكدون بأن الواجب هو اتباع وصايا القانون الإسلامي عبر الشعار القائل : " لا طريقة بدون شريعة , ولا سبيل للباطن إلا من خلال الظاهر , وأن الظاهر المطلوب في العصر الحالي هو ذلك الذي جاء في هذا العصر وهو الإسلام )) [70] و لكن استنتاج ليكنهاوز هذا قد يوضع موضع المساءلة و التشكيك بعد الاطلاع على العبارات الصريحة لأعلام التصوف الإسلامي خصوصا محيي الدين بن عربي و ما توحيه هذه العبارات من فكرة التعددية الدينية ، نعم يبقى هنالك مجال للقول بأن هؤلاء المتصوفة يستخدمون رموزا لا يعلمها غيرهم و لهذا حذرت بعض المرجعيات الشيعية من اتهامهم ، و على كل ففيما يلي بعض العبارات التي كانت منشأ لنسبة التعددية إليهم :

ينسب إلى محيي الدين بن عربي – الذي يعده بعض علماء الشيعة شيعيا عارفا – القول بما يسمى بـ"دين الحب" بمعنى وحدة الأديان و التعددية الدينية ، و استفادوا ذلك من أبيات له في "ترجمان الأشواق" يقول فيها:

 

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إن لم يكن دينه إلى ديني داني

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان و دير لرهبان

و بيت لأوثان و كعبة طائف

و ألواح توراة و مصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني و إيماني

 

و له بيت ذكره في "الفتوحات المكية" يقول فيه:

 

عقد الخلائق في الإله عقائدا .. و أنا شهدت جميع ما اعتقدوه

 

 

 


كما أن لابن عربي كلمات في كتبه يستفاد من ظاهرها القول بالتعددية الدينية و وحدة الأديان منها الفص الهاروني في كتابه "فصوص الحكم" أنقل منه مع شرح القيصري له : (( [و العارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه ] أي يعبد الحق في ذلك المجلى فالحق هو المعبود مطلقا سواء كان في صورة الجمع أو في صورة التفصيل [ولذلك] أي و لأجل أن الحق هو الذي ظهر في ذلك المجلى و عبد [سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر] أي أطلقوا اسم "الإله" عليه مع أنه يسمى بحجر [أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك. هذا اسم الشخصية فيه] و هذا الاسم إنما هو باعتبار تعين تلك الحقيقة الكلية بالتعينات الجنسية ثم النوعية ثم الشخصية [و الألوهية مرتبة] إلهية [تخيل العابد له] أي لمعبوده [أنها مرتبة معبوده الخاص ، و هي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد الخاص المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص] أي و مرتبة معبوده هي على الحقيقة مجلى الحق لنظر العابد و بصره ليشاهد الحق ببعض صفاته و أسمائه في ذلك المجلى الخاص [ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة "ما نعبدهم إلا لقربونا إلى الله زلفى"] مع تسميتهم إياهم "آلهة" أي و لأجل أنه مجلى إلهي قال بعض من عرف وحدة الإله و لم يعرف أنه مجلى من مجاليه قول من جهل بالأمر "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله" الواحد الحقيقي قربا و مع ذلك ما سموهم إلا "آلهة" و في بعض النسخ [من لم يعرف] و هو ظاهر ، أو قال بعض من عرف أنه مجلى إلهي مقالة من لم يعرف ، أي عرف وتناكر تشبها بالجهال ، و نسخة [من لم يعرف] تؤيد الأول [ حتى قالوا "أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب" فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك ، فإنهم وقفوا مع كثرة الصور و نسبة الألوهية لها ] اللام في "لها" بمعنى "إلى" أي سموا المجالى آلهة تعجبوا و قالوا "أجعل الآلهة" و هي المجالي و المعبودات المتعددة إلها واحدا قد فما أنكروا الإله ، و إنما أنكروا وحدته بقولهم "إن هذا لشيء عجاب" لأنهم كانوا واقفين مع المجالي المتكثرة بحسب الصورة جاعلين نسبة الألوهية إليها [فجاء الرسول و دعاهم إلى إله واحد يعرف ولا يشهد] على صيغة المبني للمفعول [بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم و اعتقدوه في قولهم "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"] أي ، دعاهم الرسول إلى إله واحد معروف غير مشهود عندهم بشهادة أنهم أثبتوا إلها و اعتقدوه ، و جعلوا الأصنام المشهورة مقربات إلى الله فالإله معلوم لهم ثابت عندهم غير مشهود بنظرهم [لعلمهم بأن تلك الصور حجارة و لذلك قامت الحجة عليهم بقوله "قل سموهم" فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة] أي الأسماء الكونية كالحجر و الكوكب و غيرهما [ و أما العارفون بالأمر على ما هو عليه ] و هم الذين يعرفون وحدة الحق و ظهوره في مجالي متعددة [فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور] أي ينكرون المعبودات المتعينة مع علمهم بأنها مجال للحق [لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت بحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين] أي و لأن العلم اللدني الحاصل لهم يعطيهم أن يكونوا بحكم رسولهم و نبيهم لوجوب متابعة النبي و النبوة ما يقتضي إلا الإنكار عليهم ، فأنكروا ذلك و بذلك الإنكار و بالاتباع للأنبياء سموا مؤمنين [فهم عباد الوقت] أي فالعارفون عباد الله بحسب الوقت و ما يعطيه الحق بتجلي اسم [الدهر] في كل حين في صور أنبيائهم أو العابدون للأصنام هم عباد الله بحكم أوقاتهم التي يتجلى لهم الحق فيها [مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها] أي ، مع أن العارفين يعلمون أن العابدين للمجالي ما عبدوا الأصنام لأجل أعيانها المتكثرة المسماة بالأسماء الكونية ، هذا على الأول ، و على الثاني أي مع علم العابدين بأنهم ما عبدوها لأجل أعيانها بل لأجل أنها آلهة و الثاني أنسب [وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم] أي ، عباد الأصنام إنما عبدوا الله في تلك المجالي بسبب تسلط سلطان التجلي الذي أدركه العابدون من المعبودين ، فقوله "بحكم" متعلق بـ"عبدوا الله" و إن جعلنا فاعل "عرفوه" عائدا إلى "العارفين" و ضمير "منهم" إلى "العابدين" فمعناه "مع علمهم بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه من العابدين أنهم ما عبدوا تلك الصور أعيانها" فـ"الباء" يتعلق بـ"العلم" [و جهله المنكر الذي لا علم له بما تجلى] أي و جهله المؤمن المنكر الذي لا علم له بأن الحق يتجلى بالصور الكونية [ويستره العارف المكمل من نبي و رسول ووارث عنهم] عطف على قوله "وجهله" و في بعض النسخ "و يستره" أي العارف يعرفه و يستره [فأمرهم] أي أمر العارف المكمل المحجوبين [بالانتزاح] أي الاجتناب [عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعا للرسول ، طمعا في محبة الله إياهم بقوله "قل إن كنتم تحبون فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم" فدعا] الرسول [إلى إله يصمد إليه] يحتاج و يفتقر إليه و هو لا يحتاج ولا يفتقر إلى غيره [ويعلم من حيث الجملة] أي يعلم إجمالا أنه إله خالق لما سواه ذو الجلال و الإكرام [ولا يشهد ذاته كما قال "لا تدركه الأبصار بل هو يدرك الأبصار" للطفه و سريانه في أعيان الأشياء] تعليل للحكمين .. الخ ))[71] و في قصة نبي الله موسى (ع) مع أخيه هارون (ع) عندما عبد قومه العجل و أخذ موسى بلحية هارون يقول ابن عربي كما يشرح كلامه القيصري ما نصه : (( [فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل] أي علم موسى ما الذي عبده أصحاب العجل في الحقيقة ، [لعلمه بأن الله قضى ألا يعبد إلا إياه] كما قال "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه" [وما حكم الله بشيء إلا وقع ، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره و عدم اتساعه] أي كان عتب موسى أخاه هارون لأجل إنكاره عبادة العجل و عدم اتساع قلبه لذلك [فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء فكان موسى يربي هارون تربية علم] و اعلم أن هذا الكلام و إن كان حقا من حيث الولاية و الباطن ، لكن لا يصح من حيث النبوة و الظاهر فإن النبي يجب عليه إنكار العبادة لأرباب الجزئية كما يجب عليه إرشاد الأمة إلى الحق المطلق ، لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام و إن كانت مظاهر للهوية الإلهية ، فإنكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيا حق إلا أن تكون محمولا على أن موسى (ع) علم بالكشف أنه ذهل عن شهود الحق الظاهر في صورة العجل فأراد أن ينبهه على ذلك ، و هو عين التربية و الإرشاد منه ، و إنكاره (ع) على السامري و عجله على بصيرة ، فإن إنكار الأنبياء و الأولياء لعبادة الأصنام التي هي المظاهر ليس كإنكار المحجوبين فإنهم يرون الحق مع كل شيء بخلاف غيرهم ، بل ذلك لتخليصهم عن التقيد بصورة خاصة و مجلى معين إذ فيه إنكار باقي المجالي و هو عين الضلال .. الخ ))[72] وقال ابن عربي : (( إن الأصنام جميعاً مجالي الحق ومظاهره ، بل هي عين الحق ، بل الأشياء جميعاً مظاهره ومجاليه ، وعبدة الأوثان والأصنام وكذلك العابدون للشمس والقمر والكواكب والشجر والحجر والنار والعجل وكذلك عبادة المدّعين للألوهية من فرعون وشدّاد و... كلهم جميعاً عابدون لله تعالى ، لأن هذه المعبودات كلها هي الحق الذي ظهر في هذه المظاهر وتصوّر بهذه الصور المختلفة ، فهي على كثرتها ليست في الحقيقة إلا واحدا ، ومنع الأنبياء والأولياء من عبادة الأصنام لم يكن من حيث إنها عبادة باطلة مبغوضة لله تعالى ، بل من أجل بطلان حصر العابد معبوده بالصنم أو الشجر أو الحجر )) وقال: (( إن قوم نوح في عبادتهم للأصنام كانوا محقين ، لكونها مظاهر الحق ، كما أن العابدين لها كذلك ، لأنهم أيضا كانوا مظاهر الحق وكان الحق معهم ، بل هو عينهم ، وكان نوح أيضا يعلم أنهم على الحق إلا أنه أراد على وجه المكر والخديعة أن يصرفهم عن عبادتها إلى عبادته )) ثم قال (( فلو أن نوحاً جمع بين الدعوتين لأجابوه .. ))[73] .

 

و مع هذا ينفي ليكنهاوزن مقولة التعددية عن ابن عربي و يؤكد أنه قائل بانحصار الدين في الشريعة الإسلامية حيث يقول : (( في مدرسة ابن عربي يوجد تأكيد واضح مفاده أن هناك طريقة يمكن من خلالها القول أن تدافع المعتقدات الواضح ممكن أن يشرح حقيقة واحدة من أبعاد ومنظورات متباينة . وبهذه الطريقة يمكن توضيح الاختلافات في الأديان المنزلة المختلفة . وحتى لو قاطعت إحداها الأخرى في الظاهر , فان كلا منها يمكن أن تعبر عن حقيقة مقدسة معينة ، صوفيون آخرون راحوا يتأملون ويؤكدون بان النصوص المقدسة للهندوسية ترتكز على كتاب مقدس ملهم فيما طور آخرون هذه الافتراضية بالقول إن بوذا كان نبياً وهو المسمى ذو الكفل . ومع ذلك فالحقيقة القائلة بأن الحقيقة الإلهية تجد تمظهراتها في مختلف الأديان بل وحتى المتقاطعة مع بعضها بشكل واضح , لا تعني بأن الناس لهم كامل الحرية بأن يختاروا أي دين يلائم أو يتواءم مع أوهامهم وخيالاتهم . ابن عربي نفسه عندما سئل من قبل حاكم مسلم أراد منه نصيحة عن كيفية التعامل مع المسيحيين , أجاب بأنهم يجب أن يعاملوا كمتعاقدين ضمن القواعد الإسلامية ( أي متعهدين بعدم خرقها) مؤكدا انه من المفروض على الناس في العصر الحاضر اتباع الشريعة التي جاء بها النبي (ص) , وأنه في هذا السياق أن جميع الأديان الملهمة السابقة تصبح باطلة أو لاغية في الوحي القرآني , ليس لأنها تصبح أو أصبحت مزيفة , وإنما كما يقول ابن عربي , هي نظرة الجاهل القاصر , إذ انه يصبح لزاماً اتباع شريعة الإسلام الخاصة وليس تلك الشرائع القديمة الموحى بها فعلاً . وفي هذا الإطار تصبح جميع الأنظمة والقوانين والمواد المرسومة في الأديان السابقة باطلة وعديمة القيمة أو عديمة الجدوى , لا لأنها لا تستحق ذلك , وإنما بات كل ما يمكن الاستفادة منه منها مندمجاً أو ظاهراً مع تعاليم الوحي الأخيرة ، إنه يوضح ذلك بالقول : إن جميع الأديان السماوية ( أو الشرائع السماوية ) أنوار واحدة بين هذه الأديان الدين الموحى به إلى محمد الذي هو أشبه بنور الشمس إلى أنوار النجوم ، فعندما يشرق نور الشمس تختفي أنوار النجوم وإن ضوءها ينضم إلى ضوء الشمس , إن كونها تختفي يكون بمثابة الإلغاء أو الإخفاء لنور الأديان السماوية الأخرى الذي حل محله نور الديانة المحمدية . وبهذا تصبح النجوم فعلاً لا وجود لها , أي أن نورها موجود ومعترف به أو يدرك ولكن لا وجود له . وهذا يوضح لماذا يراد منا , في نظرتنا الشمولية للدين أن نؤمن بحقيقة جميع الرسل و الأنبياء وكل ما أوحي إليهم أو ألهموا من أديان . إن هذه الأديان , لا تحسب لاغية أو باطلة بتوهم فعلاً إنها باطلة أو لا قيمة لها , وإنما بعد مقارنتها بغيرها أصبحت هكذا , إن الأولى هي نظرة الجاهلين القاصرين ( الذين لا يفهمون الفرق بين ضوء الشمس وضوء النجوم ) . ))[74]

 

و من المتصوفة الذين تكلموا بما يفهم منه تعددية الأديان جلال الدين الرومي حيث يقول :

انظر إلى العمامة أحكمها فوق رأسي

بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري

فلا تنأ عني لا تنأ عني

مسلم أنا و لكني نصراني و برهمي و زرادشتي

توكلت عليك أيها الحق الأعلى

ليس لي سوى معبد واحد

مسجدا أو كنيسة أو بيت أصنام

ووجهك الكريم فيه غاية نعمني

فلا تنأ عني لا تنأ عني[75]

 

و لكن ليكنهاوزن نفى عنه ابن الرومي أيضا نسبة القول بالتعددية الدينية نفيا قاطعا[76] .

 

 

و كذلك لابن الفارض أبيات يقول فيها:

 

في مجلس الأذكار سمع مطالع .. ولى حانة الخمار عين طليعة

و ما عقد الزنار حكما سوى يدي .. وإن حل بالإقرار بي فهي حلت

و إن نار بالتنزيل محراب مسجد .. فما بار بالإنجيل هيكل بيعة

و أسفار توراة الحكيم لقومه .. يناجي بها الأحبار في كل ليلة

و إن خر للأحجار في البد عاكف .. فلا وجه للإنكار بالعصبية

فقد عبد الدينار معنى منزه .. عن العار بالإشراك بالوثنية

و قد بلغ الإنذار عني من بغى .. و قامت بي الأعذار في كل فرقة

و ما زاغت الأبصار من كل ملة .. و ما زاغت الأبصار في كل نحلة

و ما احتار من الشمس عن غرة صبا .. و إشراقها من نور إسفار غرتي

و إن عبد النار المجوس و ما انطفت .. كما جاء في الأخبار في ألف حجة

فما قصدوا غيري و إن كان قصدهم .. سواي و إن لم يظهروا عقد نية

رأوا ضوء نوري مرة فتوهموا .. نارا فضلوا في الهدى بالأشعة[77]

 

و يرجع البعض هذه النظرية إلى نظرية وحدة الوجود فحيث اعتقد المتصوفة أن الوجود كله واحد غير متكثر لم يعد لديهم ثمة فرق بين دين و آخر ، بل لا فرق بين عابد و معبود ، و على كل حال فالقائلون بوحدة الوجود ليسوا على مقصد واحد والدخول في تفصيل ذلك يلزم الخروج عن مقام البحث ، نعم منطلق القول بالتعددية الدينية على أساس وحدة الوجود يكون مختلفا عن منطلق الغربيين و النسبيين و السفسطيين إلا أنهما قد ينتهيان إلى نفس النتيجة .

 

* التمييز بين التجربة القلبية و تفسيرها و إمكان وقوع الخطأ في التفسير

 

يتحدث محيي الدين بن عربي في كتابه "فصوص الحكم" عن قصة نبي الله إبراهيم (ع) عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه ، و يرى ابن عربي كما يذكر في الفص الاسحاقي وجوب تعبير هذه الرؤيا ، فلم ير نبي الله إبراهيم (ع) إلا رمزا فقد رأى كبش القربان يتمثل بصورة ابنه ولم ير ابنه ، فقد كانت رؤيا نبي الله إبراهيم (ع) تجربة قلبية إلهية صادقة إلا أنه لم يؤلها و كان عليه أن يؤلها جمعا بين الحقيقة و الشريعة لأن الشريعة تحرم قتل النفس البريئة إلا أن عشق إبراهيم المفرط أوجب أن يفدي أحب الأشياء إليه وهو ابنه فغلب الحقيقة على الشريعة[78] ، نعم هنالك أحلام واضحة لا تحتاج إلى تعبير و تأويل ، يقول ابن عربي ما نصه : (( اعلم أيدنا الله و إياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه "إني أرى في المنام أني أذبحك" و المنام حضرة الخيال فلم يعبرها ، و كان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدَّق إبراهيم الرؤيا ، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله وهو لا يشعر ، فالتجلي الصوري في حضرة الخيال يحتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة ، ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر في تعبيره الرؤيا "أصبت بعضا و أخطأت بعضا" فسأل أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه و ما أخطأ فلم يفعل صلى الله عليه وسلم . وقال الله تعالى لإبراهيم حين ناداه "أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا" وما قال له صدَقت في الرؤيا أنه ابنك لأنه ما عبرها ، بل أخذ بظاهر ما رأى و الرؤيا تطلب التعبير ، ولذلك قال العزيز "إن كنتم للرؤيا تعبرون" ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر ، و كانت البقر سنين في المحل و الخصب فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه ، و إنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده ، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ، ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم (ع) ما هو فداء في نفس الأمر عند الله ، فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم ، فلو رأى الكبش في الخيال لعبره بابنه أو بأمر آخر ، ثم قال "إن هذا لهو البلاء المبين" أي الاختبار الظاهر ، يعني الاختبار في العلم هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا ، لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير فغفل فما وفى الموطن حقه ، وصدق الرؤيا لهذا السبب .. الخ )) ثم يطبق ما سبق على تجليات الله تعالى لعباده وهو ما يهمنا في مباحث الفلسفة الدينية فيقول : (( ولما كان للرؤيا هذان الوجهان ، وعلمنا الله فيما فعل إبراهيم وما قال له الأدب لما يعطيه مقام النبوة علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع و إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا ، فإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما نرى الحق في الآخرة سواء ))[79] و في تعليقات السيد الخميني (ره) على شرح الفصوص يقول ما نصه بعد الإشارة إلى نص الشارح : (( [لأن الأنبياء والكمّل أكثر ما يشاهدون الأمور في العالم المثالي المطلق..] ص188. لمّا كان الشارح من أصحاب القياس قاس إبراهيم عليه السلام بنفسه في أنّه عليه السلام قاس رؤياه هذه بسائر ما رأى في عالم المثال المطلق مع أنّه رأى في المثال المقيد أو قاس عليه السّلام ذلك على حال كثير من الأنبياء عليهم السلام من كونهم محلّ الوحي في المنام و ليس الأمر كما توهّم الشارح بل يمكن أن يكون حُبّه المفرط بمقام الرّبوبية وعشقه وخلّته حجب عن أن يعبّر رؤياه فإن العشق المفرط يوجب أن يفدى ما هو أحب عنده في طريق محبوبه فالاستغراق في جمال المحبوب يمنعه عن أن يعبّر فالحقيقة غلبت على الشريعة أنّ حكم الشريعة لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق هذا ما أفاد شيخنا العارف دام ظله العالي [ ولأنه توهم أنّ المرئي لا ينبغي أن يعبر فقصد ذبح ابنه..] ص189. ليس الأمر كما ذكره الشارح بل مراد المصنّف من قوله من وهم إبراهيم إنّ إطلاق الفداء على الكبش كان بحسب وهم إبراهيم عليه السلام فإنّه توهم أنه مأمورٌ بذبح ابنه مع أنّه كان مأموراً بذبح الكبش فذبح الكبش لم يكن فداء بل التحقيق أنّ ما رأى إبراهيم عليه السلام هو حقيقة الفناء التّام والاضمحلال الكلّي في الحضرة الأحدية وذبح الابن أو الكبش هو رقيقة هذه الحقيقة إلاّ أن الجمع بين الشّريعة والحقيقة يقتضي ذبح الكبش ولكن شدّة محبة إبراهيم وعشقه احتجبه عن الجمع بينهما فإذا فأراد ذبح الابن فالفداء يكون على وهمه فافهم ))[80] .

واضح ما في هذا الكلام من تأصيل للتعددية الدينية و إشكالية حول عصمة النبي (ع) إلا أن يقال بأن الله تعالى عصمه قبل أن يقتل ابنه فلم يقع منه القتل أخيرا و بالتالي وهمه لا يخل بعصمته ، يقول آية الله الشيخ جعفر السبحاني في معرض ذكره للمباني الفلسفية للتعددية الدينية : (( هناك عدة قضايا تشكل أساس هذه النظرية التي جرى الحديث عنها في موضوع فلسفة الدين ، و التي يشكل الكلام المسيحي أسس بعضها و هي (1) إن الجهاز المعرفي لا يستطيع إيصال الحقيقة إلى أي شخص كما هي بحيث تكون مطابقة للواقع وحتى الأنبياء لا يستطيعون الوصول إلى الحقيقة المطلقة ، لأنهم مشمولون بهذا القانون ، فإذا سلمنا بذلك ستتهيأ الأرضية اللازمة للبيلوراليزم ، وسوف لا يبقى فرق بين الكليم والمسيح و محمد (ص) في أي عصر من العصور لأن ما يمنع تحقق البيلوراليزم هو الاعتقاد بأن المعرفة مطلقة (2) اللغة الدينية لغة رمزية و النصوص الدينية لا تنظر إلى الواقع ولا تعكس الخارج ، ولا يمكننا أبدا أن نتعامل معها و كأنها إخبارات ، لذا فليس هناك فرق بين الأديان ، و الاعتراف بهذا الأمر سيهيئ المقدمات اللازمة لقبول البيلوراليزم بشكل تلقائي ، إن قضية اللغة الدينية من القضايا الحساسة جدا و إذا لم تفسر بشكل صحيح سوف لا تكون المعرفة الدينية جزمية ، و ستفقد المقولات الدينية معانيها و تغمرها الحالة الشاعرية ، وكان لنا حديث سابقا عن هذا الموضوع (3) الوحي تجربة دينية و تستخلص حقيقتها من شهود و إدراك الله مباشرة و تجليه لأنبيائه وليس ضروريا أن يصاحب ذلك تلقي رسالة أو أوامر و تعاليم الأنبياء أعم من التعاليم الخبرية كالعقائد ، أو الإنشائية كالأحكام ، هي انعكاس لما يفهمونه منها ، وحتى لو فرضنا أن محتوى الرسالات نازل من الله لكن ألفاظها ليست منه ، وعليه الأنبياء ما يتلقونه في قوالب لفظية طبقا لذهنياتهم وحينئذ سيكون من السهل أن يتأثروا في مقام التعبير بظروفهم الخاصة وسوف لا يكون هناك ما يضمن صحة فهمهم ، إذا فهؤلاء بشر و يتأثرون كغيرهم بالظروف السائدة ، إن اقتصار الوحي على شهود و إدراك الله من غير واسطة إنكار للوحي الذي هو أساس الشرائع السماوية و كلما اقتصر الوحي في الشهود فيكون حقيقة قائمة في شخص الرسول ، فلا يمكنه أن يكون أسوة وقدوة ، وإنما نصل إلى الفوز و السعادة من خلال النصوص التي تتجلى للأنبياء على هيئة تعاليم دينية ، وكلما اشتملت هذه التعاليم على أبعاد بشرية بما فيها نتاج الرسول ، فستأخذ صيغة بشرية و ستنخفض قيمتها ولا يبقى ما يوجب الالتزام بها ، و هذا النمط من التفسير للوحي مخالف للكتاب ، يقول تعالى "و الذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه" و هذه الآية تؤكد بوضوح أن القرآن – المحتوى و اللفظ – وحي إلهي و ليس نتاجا لذهني الرسول ، ويقول في سورة الإسراء بعد بيان مجموعة من المعارف و الأحكام ابتداء من الآية 21 إلى آخر الآيات "ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة" و عندما ذهب موسى (ع) إلى طور ليتلقى رسالة ربه أقام هناك أربعين يوما تمكن بعدها من الحصول على الرسائل التي كتبت على الألواح يقول " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة" وهذه الآية تنسب بوضوح تلك الرسائل إلى الله و ليس إلى ذهنية موسى (ع) و يقول في آية أخرى : إن جميع رسالات الأنبياء صحيحة و إذا نسب الرسول شيئا إلى الله كذبا فسنؤاخذه "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين" عندما ندقق في الكتب السماوية و القرآن الكريم سيتضح أن للوحي معنى واسعا وهو ما يتلقاه الأنبياء من رسائل مسموعة أو مكتوبة في ظروف خاصة ، فتصرف أذهان الأنبياء إذا يتنافى مع عصمتهم ، بل ربما يستأصل جذر العصمة عندهم ، و العصمة في تلقي الوحي و حفظه و تبليغه من الأمور المتفق عليها بين المسلمين وقد أكدها القرآن الكريم "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا . إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا" و الآية تؤكد أن الله قد سخر ملائكته لصيانه الوحي من كل تغيير ابتداء من مرحلة التلقي إلى مرحلة الإبلاغ و ذلك من أجل الحيلولة دون أي تصرف في الوحي ))[81]

 

 

* المراجع و المصادر:

 

1-   القرآن الكريم

2-   مدخل إلى الداهشية

3-   المثقف ومسؤوليته في المجتمع تأليف د.علي شريعتي

4-   تفسير الميزان تأليف العلامة الطباطبائي

5-   رسائل ومقالات تأليف الشيخ جعفر السبحاني

6-   أضواء على عقائد الشيعة الإمامية تأليف الشيخ جعفر السبحاني

7-   التعددية الدينية في فلسفة جون هيك تأليف د.وجيه قانصو

8-   الصحيح من السيرة تأليف السيد جعفر مرتضى العاملي

9-   شرح إحقاق الحق تأليف السيد المرعشي

10-                   النبوة تأليف الشيخ مرتضى المطهري

11-                   أصول العقائد تأليف السيد كاظم الرشتي

12-                   التوحيد تأليف السيد كمال الحيدري

13-                   مستدرك سفينة البحار

14-                   مدخل إلى الفلسفة تأليف أ.د.إمام عبد الفتاح

15-                   أسوة العرفاء : سيرة حياة الميرزا علي القاضي

16-                   شرح الخطبة الطتنجية تأليف السيد كاظم الرشتي

17-                   دروس صوتية مسجلة في العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري

18-                   المحاسن

19-                   بحار الأنوار

20-                   شرح أصول الكافي

21-                   فلسفتنا تأليف السيد محمد باقر الصدر

22-                   تعليقات على شرح فصوص الحكم و مصباح الأنس تأليف السيد الخميني

23-                   موسوعة العقائد الإسلامية تأليف الريشهري

24-                   بنو الإنسان ترجمة زهير الكرمي

25-                    التعددية الدينية تأليف محمد تقي مصباح اليزدي

مقابلة مع محمد لكنهاوزن على الموقع الالكتروني http://science-islam.net/article.php3?id_article=791&lang=ar

26-                   الإنسان و العقيدة تأليف العلامة الطباطبائي

27-                   رسالة الولاية تأليف العلامة الطباطبائي

28-       مقال بعنوان "رفض التعددية الدينية المختزلة من قبل الصوفية" لمحمد ليكنهاوزن ترجمة مختار الأسدي منشور على موقع "البلاغ" الرابط التالي: http://www.balagh.com/mosoa/mabade/5c0j2ho9.htm

29-                   شرح فصوص الحكم لمؤلفه محمد داوود قيصري رومي ص1106

30-                   فصوص الحكم تأليف محيي الدين بن عربي

31-                   تعليق د. أبو العلاء عفيفي على فصوص الحكم

32-       موسوعة الأديان و الفرق و المذاهب الفكرية المعاصرة من موقع الدرر السنية http://www.dorar.net/enc/firq/2032

33-       الثقافة الروحية في انجيل برنابا تأليف محمود علي قراعة




[1] شرح إحقاق الحق ج12 ص186 تأليف السيد المرعشي
[2] النبوة ص404
[3] أصول العقائد ص86
[4] راجع (التعددية الدينية في فلسفة جون هيك) لمؤلفه د.وجيه قانصو من ص71-73
[5] وجيه قانصو عن an interpretation of religion pp,237-238
[6] مستدرك سفينة البحار ج3 ص88
[7] مدخل إلى الفلسفة تأليف أ.د. إمام عبد الفتاح إمام ص113
[8] التوحيد للسيد كمال الحيدري ج1 ص175
[9] أصول العقائد ص89-92
[10] أصول العقائد ص96
[11] أصول العقائد ص86-88
[12] أسوة العرفاء من ص78-ص81
[13] راجع كتاب التوحيد للسيد كمال الحيدري ج1 ص177
[14] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك ص75
[15] التعددية الدينية ص75
[16] التوحيد ج1 ص170-171
[17] التوحيد ج1 ص224
[18] شرح الخطبة الطتنجية للسيد كاظم الرشتي في شرح قوله (وخرق الهواء)
[19] بحار الأنوار ج64 ص142
[20] شرح إحقاق الحق ج12 ص186 تأليف السيد المرعشي
[21] بحار الأنوار ج22 ص343
[22] ننصح بمراجعة الدرس التاسع و العشرون من دروس العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري – تسجيل صوتي
[23] المحاسن ص106
[24] المحاسن ج1 ص195
[25] بحار الأنوار ج1 ص189
[26] شرح أصول الكافي ج4 ص216-217
[27] ننصح هنا بمراجعة كتاب "الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني" للشيخ عبد الله دشتي (حفظه الله) لمعرفة مفهوم التوحيد القرآني
[28] رسائل و مقالات ج2 ص322
[29] راجع مدخل إلى الفلسفة لإمام عبد الفتاح ص262 عن المنهج الجدلي عند هيغل لإمام عبد الفتاح ص102-103
[30] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك ص94 عن Disputed questions, pp 158-9
[31] فلسفتنا ص144
[32] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك ص96 عن God and the universe of faiths, pp. 165-180
[33] انظر الإمام الخميني ، تعليقات على شرح فصوص الحكم و مصباح الأنس ص106-107 ، أيضا 126-128
[34] عن هذه العبارة يقول الريشهري في "موسوعة العقائد الإسلامية" ص109 بعدما بين أن العبارة ترد في كلام عدد من المحدثين و الحكماء كمبدأ ثابت و تارة تطرح كحديث نبوي (( إن الجواب هو أن هذا الكلام لم يرد في أي مصدر من المصادر الحديثية المعتمدة و قد تفرد المرحوم الملا أحمد النراقي – رضوان الله تعالى عليه – بذكره في كتاب "مثنوي طاقديس" كحديث من الأحاديث سواء أكان هذا الكلام حديثا أم لم يكن فإنه لا يعني ما استند إليه بعض أدعياء الثقافة في عصرنا من التعددية الدينية بل يعني أن الطرق الفرعية المتصلة بالطريق الأصلي للدين المسمى الصراط المستقيم كثيرة و كل شخص يستطيع أن يبلغه من الطريق الذي يناسب قابليته و استعداده ))
[35] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك ص94
[36] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك ص100
[37] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك عن Christian theology, pp, 16-23
[38] رسائل و مقالات ج2 ص325
[39] John Hick, Paul Knitter, ed., The myth of Christian uniqueness, Orbis Books, New York, 1987, pp. 16-37
[40] A Christian theology, pp. 11-16
[41] راجع كتاب النبوة للشيخ المطهري – نظريات تفسير الوحي و بالتحديد نظرية التنويريين و مدى توافقها مع فكرة التعددية الدينية
[42] سورة هود الآية 25-26
[43] سورة المائدة الآية 29
[44] اقرأ أيضا كتاب "خوارق اللاشعور" لمؤلفه العراقي علي الوردي فقد سعى المؤلف لإثبات نسبية الحقيقة بشتى العبارات و التقريبات ، و اقرأ "قبض وبسط نظرية الشريعة" لمؤلفه الإيراني عبد الكريم سروش
[45] عن A Christian theology of religion, p. 24.
[46] التعددية الدينية في فلسفة جون هيك ص108 عن Philosophy of religion, pp. 107-113
[47] لتوضيح أكثر حول القلق الذي يساور دعاة التعددية من إشكالية التناقض راجع كتاب "رسائل و مقالات" ج2 ص322 و ما ينقله السبحاني عن مقابلة مع ويليم الستون في مجلة كيان
[48] سورة النحل الآية 103
[49] سورة الحاقة 44-45
[50] بنو الإنسان ترجمة زهير الكرمي ص264
[51] رسائل ومقالات ج2 ص327
[52] راجع مقابلة مع محمد لنغهاوزن مدرس الفلسفة الغربية في إيران على الموقع الالكتروني التالي http://science-islam.net/article.php3?id_article=791&lang=ar
[53] راجع كتاب التعددية الدينية لمحمد تقي مصباح اليزدي ص45 في تفصيل الرد على هذا التمثيل
[54] سورة البقرة سورة 85
[55] سورة النساء الآية 150-151
[56] راجع لمزيد من التوضيح الدرس 43 من الدروس الصوتية في العدل الإلهي للسيد كمال الحيدري
[57] رسالة الولاية ص37
[58] رسائل و مقالات ج2 ص310
[59] سورة آل عمران الآية 195
[60] سورة العنكبوت الآية 69
[61] الإنسان و العقيدة نسخة الكترونية
[62] هذه المقاربة للتعددية الدينية مستقاة من كتاب "مدخل إلى الفلسفة" لمؤلفه أ.د.إمام عبد الفتاح إمام فراجع لمزيد من التفاصيل
[63] مدخل إلى الفلسفة للأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح ص100 عن : هيجل : محاضرات في فلسفة التاريخ ج2
[64] مدخل إلى الفلسفة ص103 عن ولتر ستيس (الزمان و الأزل: مقال في فلسفة الدين) ترجمة الدكتور زكريا إبراهيم و مراجعة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني ص40 – المؤسسة المصرية للطباعة و النشر بيروت عام 1967
[65] مدخل إلى الفلسفة ص104
[66] مدخل إلى الفلسفة ص105 عن ولتر ستيس (الزمان و الأزل) ص56
[67] النبوة ص419-420 ترجمة جواد علي كسار
[68] رسائل ومقالات ج2
[69] مستبصر أمريكي يعيش في إيران
[70] مقال بعنوان "رفض التعددية الدينية المختزلة من قبل الصوفية" لمحمد ليكنهاوزن ترجمة مختار الأسدي منشور على موقع "البلاغ" الرابط التالي: http://www.balagh.com/mosoa/mabade/5c0j2ho9.htm
[71] شرح فصوص الحكم لمؤلفه محمد داوود قيصري رومي ص1106
[72] شرح فصوص الحكم للقيصري ص1096
[73] شرح فصوص الحكم للقيصري
[74]  مقال بعنوان "رفض التعددية الدينية المختزلة من قبل الصوفية" لمحمد ليكنهاوزن ترجمة مختار الأسدي منشور على موقع "البلاغ" الرابط التالي: http://www.balagh.com/mosoa/mabade/5c0j2ho9.htm
[75] موسوعة الأديان و الفرق و المذاهب الفكرية المعاصرة من موقع الدرر السنية http://www.dorar.net/enc/firq/2032 نقلا عن مجلة العروة الوثقى العدد 61 لعام 1403برئاسة تحرير عبد الكريم الطيبي
[76] من المفيد أن ننقل مقال ليكنهاوزن كاملا كما جاء في موقع بلاغ :
* ترجمة مختار الاسدي
اذا كان هيك واقعاً تحت الانطباع القائل بأن تعدديته الدينية المختزلة يمكن ان تلقى تأييدا في التصوف الحقيقي او (العرفان) , فمن مناقشة علمية جدية يمكن القول بأنه على خطأ . فبينما يمكن ان يوجد عدد من اصحاب الطرق الصوفية المنحلين الراغبين لأن يلعبوا دوراً خصصاً لهم من قبل هيك , فضلاً عنوجود قوانين في الغرب لا يمكن ادخال او تثبيت اي من غير المسلمين فيها , فان الاغلبية العظمى من (العرفاء) في الاسلام كانوا كانوا ثبتوا ملاحظة صارمة للشريعة , سابقة على هذا التثبيت في السير والسلوك الروحيين . جدلية اخرى من جدائل الفكر الصوفي المقترح التي تشير الى نوع من انواع التعددية الدينية هي تلك التي تقرن مع دعاة الفلسفة الخالدة امثال جينون وشئون ونصر واخرين .
يبدو ان هيك مولع في ترديد وقراءة الزوج التالي من عبارات جلال الدين الرومي : " المصابيح مختلفة ولكن الضوء واحد ". الا ان هذا هو نفس ما يؤكده القرأن الكريم في قوله تعالى : (انا انزلنا التوراة فيها هدى ً ونور ...) (وقفينا على أثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وأتيناه الانجيل فيه هدىً ونور ....) ولكن الاستنتاج الذي يمكن الوصول اليه في القران هو ليس كون جميع هذه الاديان تمتلك نوراً مقدساً بحيث لا تجعل بينها اي فرق لأي منها نتبع , كما ليس ذلك الذي نتبعه يجب ان يعتبر مشابهاً لوثنية هذا الفرد او ذاك . أن المسألة ليست وكأننا نهدى مصابيح مختلفة لنختار منها ما نشاء حسب اذواقنا الخاصة , ونوع او شكل تجاربنا الشخصية , وانما المسألة ان الله قدم هذه المصابيح للبشرية بالتعاقب , وان نسؤليتنا هي التي تحدد اتباع ما اختاره الله لنا في العصر الحاضر . في جدل مع الرومي يلتمس المسيحي الجراح عذراً , لمسيحيته باعتبارها دين ابائه , فيرد الرومي محتجاً : " انه لا الفعل ولا الكلمات هي التي امتلكت احساسات الانسان العاقل السليمة ".
الله اعطاك عقلاً خاصاً هو غير عقل ابيك , واعطاك بصيرة غير بصيرته , اي اعطاك قدرة على التمييز خاصة , فلماذا تلغي عقلك وبصيرتك باتباع عقل اخر يمكن ان يدمرك ولا يهديك , ولن تجد فيه رشدا ؟ ويواصل الرومي ضربه لبض الامثلة حول كيفية عمل العقل وتأثيره علينا في قبولنا ما يقدم لنا نفعاً اكبر او اكثر من ذلك الذي لدى ابائنا . وهو يزعم انه حتى الكلب الذي يتعلم الصيد للملك لن يستمر في الانشغال بالسفاسف , كما راح مولاه يفعل . اذا كان الذكي من الوحوش يستفيد سريعاً من الشئ الذي يرام افضل من ذاك الذي ورثه من اولديه , فأن من البلادة والفضاعة ان الانسان الذي هو اعلى رتبة من كل الموجودات على الارض بالعقل والتمييز يكون اقل تعلماً من الوحش . اننا نلجأ الىالله من خلال ذلك . بالتأكيد انه من الصائب ان يقال بأن رب المسيح عيسى عليه السلام شرف عيسى اليسوع وجعله قريباً منه (جل جلاله) وبذلك فان من يقدم له خدمة , يقدم خدمة لله , وكل من يطيعه انما يطيع الله . ولكن أياً ما كان الله ارسله من نبي متفوقاً على اليسوع مظهراً ذلك قدرته بيديه كما اظهر قدرة اليسوع وتجلياته واكثر , صار ينبغي على المرء ان يتبع ذلك النبي من اجل الله , وليس من اجل النبي نفسه . حاول الصوفيون جادين توضيح حقيقة ان هناك اختلافات بين الاديان التي نزلت او أنزلت من السماء مع تمييز واضح بين الظاهر والباطن فيها . ان الاختلافات بينها هي اختلافات ظاهرية ,اما الباطن فواحد . مع ذلك فأن الغالبية العظمى من الصوفيين يؤكدون بأن الواجب هو اتباع وصايا القانون الاسلامي عبر الشعار القائل : " لا طريقة بدون شريعة , ولا سبيل للباطن الا من خلال الظاهر , وان الظاهر المطلوب في العصر الحالي هو ذلك الذي جاء في هذا العصر وهو الاسلام " .
اضافة الى ذلك , النور الذي جاء به القران والذي يوجد في التوراة والانجيل يشير الى هذه الكتب كما انزلها الله على الانبياء , وليس في اشكالها المحرفة التي نراها اليوم - كما يقول الاسلام - وان نور الاديان السابقة لا يشير اطلاقاً بل لا علاقة له بالمذاهب المرفوضة بوضوح في القرأن , مثل التجسيد وصلب المسيح والتثليث .جلال الدين الورمي يرفض بوضوح وصرامة الدعوى القائلة بأن يسوع هو الله الذي هو خلاف العقل كما هو في تشويه الدعوى الموضوعة منقبل الجراح في كون بعض الصوفيين يقرون موضوع التجسيد .
ان حقيقة وجود عدة مصابيح ولكن بنور واحد لا تفيد انه ليس هناك فرق في اي دين نتبع ,او ان نجلس مرتاحين مقتنعين بالذي ورثناه عن ابائنا او عن طريق العائلة او الثقافة , بالنسبة لجلال الدين الرومي , ولجميع المسلمين , ليس هناك سوى طريق واحد وهو الصراط المستقيم . مع ذلك , هناك معنى عام شائع يوجد عند الشعراء الصوفيين كالعطار والرومي وحافظ يفيد التعبير عن الصلة الروحية والألفة بين المسيحية والزدشتية وعبادة الاصنام . وهذا ما يقود الى استنتاج خاطئ في ان هؤلاء الشعراء يعتبرون الاختلافات بين الاسلام والاديان الاخرى ليست بذات اهمية . الذي يمكن العثور عليه من هذه الاشارات فعلاً هو الادانة الظاهرية للاشارات الناتئة حول الاندماج مع الاسلام بدون اية درجة من درجات الايمان الباطني . ان من الافضل ان نمتلك اندماجاً اسمياً او شكلياً معاعتقاد غير سليم ,ولكن لا نعتقد به باخلاص ونتبع سبل الهداية التي يدعو لها للارتقاء الروحي , وذلك افضل من ان يكون الانسان منافقاً اذيظهر اعتقاده بالاسلام ولكنه يعبد الطاغوت باطنياً .ان ادانة النفاق في القرأن مسألة واضحة تمام الوضوح ...يقول سبحانه : ( ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) ويقول ايضا وفي نفس السياق : ( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ) واذا اردنا مقارنة اشكال مختلفة من الكفر فان المنافق سيكون بالتأكيد اسوأ من الزرداشتي المخلص . ان الانكار الظاهر للتقليدية الموجودة لدى حافظ ( والامام الخميني ) مثال ذلك , تلطيخ سجادة الصلاة بالخمرة والبحث عن ملاذ في المجوسية , اصبح وسيلة للتأشير على البعد الباطني للدين وانكار النفاق , ولكن ما لم تفهم الحالة النفاقية هذه في هذه الرمزية فأنها ستظهر وكأنها ردة او ارتداد .ان النفاق يحدث بأظهار الحالة الظاهرية للأسلام وانكاره وانكارها باطنياً . الامام الخميني , متبعاً اسلوب حافظ يرغب في التأكيد على الحالة الضدية للنفاق , وهو اظهار الاعتقاد الراسخ والصادق للاسلام , ولحد مبالغ فيه , من اجل ازعاج وحتى ايذاء الطرف المضاد . نعم , بانكار الضد النوعي اي الظالم المضاد للاسلام , وترسيخ المعتقد في الباطن . يصبح الكفر (بهؤلاء ) رماً للايمان الحقيقي .... قبل يد الشيخ الذي سماني كافراً هنئ الحارس الذي قادني بالاغلال اني ذاهب في تراجع موحش طويل من الان فصاعداً , من بوابة المجوس ، في مدرسة ابن عربي يوجد تأكيد واضح مفاده أن هناك طريقة يمكن من خلالها القول انتدافع المعتقدات الواضح ممكن ان يشرح حقيقة واحدة من ابعاد ومنظورات متباينة . وبهذه الطريقة يمكن توضيح الاختلافات في الاديان المنزلة المختلفة . وحتى لو قاطعت إحداها الأخرى في الظاهر , فان كلا منها يمكن أن تعبر عن حقيقة مقدسة معينة . صوفيون آخرون راحوا يتأملون ويؤكدون بان النصوص المقدسة للهندوسية ترتكز على كتاب مقدس ملهم فيما طور آخرون هذه الافتراضية بالقول ان بوذا كان نبياً وهو المسمى ( ذو الكفل ) . ومع ذلك فالحقيقة القائلة بأن الحقيقة الإلهية تجد تمظهراتها في مختلف الأديان بل وحتى المتقاطعة مع بعضها بشكل واضح , لا تعني بأن الناس لهم كامل الحرية بأن يختاروا أي دين يلائم أو يتواءم مع أوهامهم وخيالاتهم . ابن عربي نفسه , عندما سئل من قبل حاكم مسلم اراد منه نصيحة عن كيفية التعامل مع المسيحيين , أجاب بأنهم يجب أن يعاملوا كمتعاقدين ضمن القواعد الاسلامية ( اي متعهدين بعدم خرقها) مؤكدا انه من المفروض على الناس في العصر الحاضر اتباع الشريعة التي جاء بها النبي (ص) , وانه في هذا السياق ان جميع الاديان الملهمة السابقة تصبح باطلة او لاغية في الوحي القرأني , ليس لأنها تصبح أو أصبحت مزيفة , وإنما كما يقول ابن عربي , هي نظرة الجاهل القاصر , إذ انه يصبح لزاماً اتباع شريعة الإسلام الخاصة وليس تلك الشرائع القديمة الموحى بها فعلاً . وفي هذا الإطار تصبح جميع الأنظمة والقوانين والمواد المرسومة في الأديان السابقة باطلة وعديمة القيمة أو عديمة الجدوى , لا لأنها لا تستحق ذلك , وإنما بات كل ما يمكن الاستفادة منه منها مندمجاً او ظاهراً مع تعاليم الوحي الاخيرة . انه يوضح ذلك بالقول : ان جميع الاديان السماوية ( او الشرائع السماوية ) انوار واحدة . بين هذه الاديان , الدين الموحى به الى محمد الذي هو اشبه بنور الشمس الىانوار النجوم . فعندما يشرق نور الشمس تختفي انوار النجوم وان ضوءها ينضم الى ضوء الشمس , ان كونها تختفي يكون بمثابة الالغاء او الاخفاء لنور الاديان السماوية الاخرى الذي حل محله نور الديانة المحمدية . وبهذا تصبح النجوم فعلاً لا وجود لها , اي ان نورها موجود ومعترف به او يدرك ولكن لا وجود له . وهذا يوضح لماذا يراد منا , في نظرتنا الشمولية للدين ,ان نؤمن بحقيقة جميع الرسل والانبياء وكل ما اوحي اليهم او ألهموا من اديان . ان هذه الاديان , لا تحسب لاغية او باطلة بتوهم فعلاً انها باطلة او لا قيمة لها , وانما بعد مقارنتها بغيرها اصبحت هكذا , ان الاولى هي نظرة الجاهلين القاصرين ( الذين لا يفهمون الفرق بين ضوء الشمس وضوء النجوم ) . الفرق بين الصوفيين والثيولوجيين حول موضوع التنوع الديني , هو واحد من التأكيدات الاخرى المضافة الى هذا المنهج الواضح . فالصوفيون يؤكدون على الوحدة الباطنبية للديانات السماوية , فيما يؤكد الثيولوجيون على التفوق الظاهري للاسلام , وهنا فعلا لا يوجد فرق حقيقي في كل من الاتجاهين , يعترف الثيولوجيون بأن الديانات الملهمة السابقة و تنطوي على النور والهداية , وهذا مثبت بوضوح في القرأن . والحقيقة القائلة بأن العصر الحاضر انما هو عصر الاسلام المحمدي والمحمدي وحده وانه هو الشرعي الساري المفعول وقوانينه هي الملزمة , حقيقة مقبولة هي الاخرى من قبل الصوفيون , وكلا الجماعتين تؤكدان , او تعتقدان بأن الديانات الملهمة سابقا بما فيها المسيحية الملهمة للسيد المسيح لا تشتمل على اي شئ مخالف للاسلام , على الرغم مما يعتبره الطرفان الثيولوجيون والصوفيون من انه اضافة غريبة او دخيلة لخطأ منهجي . وبدرجة ادق ان من اولويات اهتمام الصوفي هي التأكيد على النور الباطني والحالة الباطنية اكثر من تأكيده على المنهج او المذهب . وبسبب اهتمامه بالبعد الباطني , يرغب العارف كذلك بالسماح لتفاوت اكبر في التنوع الظاهري كتعبيرات عن حقيقة واحدة اكثر من اولئك الذين يشكل جل اهتمامهم انشغالاتهم بالبحث في التفاصيل العقلية والمنهجية . وعلى اية حال كلتا الجماعتين تعتقدان بأن الاسلام جاء متمماً لكل ما احتوته الديانات السماوية السابقة , وهو الدين الوحيد الموصوف من قبل الله للعصر الحاضر وحتى نهاية العالم . ومع ذلك يحب العارف او يرغب باعطاء تعبير شاعري لايمانه ورفضه للنفاق ومع كل رموز الديانات الاخرى , بما فيها عبادة الاصنام , وهذا ما تشرحه المقطوعة التالية ل بابا طاهر والامام الخميني على التوالي :
سعداء اولئك الذين لا يفرقون بين أيديهم وأقدامهم
اولئك بين اللهب لا يعرفون الفرق بين الرطوبة والجفاف
الكنيس , والكعبة , ومعبد الاصنام , والدير
لا احد منها معروف وان كان خالياً من المحبوب
على بوابة الخان
والمعبد والمسجد والدير
وقعت منهاراً في سجود
كأنك ترمقني من هناك
 
 
[77] الثقافة الروحية في انجيل برنابا تأليف محمود علي قراعة ص413
[78] راجع تعليقة الإمام الخميني على الفص الاسحاقي
[79] فصوص الحكم ، الفص الاسحاقي
[80] تعليقات الإمام الخميني على شرح فصوص الحكم – التعليق على الفص الاسحاقي
[81] رسائل ومقالات النسخة الالكتروني من الموقع الرسمي لآية الله السبحاني