الأربعاء، 15 أغسطس 2012

حرية العقيدة عند الإمامية: الكرامة وحقوق الإنسان - ورقة بحث للأستاذ علي العريان

من عناوين هذا البحث:


مفهوم الكرامة كأساس لشرائع حقوق الإنسان عند علماء الشيعة الإمامية

تطور الرؤية الدينية والبشرية للكرامة الإنسانية

إشكالية الكرامة في الفقه الإسلامي وأطروحات الشيخ حسن الصفار

رؤية الشيخ المنتظري و العلامة الطباطبائي للكرامة البشرية

الكرامة العامة والكرامة الخاصة في النصوص الدينية – مفهوم الكرامة مشكك

ما الاستحقاق الذي فضل بني آدم على غيرهم من الخلق؟

رأي الشيخ الأوحد و صدر المتألهين بحقيقة الكرامة الإنسانية

زوال الكرامة بمعاندة الحق

رؤية المطهري حول كرامة المشركين والكفار وحرية العقيدة



البحث






تمهيد- تفسير الكرامة أساس قوانين حقوق الإنسان:



لا يمكن الخوض في أية قضية من قضايا حقوق الإنسان إلا من خلال وضع بنية أساسية هي عبارة عن رؤية واضحة حول حقيقة الكرامة البشرية و مصدر هذه الكرامة حيث أن الحقوق إنما تترتب و تقوم على هذا الأساس ، و من هنا فقد أشار أمير المؤمنين (ع) في عهده لواليه مالك الأشتر النخعي إلى مفهوم الكرامة الإنسانية عندما قال : (( و أشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبة لهم و اللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين و إما نظير لك في الخلق ))[1] مع أن العهد كان كفيلا بتوضيح الخطوط العامة الدستورية التي يجب أن تسير على وفقها حكومة مالك الأشتر (ره) ، و لم تخف هذه المسألة الواضحة على ماكدوقال و لاسويل و جن McDougal, Lasswell, and Chen الذين قاموا بدراسة الكرامة باعتبارها أساسا للقانون الدولي[2] معتبرين ذلك قانونا فطريا أو طبيعيا "A natural law approach" [3]، و حيث أن بحثنا هذا يناقش حقا من أعظم إن لم نقل بأنه أعظم حقوق الإنسان و هو حريته الفكرية و العقائدية كان لزاما علينا أن نسبر موضوع الكرامة البشرية ، و قد نالت مسألة الكرامة البشرية قدرا جيدا من البحث في الغرب دون الشرق لأسباب عديدة ، فتاريخ الغرب مع قضية الرق و التفرقة العنصرية من جانب ، و تقدم البحث العلمي التجريبي خصوصا مع تقدم بحوث علم الهندسة الوراثية و الاستنتساخ الجيني في الفترة الأخيرة ، و دخول الغرب في حروب كثيرة كالحربين العالميتين و ما ترتب على ذلك من إعلان الميثاق العالمي لحقوق الإنسان و ارتباط ذلك بالفكر الليبرالي الديمقراطي ، كل ذلك و غيره أسهم في توغل الباحثين الغربيين في هذه القضية ، و لكنك نادرا ما تجد بحثا يسبر غور الكرامة البشرية رابطا ذلك بحقوق الإنسان بين المفكرين العرب و يرجع ذلك إلى عوامل عديدة أيضا بحثها خارج عن غرض هذه الدراسة ، و من المهم ملاحظة أن منظورنا للكرامة الإنسانية سلاح ذو حدين ، فكما أنه قد ينتج منظومة حقوقية تحترم الإنسان ربما أنتج منظومة إذلالية تمتهن الإنسان و لا ترى له أي حق أو احترام . و لا ريب أن تأثير مبحث الكرامة البشرية و نظرة الإنسان إلى نظيره الإنسان ذات بصمة بارزة في التاريخ البشري ، فعلى سبيل المثال أرجع العديد من الباحثين الجرائم الوحشية التي قام بها النظام النازي إلى عقيدة هذا النظام بنظرية التطور الداروني التي تقول بأن البقاء للأقوى و الأصلح و الأقدر على التكيف حتى أن بعض الباحثين قال بأن عنوان مذكرات هتلر "كفاحي" مأخوذ من هذا المعنى ، و قد ألف ريتشار ويكارت Ritchard Weikart رئيس قسم التاريخ في جامعة كالفورنيا كتابا أثار جدلا في الأوساط الأكاديمية بعنوان "من دارون إلى هتلر" حول هذا الموضوع .   



مقدمة[4] : تطور الرؤية البشرية للكرامة الإنسانية



لفت انتباه الإنسان منذ القدم عدم وجود مخلوق أكثر منه ذكاء و أحسن منه قواما فاعتقد بأن الخالق ميزه عن بقية المخلوقات ، ثم امتدت هذه العقيدة البشرية في التمييز إلى نظراء الإنسان من البشر فباتت التفرقة القائمة على الاعتزاز بالذات و تحقير الآخر بأشكال مختلفة ميزة من مميزات التاريخ البشري ، فينسب لبعض القبائل الهندية الأمريكية القديمة أنها كانت تطلق على نفسها لقب "الناس الذين لا ناس سواهم" ، و جاءت الديانات السماوية لتقنن ذلك مؤكدة بعض جوانبه و ملغية لجوانب أخرى ، فقد جاء في العهد القديم (( خلق الله الإنسان على صورته ، على صورته الله خلقه )) فأعطى الخالق الإنسان هذه الكرامة و القدسية و الميزة دون سواه من الخلق و من هنا و كنتيجة طبيعية سخر له الخلق فقد ورد في العهد القديم أيضا (( و قال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ، فيتسلطون على سمك البحر و على طير السماء و على البهائم و على كل الأرض و على جميع الدابات التي تدب على الأرض )) ، هذا بالنسبة للعهد القديم و أما القرآن الكريم فقد نص بأن الإنسان هو خليفة الله في الأرض المخلوق بأحسن تقويم[5] و الذي نفخ الله فيه من روحه ثم أمر الملائكة بالسجود له كما سيأتي ، كما نص أيضا على أنه سخر له سائر الخلق حيث قال تعالى : (( و هو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية تلبسونها ))[6] و قال سبحانه : (( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة ))[7] و قال عز من قائل : (( و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون و لكم فيها جمال حين تريحون و حين تسرحون و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون ))[8] و أما النصرانية فقد جعلت من الأرض مركز الكون و نظرت لذلك أيما تنظير حتى جاء بطليموس و كوبرنيكس ليهدموا هذه العقيدة مما ترتب عليه اهتزاز ثقة الإنسان بموضعه في هذا الكون الشاسع .

و في الفلسفة شغلت هذه المسألة عقول الفلاسفة لقرون ، و تعتبر المسألة ذات صلة بكثير من المباحث الفلسفية التي لا زالت حتى يومنا الحاضر محل تساؤل الفلاسفة ، و قد قسم المجتمع اليوناني الإنسان إلى جسد و روح و أعزوا الكرامة الإنسانية إلى الروح فرحب أفلاطون بالموت في محاورته لفيدون لأن الموت يخلص روحه من البدن الحيواني الذي هو سجن و عقوبة جزاء ذنب ارتكبته الروح في عالم سابق هو عالم المثل ، و قد اعتبر اليونانيون الطبقة العاملة ممثلة للجسد الحيواني فشاع بينهم الرق و شكل جزءا هاما من الدخل القومي لأثينا ، كما أن احتقار العمل اليدوي كان عقيدة بعض فلاسفة اليونان ، و بالتالي كانوا إذا تحدثوا عن الإنسان إطلاقا دون تقييد فإنما يقصدون اليوناني دون غيره .

و لا يمكن الحديث عن فلسفة الكرامة البشرية دون التطرق لوجهة نظر الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت في ذلك الذي اعتبر الإنسان غاية في ذاته بغض النظر عن قوميته أو دينه أو طبقته الاجتماعية ، و على أساس نظرته تلك وضع القاعدة الأخلاقية التي تقول "افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك و في شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما و في نفس الوقت غاية في ذاتها ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة" ، ثم جاء هيغل بعد كانت ليضفي قيمة ذاتية للإنسان أيضا و يرتب على ذلك قاعدة أخلاقية حيث يقول في كتابه "أصول فلسفة الحق" : "كن شخصا و احترم الآخرين بوصفهم أشخاصا" .

و يمكن القول بأن مصطلح "الكرامة البشرية" بات شائعا في القرن العشرين بالخصوص و بالتحديد في عام 1948م مع تبني الأمم المتحدة لإعلان حقوق الإنسان ، فقد ورد في أول جملة من ديباجة الإعلان العبارة التالية : (( لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية  بحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية و العدل و السلام في العالم )) ثم ورد في المادة الأولى ما نصه : (( يولد جميع الناس أحرارا متساويين في الكرامة و الحقوق ، و قد وهبوا عقلا و ضميرا و عليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء ))[9] و على نسق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صدرت مواثيق و إعلانات عالمية و إقليمية و محلية أخرى تشترك معه في بعض البنود و تختلف في أخرى ، و من تلك المواثيق ما أصدرته الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي و الذي ورد في مادته الأولى ما نصه : (( المادة الأولى: أ- البشر جميعا أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله و البنوة لآدم و جميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية ، و في أصل التكليف و المسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الإقليم أو الجنس أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات ))[10] و كذلك الميثاق العالمي للحقوق المدنية و السياسية و الميثاق العالمي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية .




إليانور روزفلت أولى الزعيمات السياسيات الأمريكيات و رئيسة لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عارضة الإعلان المكتوب باللغة الأسبانية



إشكالية الكرامة في الفقه الإسلامي:



طفت إشكالية الكرامة الإنسانية في الفكر الإسلامي على السطح مؤخرا و كان أكثر من أبرزها و تحدث عنها الشيخ السعودي حسن الصفار في عديد من مقالاته و كتبه ككتاب "الخطاب الإسلامي و حقوق الإنسان" و كمقال له نشر في صحيفة الشرق الأوسط بعنوان "هذه المجازر و هذه الثقافة التي خلفتها"[11] و تنبع هذه الإشكالية من بعض الأحكام الفقهية الموجودة في كتب المسلمين بمختلف مذاهبهم بما فيها المذهب الجعفري و التي لا يمكن تفسيرها إلا بسلب الكرامة البشرية من الكافر أو المخالف كالقول بجواز غيبة الكافر و المسلم المخالف و سبهم و لعنهم ، وجواز السرقة من الكافر المحارب على خلاف في تعريفه ، بالإضافة إلى الحكم بنجاسة الكافر العينية[12] ، و جواز تشريح جسد الكافر دون المسلم و بعض مسائل الدية على تفاصيل في كل ذلك تطلب من مظانها ، إضافة إلى ما يذهب إليه بعض الفقهاء من التمييز بين النظر إلى المسلمة و غيرها إذا كان النظر من دون شهوة و تلذذ و ريبة ، و بعض أحكام الزواج و الجمع بين الزوجة المسلمة و غير المسلمة . يرفض الشيخ الصفار تلك النظرة للكرامة البشرية ثم يزيد على ذلك بأن يدعو لأن تكون رؤيته أصلا تقوم عليه عملية استنباط الحكم الشرعي حيث يقول : ((وما كان الجدل والسجال الذي دار عن زلزال تسونامي ، من قبل بعض المحسوبين على الدعاة والخط الديني ببعيد عن هذه الأجواء ، حيث قابلوا تلك المأساة الإنسانية بموقف سلبي سيئ ، واعتبروها عقوبة وغضباً من الله بحق من وقعت عليهم و يفرض علينا ذلك المراجعة النقدية لهذه الثقافة السائدة ، لنتعرف على رؤية الإسلام الحقيقية لكرامة الإنسان وحماية حقوقه . فمن مناطق الخلل الرئيسية في مساحة واسعة من الخطاب الإسلامي القول بتجزئة الكرامة الإنسانية ، وأنها خاصة بالمسلمين فغير المسلم بفريق معين من المسلمين مع أن القرآن نصّ على منح الكرامة من الله تعالى لعموم بني آدم ، يقول تعالى : (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )) والآية الكريمة صريحة واضحة في شمولية تكريم الله لبني البشر جميعا وهذا ما أكده بعض المفسرين للآية الكريمة ... إلى أن يقول ... هذا البيان الواضح الصريح كان ينبغي أن يكون أصلاً يرجع إليه في فهم بعض النصوص ، واستنباط بعض التشريعات المتعلقة بالموقف تجاه الآخر المخالف في الدين أو المذهب وأسلوب التعامل معه ))[13] و لكن عملية استنباط الحكم الشرعي من الخطورة و الأهمية بمكان لا يعرفه سوى من خاض حياة الحوزات العلمية و عرف مدى دقة علماء الإمامية في ذلك ، أضف إلى ذلك حساسية علماء المذهب الشيعي خصوصا من القياس و الاستحسان المنهي عنهما في الروايات المنقولة عن المعصومين (ع) ، و بالتالي فإن الرادع المتربص بدعوة الشيخ الصفار المذكورة هو تجنب الاستحسان و حساسية المجتهدين الشيعة منه عند استنباط الحكم الشرعي ، و لكن الشيخ الصفار لم يتفرد بين رجال الدين الشيعة بطرح هذه المسألة و التنظير لها فهو استطاع في بحوثه تطعيم دعوته بشواهد من أقوال مرجعيات دينية كالشيخ المنتظري و مفسرين كالعلامة الطباطبائي صاحب الميزان و غيرهم ، حيث ينقل أن الشيخ المنتظري تحدث في درس "بحث الخارج" قائلا : (( إن ظلم الناس غير جائز بحكم العقل و بحكم الكتاب و السنة أيضا ، نحن نعتقد أن القرآن إذ يقول "و لقد كرمنا بني آدم" فهو يقصد أن بني آدم مكرمون لأنهم بنو آدم ، فحينما يقال حقوق الإنسان ، معنى ذلك أن للإنسان شرفه و كرامته بما هو إنسان ، حتى لو كان كافرا ، لأن الإنسان محترم بذاته عند الله و هذا صريح معنى الآية ، و يقول علي (ع) في عهده لمالك الأشتر "الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" و بالتالي فإن للإنسان حرمته بما هو إنسان . و في حرمة السب يمكن كذلك اعتماد الآية "ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" و ليس فيها قيد المؤمن و المسلم ، يقول الله أنه يكره اختلاق الألقاب السيئة و يقول أيضا "لا يسخر قوم من قوم" ولا يقيد ذلك باعتناقهم الإسلام ، لأن الله أراد أساسا أن تكون العلاقات الاجتماعية سليمة ولا يخاطب الناس بعضهم بعضا بالسوء ، إنه حكم يشمل غير المسلمين أيضا ، و على الأقل فإنه يشمل المسلمين سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين ، إذا آمنتم فلا يحق لكم إهانة مؤمن آخر أو إهانة شخص غير مؤمن ، مقتضى الإيمان أن يكون الإنسان رصينا ولا يتكلم بالترهات . السب مذموم عند الله في نفسه سواء كان ضد مؤمن أو ضد غير مؤمن ، ثمة رواية عن أبي بصير تقول "لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة" و ليس في هذه الرواية أيضا قيد المؤمن أو المسلم فهي مطلقة تشجب سب الإنسان على نحو العموم ، غاية ما يمكن أن يقال هو أن سب المؤمن أسوأ من سب غير المؤمن . من الناحية العرفية و الارتكازية يعد القول بأن سب المؤمنين و ذوي الشخصيات المحترمة أسوأ من سب الأشخاص المستهترين المتميعين قولا صائبا ، أي أن كل شخص عادي في المجتمع مهما كانت عقيدته و ميوله يحكم بأن سب الشخصيات المحترمة أقبح من سب المنحطين أخلاقيا و أشد وطأة على الوجدان العام ))[14] إذن فالشيخ المنتظري في ضمن كلامه السابق يستخدم نظريته للكرامة الإنسانية أساسا ينطلق منه كما هو واضح في استنباط بعض الأحكام الشرعية كحرمة السب و السخرية ، ولكي يتضح التفاوت الذي نريد أن نسلط الضوء عليه والإشكالية التي نود أن نطرحها ، لا بد لي هنا من الإشارة إلى بعض العبارات المقابلة ، فمن يرجع إلى الرسالة العملية للسيد أبي القاسم الخوئي الذي هو مجتهد ومحقق من الطراز الأول و مرجع تقليد ذائع الصيت في زمانه نجد في باب الجهاد العبارة التالية (( فيمن يجب قتاله و هم طوائف ثلاث : الطائفة الأولى الكفار المشركون غير أهل الكتاب فإنه يجب دعوتهم إلى كلمة التوحيد و الإسلام فإن قبلوا و إلا وجب قتالهم و جهادهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا و تطهر الأرض من لوث وجودهم  ولا خلاف في ذلك بين المسلمين قاطبة و يدل على ذلك غير واحد من الآيات الكريمة منها ..الخ))[15] علما بأنه لا يرى حصر الجهاد الابتدائي بالإمام صاحب الزمان (ع) ، هذا بالنسبة للكفار و أما المخالفين فراجع ما يذكره الفقهاء عنهم في بعض أبواب الفقه كباب مستثنيات الغيبة[16] و هكذا تكون الإشكالية واضحة فلا يمكن تبرير قتل الكافر أو جواز غيبة المخالف و سبه إلا بتسقيط كرامته أولا .



* عدم حيادية بعض الباحثين الإسلاميين غير مبررة



من المشاكل الشائعة بين الباحثين الإسلاميين من مختلف الطبقات و المذاهب هو الاصطدام بنصوص لا يتقبلها ذوقهم ثم محاولة التكلف و التجشم في التبرير أو نفي صدورها عن المعصوم (ع) ، و من أبرز مصاديق ذلك هو تلك الروايات المباشرة أو غير المباشرة التي تنتقص من الآخر سواء كان كافرا أو مخالفا في المذهب و التي تمثل موضع حرج لبعض الإسلاميين خاصة السياسيين منهم ، و لا بد من التأكيد – قبل الخوض في البحث – على أن الباحث الإسلامي المنصف و الأمين يجب أن ينقل ما يفهمه من النص بشكل شفاف و صادق دون أن يلويه حسب أهوائه و مذاقه ، فإن تقبله عندئذ فبها و إلا فما هو بمجبور على اتباع عقيدة لا يرى صحتها ، فمن المشين أن نرى من الإسلاميين من يحرف بعض الأحكام الشرعية الدنيوية الخاصة بالكافر بينما يظل يتلو آيات القرآن التي تقول بأن مصير هذا الكافر هو النار و العذاب الأليم فيكون قد جاء بفكر لا هو بالإسلامي و لا هو بالليبرالي ، و لعله من الأسباب التي تحرج الإسلاميين اليوم في هذا الموضوع بالتحديد هو سخرية الغربيين منهم مع أن بعض فلسفات الغرب الرائجة كالديالكتيك و الحتمية التاريخية و التطور الداروني يلزم منها الحط من كرامة الإنسان و جعله حيوانا أو آلة لا أكثر و لا أقل ، و بالتالي لا بد للباحث أن تكون الحيادية العلمية و الأمانة نصب عينيه خاصة في ساحات البحث العلمي و الأكاديمي .



* تعريف الكرامة



مع أن استخدام الكلمة بالغ القدم إلا أنه نادرا ما يطرح مبحث لتعريف الكلمة تعريفا جامعا مانعا متوافقا مع القواعد المنطقية للتعريف ، و لا زال تعريف الكرامة الإنسانية و لوازم هذا المفهوم محل جدل بين العلماء و بين الثقافات المختلفة ، فعلى سبيل المثال فشل رئيس مجلس الأخلاقيات الحيوية Bioethics البريطاني عام 2008 بأن يحوز على إجماع حول تعريف الكرامة و ورد في الرسالة التي بعثها رئيس المجلس Edmund D. Pellegrino إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ما يلي "ليس هنالك اتفاق عالمي حول معنى مصطلح "الكرامة الإنسانية"[17] ، و تذكر نوبر Knopper في بحث لها بعنوان "الكرامة الإنسانية و التراث الجيني" مشيرة إلى مجموعة من البنود المذكورة في مواثيق دولية : (( هذه البنود المهتمة بكرامة الإنسان لم يتم تفسيرها تفسيرا شرعيا أو تطبيقها من قبل أي من تلك المؤسسات المؤهلة المستقلة العالمية ))[18]. و يرجع اختلاف الساسة و الحقوقيين في التعريف إلى اختلاف الفلاسفة الشديد و تعدد مذاهبهم في ذلك[19] و حيث أن الفلاسفة يبحثون المسألة بمعزل عن النصوص الشرعية و بما أن بحثنا هذا مهتم بالرأي الشرعي فإننا سنكتفي ببحث المسألة في ضوء النصوص الدينية .



* الكرامة البشرية بنظرة إسلامية:



- الكرامة مفهوم مشكك



اعلم أن النصوص الإسلامية أشارت بشكل واضح إلى أن مفهوم الكرامة مفهوم مشكك بحسب اصطلاح المناطقة يتفاوت شدة و ضعفا و أن مناط هذا التفاوت هو التقوى قال تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ))[20] وبما أن معتقد المسلمين عموما والشيعة خصوصا هو انحصار تحقق كمال التقوى باتباع أوامر الله تعالى و الانتهاء عن نواهيه ولا يتأتى ذلك إلا باتباع الدين والمذهب الحق ، فكانت الولاية – في مذهب الإمامية – سببا لقبول الأعمال علاوة على أنها مطلوبة في حد ذاتها ، و من هنا لا يمكن للمكلف أن يرقى إلى المستويات العالية من الكرامة دون عقيدة سليمة ، فقد روي في الكافي عن أبي جعفر (ع) أنه قال : (( ما خلق الله خلقا أكرم على الله عز و جل من المؤمن لأن الملائكة خدام المؤمنين و أن جوار الله للمؤمنين و أن الجنة للمؤمنين و أن الحور العين للمؤمنين ))[21] ، و مع ذلك فإن الإنسان بما هو إنسان إذا لم يقم بما يستوجب زوال كرامته يظل يتمتع بمستوى من الكرامة بسبب كونه إنسانا و لنسمه بالكرامة العامة و هو ما أشارت إليه مجموعة من النصوص من قبيل قوله تعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ))[22] و قوله سبحانه (( و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ))[23] فقد جاء التعبير ببني آدم و طبيعي أن بني آدم ليسوا كلهم على دين واحد يقول العلامة الطباطبائي (ره) : (( .. و بذلك يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية و القرب و الفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين و الكفار و الفساق و إلا لم يتم معنى الامتنان و العتاب فقوله (( و لقد كرمنا بني آدم )) المراد بالتكريم تخصيص الشيء بالعناية و تشريفه بما يختص به و لا يوجد في غيره ، و بذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي و هو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه ، و التفضيل معنى إضافي و هو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية ، و الإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل و يزيد على غيره في جميع الصفات و الأحوال التي توجد بينها و الأعمال التي يأتي بها . و ينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الإنسان به في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه و منكحه و يأتي به من النظم و التدبير في مجتمعه ، و يتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية ، و قياس ذلك مما لسائر الحيوان و النبات و غيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة و هي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس و قد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة و لا يزال يسعى و يرقى.

و بالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية و هو الذي يمتازون به من غيرهم و هو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل و الخير من الشر و النافع من الضار )) انتهى[24]. ، ثمة آية ثالثة هي قوله تعالى (( و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمئ مسنون فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ))[25] و يعلق عليها العلامة الطباطبائي (ره) قائلا : (( أن السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الإنسانية و إن كان آدم (ع) هو القبلة المنصوبة للسجدة ، فهو في أمر السجدة كان مثالا يمثل به الإنسانية نائبا مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجودا له من جهة شخصه ))[26] انتهى ، و أما الروايات الشريفة فقد أسلفنا قول أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر (ره) و أضف إليه قول السجاد (ع) في رسالة الحقوق (( و أما حق مملوكك فأن تعلم أنه خلق ربك ، و ابن أبيك و أمك و لحمك و دمك لم تلمكه لأنك صنعته دون الله ولا خلقت شيئا من جوارحه ولا أخرجت له رزقا .. الخ ))[27] و عن رسول الله (ص) أنه قال : (( ما شيء أكرم على الله من ابن آدم ))[28]  و في آمالي الشيخ بسنده عن زيد بن علي عن أبيه (ع) في قوله تعالى : "و لقد كرمنا بني آدم" يقول : فضلنا بني آدم على سائرالخلق "و حملناهم في البر و البحر" يقول : على الرطب و اليابس "و رزقناهم من الطيبات" يقول : من طيبات الثمار كلها "و فضلناهم" يقول : ليس من دابة و لا طائر إلا هي تأكل و تشرب بفيها لا ترفع بيدها إلى فيها طعاما ولا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل . انتهى [29] و عن الأصبغ بن نباتة أن عليا (ع) سئل عن قول الله تبارك و تعالى (( وسع كرسيه السماوات و الأرض )) قال : (( السماوات و الأرض و ما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي ، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن الله ، فأما ملك منهم في صورة الآدميين و هي أكرم الصور على الله و هو يدعو الله و يتضرع إليه و يطلب الشفاعة و الرزق لبني آدم .. الخ ))[30] و عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى : (( و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) قال : (( خلق كل شيء منكبا غير الإنسان خلق منتصبا ))[31] ، و لم تخل كلمات فقهائنا سواء منهم المعاصرين أو الماضين من الإشارة إلى ذلك ، يقول الشهيد الثاني (ره) في "روض الجنان" : (( و الذي كرم به بنو آدم على ما اختاره محصلوا المفسرين القوة و العقل و النطق و العلم و الحكمة و تعديل القامة و الأكل باليد و تسليطهم على غيرهم و تسخير سائر الحيوانات لهم و أنهم يعرفون الله و أن جعل محمدا (صلى الله عليه و آله) منهم و غير ذلك من النعم التي خصوا بها .. الخ ))[32] و واضح أن ما سطره غير خاص بالمسلمين فالظاهر أن قدرتهم على معرفة الله و رسوله بالفطرة أو بالقوة . 



- التفاوت في الكرامة لا بد أن يكون بسبب استحقاق



لماذا خلق الله الكلب كلبا و خلق الحجر حجرا و خلق الإنسان إنسانا؟ هذا السؤال شغل مساحة شاسعة من الكتب العقائدية و الفلسفية و هو سؤال ذو صلة بالأصل الثاني من أصول الدين و هو العدل ، و نحن هنا لا نريد التطرق لجوابه لما سيؤدي إليه ذلك من الخروج عن الموضوع إلا أننا نرى بأنه لزاما أن نقول إجمالا بأن الله سبحانه منزه عن الترجيح بلا مرجح و منزه عن العبثية و بالتالي لا بد أن يكون هنالك استحقاق خلف هذا التباين و التفاوت بين المخلوقات ، و الظاهر أن التفاوت بين الخلق يرجع بعضه إلى عوالم سابقة بدليل أنهم يولدون متفاوتين و بعضه الآخر إلى عالم الدنيا لأن الله سبحانه جعل مناط التفاوت في الكرامة هو التقوى و الدنيا هي دار التكليف التي يتقى أو يعصى الله فيها ، جدير بالذكر أن العديد من النصوص أشارت إلى مسألة التفاوت و مناطها كقوله تعالى : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ))[33] وقد سطرت تفصيل تحليل هذه المسألة في تقريري لبحوث العلامة الحيدري حول العدل الإلهي ، كما تطرق إليها بأسلوب ميسر المطهري في "العدل الإلهي" فراجع.



- مصدر الكرامة البشرية



عندما نتحدث عن مصدر الكرامة البشرية فنحن نعني بذلك تلك الكرامة التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات لا تلك الراجعة إلى تقواه و إسلامه ، فما هو الشيء الذي يجعل من الإنسان مميزا عن غيره من المخلوقات ، لماذا يمكنني أن أقتل نملة أو كبشا دون أن أساءل بينما لا يمكنني أن أقتل إنسانا ، ليس الجواب على ذلك بهذه البساطة و قد حاولت المدارس العرفانية الشيعية أن تعطي أجوبة غير مباشرة لهذا السؤال تلقي بالثقل الأكبر من الإجابة على كاهل الكشف و الشهود و الإشراق ، و قد جاء التعبير عن ذلك بمعرفة النفس ، نعم فمعرفة ذات الإنسان كفيلة بإجابة السؤال لأن كرامة الإنسان ليست في متعلقاته و إنما في ذاته ، يقول الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي (قدس سره) في شرح الزيارة الجامعة ما نصه : (( فتكريمه – سبحانه – ذات الإنسان بأن خلقها من ظل كينونته أي نور مشيته و ألبسها صورة ربوبيته و هيكل توحيده و اتخذها ذاتا له نسبها إليه كما قال علي (ع) في حديث كميل للأعرابي قال "و ما النفس اللاهوتية الملكوتية" فقال (ع) "قوة لاهوتية و جوهرة بسيطة حية بالذات أصلها العقل منه بدأت و عنه وعت و إليه دلت و أشارت وعودها إليه إذا كملت و شابهته و منها بدأت الموجودات و إليها تعود بالكمال فهي ذات الله العليا[34] و شجرة طوبى و سدرة المنتهى و جنة المأوى من عرفها لم يشق و من جهلها ضل سعيه و غوى" فقال (ع) "فهي ذات الله العليا" أي ذات الله اصطفاها و كرمها و نسبها إليه و جعلها صفته الدالة عليه و آيته المبينة أنه الحق و كتابه المبين و صراطه المستقيم فهي أقرب الذوات إليه و أكرمها عليه و أحبها إليه بالكمال ))[35] ، و يقول الفيلسوف الإمامي صدر الدين الشيرازي (ره) : (( قد علمت بما سردنا عليك أن الإنسان بما هو إنسان يخالف سائر الحيوانات بقوة يخصه بها يدرك المعقولات الكلية و هو النفس الناطقة ، و قد جرت عادتهم بتسمية هذه القوة عقلا هيولانيا و عقلا بالقوة و النفس الناطقة و هي موجودة في كل واحد من أفراد الإنسان طفلا كان أو بالغا مجنونا كان أو عاقلا مريضا كان أو سليما . و علمت أيضا أن أول ما يحصل في هذه القوة من المعقولات المسماة بداية العقول و الآراء العامية هي الأوليات الحاصلة لها من غير تعلم و قياس و حدس و تجربة بل على سبيل اللزوم و الجبر و هي المبادي لغيرها من الثواني التي يمكن خلو بعض الإنسان عنها )) ثم يشير إلى ما إذا كانت تلك المعاني الأول أمورا ذاتية في الإنسان أو أعراضا و لهذه الإشارة أهمية خاصة في تحديد ما إذا كانت الكرامة البشرية المترتبة عليها ذاتية أو عرضية ، يقول الملا صدرا (ره) : (( ثم نقول : لا يخلو إما أن تكون تلك المعاني الأول جواهر داخلة في ذات الإنسان أو أعراضا حالة فيها فإن كانت أعراضا فالعرض لا يستقيم قوامه إلا بمحل جوهري الذات يحله و إن كانت جواهر فمع كونه فاسدا إذ كل مفهوم ذهني فهي من الكيفيات النفسانية و يجوز خلو الذهن عنها فمحلها أولى بالجوهرية فالنفس إذن جوهر ))[36] ثم يصرح لاحقا بأن النفس الناطقة هي مصدر الكرامة الإنسانية العامة الذاتية فيقول : (( .. و منها قوله تعالى "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" أي من أمر نفسه لكونها نورا مجردا و بدنه لكونه ذا امتزاج معتدل وحداني يشبه بالجرم السماوي ، و منها قوله تعالى "فأحسن صوركم" و هو مجمل يفصل و يفسر بقوله "و لقد كرمنا بني آدم" أي بما يختص به من النفس الناطقة الباقي جوهرها من الفناء و الفساد المستعد للفضائل الحقيقية "و حملناهم في البر" أي إدراكاتهم الحسية "والبحر" أي بحر المعارف و إدراكات العقلية "ورزقناهم من الطيبات" أي من العلوم اليقينية و المقاصد الحقيقية "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" حيث زين ظاهرهم بتناسب الصور و الهيئات و باطنهم باعتدال المزاج و باطل باطنهم بالقوى المحركة و المدركة التي زاد بها على الحيوانات الأرضية و باطن باطن باطنهم بالنور الإلهي و الشعلة الملكوتية من عقلية النظري و العملي .. الخ ))[37] .

إذن فإدراك معنى الكرامة البشرية سواء تلك الخاصة بالمؤمنين أو العامة لجميع أفراد البشر متوقف على معرفة النفس و الروح لأنه ورد في الخبر (( و إنما كرامة النفس و الدم بالروح ))[38] ، و قد أشارت الروايات إلى أهمية ذلك فعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (( أفضل المعرفة معرفة الإنسان لنفسه ، و أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه ))[39] و ورد عنه (ع) : (( من عرف نفسه فقد عرف ربه )) كما ورد أن خواص أصحاب أمير المؤمنين (ع) كان لهم اهتمام بالموضوع ككميل ابن زياد (ره) الذي سأل أمير المؤمنين (ع) قائلا: أريد أن تعرفني نفسي . فأجابه بقوله : يا كميل أي النفس تريد أن أعرفك؟ قلت : يا مولاي و هل هي إلا نفس واحدة؟ فقال : يا كميل إنها هي أربعة النامية النباتية و الحسية الحيوانية و الناطقة القدسية و الملكية الإلهية[40]



- الكرامة العامة تزول بمعاندة الحق



تشرق الشمس على الزهرة فتفوح ريحا طيبة كما تشرق نفس الشمس بذاتها و بنفس القدر من الأشعة على الجيفة فتنفث رائحة كريهة ، بنفس المنطق – و لله سبحانه و تعالى المثل الأعلى – أكرم الله سبحانه جميع أفراد الجنس البشري بالاستعدادات ، من العقل و القدرة على التعلم و حسن القوام و القدرة على إدراك الكليات و غير ذلك ، فقام البعض باستغلالها استغلالا جيدا جعله يرتقي سلم الكرامة ، بينما استغلها البعض الآخر استغلالا سيئا جعله ينحدر حتى عبر عنه الله عز و جل بقوله (( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ))[41] و قوله عز من قائل (( و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ))[42] فالآيتان تشيران بداية إلى الإكرام الإلهي الذي خص به الإنسان حيث أعطاه القلب (و القلب هنا اصطلاح قرآني يشمل أداة التعقل) و الأعين و الآذان إشارة إلى الحواس ، ثم عقب بأن مستوى هؤلاء كالأنعام بل هم أضل ، و في الخبر عن أبي جعفر (ع) أنه قال : (( إن الله لا يكرم روح كافر و لكن كرم أرواح المؤمنين ، و إنما كرامة النفس و الدم بالروح ، و الرزق الطيب هو العلم ))[43] فكان الفريقان مصداقا لقول الشاعر :



إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. و إن أنت أكرمت اللئيم تمردا



و بالتالي إذا عرف الإنسان الحق و عانده سواء على المستوى العقائدي أو الفقهي أو الأخلاقي زالت كرامته بحسب عناده و انحدر إلى رتبه دون الحيوان ، ففي الخبر المروي في القمي عن الصادق (ع) أنه قال : (( من منع قيراطا من الزكاة فليس هو بمؤمن و لا مسلم و لا كرامة ))[44] فهذا فساد عملي موجب لسقوط الكرامة ، و في العلل عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) فقلت الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال : قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) : (( إن الله عز و جل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة و ركب في البهائم شهوة بلا عقل و ركب في بني آدم كليهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة و من غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم ))[45] بل ربما تزول كرامة الإنسان باعتقاده الباطل الذي لا دليل عليه مع التفاته لعدم وجود الدليل حتى لو يعلم الحق في المسألة فالتوقف في العقيدة و الاحتياط أهون من اعتناق عقيدة ربما تهوي بالإنسان إلى الهاوية ، و من هنا يقول الفقهاء بأن لا حرمة للكافر أو المشكوك في إسلامه فيجيزون تشريح جثته .

و هنا تساؤل مهم حول أهل الذمة و المعاهدين الذين قامت عليهم الحجة فقد جعل الإسلام لهم أحكاما خاصة سمح لهم وفق قيود معينة بممارسة عقائدهم تحت حماية الدولة الإسلامية ، و التساؤل هو : هل لهؤلاء حرمة و كرامة مع معاندتهم للحق أم أن الحرمة و الكرامة هي للعهد و الميثاق ، يناقش آية الله محمد المؤمن هذا التساؤل في بحث بعنوان "التشريح في التعليم الطبي" فيذكر طائفتين من الدلائل التي تدل على أن لأهل الذمة حرمة أولها الأمر بالكف عن قتالهم و رفع اليد عنهم إذا قبلوا الجزية و ثانيها النهي عن قتلهم و الجناية عليهم و تعلق الدية بل القصاص بالجناية عليهم فيسرد الروايات الواردة في كلا الطائفتين و يناقشها ليستنتج (( ثبوت الحرمة لأهل الذمة و أهل الكتاب و إن لم تكن هذه الحرمة على حد حرمة المسلمين ))[46] إلا أن مصدر هذه الحرمة هو محل التساؤل الذي يهمنا في هذا البحث ، فبعدما أورد آية الله محمد المؤمن الرواية التالية المروية عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل عن النصراني يكون في السفر و هو مع المسلمين فيموت؟ قال : (( لا يغسله مسلم و لا كرامة ولا يدفنه ولا يقوم على قبره و إن كان أباه ))[47] و ناقشها قال : (( و بعد ذلك كله فلا يبعد أن يقال إن غاية المستفاد من الطائفتين المذكورتين إن لأهل الذمة الذي يعيشون تحت لواء الإسلام ملتزمين بشرائط الذمة هذه الأحكام و تلك الحقوق ، و أما أن ملاك هذه الحقوق و منشأها هل هي حرمة أهل الذمة أم أن منشأها حرمة ذمة الإسلام فلا دلالة لهما على شيء من ذلك ، بل إن من كان منهم محكوما بأن يقاتل و يقتل فلا حرمة له في نفسه إلا أن الدولة الإسلامية حينما تأذن لهم بأن يعيشوا في البلاد الإسلامية على أن يلتزموا بشرائط الذمة ، فنفس هذا الإذن مبني على رعاية مصالح خطيرة أوجب أن يعامل معهم تلك المعاملات ، فالحرمة حرمة ذمة الإسلام و هي تجري في كل مورد أعطى الإسلام و أولياء أمور المسلمين أمنا و ذمة لأحد حتى ولو كان كافرا حربيا مشركا ، فانظر إلى قوله تعالى : (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد )) فقد ورد الأمر بقتلهم و أخذهم أخذا شديدا و متابعتهم و التأكيد على ذلك ، و لكن مع ذلك كله قال تبارك و تعالى في الآية التالية (( و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه )) فأمر نبيه (ص) بأن يؤمن المستأمن و يجير المستجير ، و إن كان كافرا مشركا واجب القتل ، فيعطي له الأمان إلى أن يبلغ مأمنه و مأواه . و من الواضح أنه ما دام في هذا الأمن الإسلامي فلا يجوز لأحد أن يتعرض له بإيذاء فضلا عن جرح أو قتل ، ولا يبعد ثبوت الدية على من أصابه بما يوجبها . إلا أن كل ذلك ليس لأجل أن للمشرك حرمة في الإسلام ، بل إنما هو لأجل أنه أعطي الأمان فهذا كله حرمة الإسلام و تكريم لأمان الإسلام . و حينئذ فأهل الكتاب من اليهود و النصارى و المجوس الذين يعيشون في ظل دولة الإسلام و تحت لوائه ليس لهم حرمة بما هم أهل لكتاب ، بل بما أنهم في ذمة الإسلام و حماه ، وإلا فهم مكلفون بإعطاء الجزية عن يد و هم صاغرون ، فقد كتب عليهم الصغار رحمة لهم لكي يجدوا ذلا فيدخلوا في عز الإسلام . و مما يدل على أن لا حرمة للكفار ما ورد عنهم (ع) مستفيضا في بيان مشاركة الإيمان للإسلام من قولهم (ع) : (( الإسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء )) فالإسلام هو الموجب لحقن الدم فالكافر ليس – بما هو كافر – محقون الدم فضلا عن أن يكون له حرمة أزيد من ذلك . و عليه فلا مجال للاستدلال لاحترامهم بمثل قولهم (ع) : (( في رجل قطع رأس الميت . قال : عليه الدية ، لأن حرمته ميتا كحرمته و هو حي )) فإنه يدل على انجرار الحرمة الثابتة للميت حال حياته إلى ما بعد وفاته ، ولا محالة يختص مورده بمن كان له في حال الحياة حرمة ، و أما من لم يثبت له حرمة حال الحياة فقهرا ليس مشمولا للعموم المذكور ، بل أنت تعلم أن الشك هنا في أن الحرمة الواردة في أهل الذمة هي حرمة الإسلام أو حرمة لهم كي يكون قبول شرائط الذمة كحيثية تعليلية لثبوت هذه الاحترامات لأهل الذمة أنفسهم ، و مجرد الشك كاف في عدم إمكان الاستدلال بهذه الروايات على ثبوت الحرمة لهم ، فإنه من قبيل الاستدلال بالعام في الشبهة المفهومية . هذا كله في أهل الذمة من أهل الكتاب أما الحربيون منهم و سائر أنواع الكفار الذين لا يصح عقد الذمة معهم فعدم ثبوت الحرمة لميتهم واضح كما أن مما ذكرنا يظهر حال المستأمنين الذين أعطتهم الحكمة الإسلامية الأمان في البلاد الإسلامية ، فإن حرمة أشخاصهم بأنفسهم غير ثابتة ، و إنما الحرمة لأمان الإسلام الذي أعطاه لهم ولي المسلمين ، و لا يقتضي أزيد من المماشاة معهم حال حياتهم لا بعد موتهم ، فلا دليل على لزوم مراعاة الحرمة لهم و لأجسادهم . فتحصل أن الكفار مطلقا لا دليل على حرمة تشريح أجسادهم و تقطيعها للأغراض الطبية و غيرها . نعم لو وقع عقد خاص بين ولي أمر المسلمين و زعماء الكفر على أن لا يتعرضوا لأجساد الموتى من الكفار ، فهذا العقد عقد محترم يجب الوفاء به بحكم عموم قوله تعالى : (( أوفوا بالعقود )) كما لا يخفى ))[48] و طرح آية الله محسن الخرازي أفكارا مشابهة للأفكار السابقة حيث يتعرض للحديث عن كرامة الكافر في بحث له بعنوان "بحث في حكم التشريح" قائلا : (( مضافا إلى التصريح بنفي الكرامة عن الميت النصراني في معتبرة عمار بن موسى عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل عن النصراني يكون في السفر و هو مع المسلمين فيموت ، قال : لا يغسله مسلم و لا كرامة و لا يدفنه و لا يقوم على قبره و إن كان أباه )) فإنه حاك عن عدم الحرمة الذاتية للكفار ، و حيث إن المعتبرة تدل على نفي كرامة الكفار و احترامهم تقدم على المطلقات بناء على تسليم إطلاقها كما هو مقتضى الجمع بين المثبت المطلق و النافي المقيد ))[49].





- كلام المطهري في حرية العقيدة و الكرامة الإنسانية



للشيخ المطهري (رحمه الله) كلام قيم جدا في مصدر الكرامة الإنسانية و هو في كلامه يربط ما بين تساؤل يطرح عليه عن حرية العقيدة و بين الكرامة و لما في كلامه من فائدة جمة أنقله كما قرره حسين يزدي في كتاب "الحرية عند الشهيد المطهري" حيث يقول تحت عنوان "العلاقة بين إعلان البراءة من المشركين و مبدأ الحرية" ما نصه : (( يقولون أن الإسلام يقول : تعاملوا بشدة مع المشركين الذين ليس بينكم و بينهم عهد أو الذين نقضوا عهدهم معكم و أمهلوهم ، فإن تابوا بعد ذلك و أسلموا فلا ضير عليهم و إن لم يتوبوا و عاندوا فاقتلوهم ، أما إذا جاؤوكم لمعرفة الحقيقة فأعطوهم الأمان و إلا فاقتلوهم ، فهل ينسجم هذا المبدأ الإسلامي مع مبدأ حرية العقيدة الذي يعد في هذا اليوم جزءا من حقوق الإنسان؟ و كيف يمكن تعليله إذا لم ينسجم؟ إن حرية العقيدة هي من الحقوق الإنسانية الأولى ولا يسمح قانون حقوق الإنسان بالتعرض لأحد من أجل العقيدة التي اختارها فكيف يأمر الإسلام بالتعامل وفق المنطق أعلاه مع المشركين (لا مع أهل الكتاب كالنصارى و اليهود و المجوس)؟ ثم هل ينسجم هذا الأمر مع القاعدة القرآنية التي تقول (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) أي أن القرآن يعلن مرة (( لا إكراه في الدين )) ثم يأتي ليقول (( براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين )) إلى أن يقول (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم )) لماذا؟ لما قتل المشركين حيثما وجدوا بينما يعلن نفسه (( لا إكراه في الدين ))؟!!

تعد حرية العقيدة كما قلنا في هذا اليوم حقا من حقوق الإنسان ، و يقولون أنه حق طبيعي و فطري للإنسان أن يختار العقيدة التي يريد ، ولو تصدى أحد لعقيدته فإنما يتصدى لحق منحته الطبيعة أو الخلقة للإنسان ، و يرتكب ظلما في هذا المجال .

إلا أن أساس هذا الكلام باطل ، صحيح أن الإنسان لديه حق طبيعي و فطري إلا أن هذا الحق الطبيعي و الفطري لا يعني احترام كل عقيدة يختارها الإنسان لنفسه ، إنهم يقولون أن الإنسان محترم بما أنه إنسان ، و لهذا لا بد من احترام إرادته و انتخابه أيضا ، ولا حق لأحد أن يعترض سبيله يحاسبه على عقيدته التي اختارها بنفسه ، غير أن الإسلام يرفض مثل هذا الكلام و يقول : صحيح أن الإنسان محترم ، لكن هل لا بد من احترام انتخابه ، مهما كان هذا الاحترام؟ إن احترام الإنسان يملي احترام مواهبه و كمالاته الإنسانية أي احترام إنسانيته .

فالإنسان إنما صار إنسانا بسبب ما أودعته اليد الإلهية فيه من سلسلة من المواهب و الاستعدادات العظيمة و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله (( و لقد كرمنا بني آدم )) فالإنسان يتمتع بالفكر و القابلية العلمية مختلفا بهما عن الحيوانات و النباتات و الجمادات ، و لهذا السبب ينفرد عنهما بالاحترام ، و قد قال الله تعالى أيضا (( و علم آدم الأسماء كلها )) فالله قد علم أسماءه للإنسان دون غيره من المخلوقات ، و كمال الإنسان في أن يكون عالما ، فلديه سلسلة من القابليات الأخلاقية و المعنوية و بإمكانه أن يتمتع بكرامة خلقية سامية ، و لديه من المشاعر العليا التي لا يمتلكها لا الحيوان ولا النبات ، كما أن إنسانية الإنسان ليست بهيكله و مشيه و كلامه و طعامه ، فإنسان كهذا إنسان بالقوة لا بالفعل ، و من الممكن أن يرتكب الإنسان أبشع الجرائم في حق الإنسان نفسه ، أي أن أنسف أنا الإنسان إنسانيتي بيدي ، و إذا ما اتخذت خطوات مناهضة للكمالات الإنسانية بإرادتي ، فأنا لست سوى إنسان مضاد للإنسان أو في الحقيقة حيوان مضاد للإنسان ، فإذا كنت معاديا للعلم و قلت أن العلم في ضرر الإنسان فأنا إنسان معاد للإنسان ، بل الصحيح "حيوان معاد للإنسان" أو إنسان معاد للإنسانية الحقيقية بالقوة ، فأنا لو تمردت على الصدق و الأمانة و الكرامة الإنسانية و أصبحت مثل "ميكافيللي" نصيرا للسيادة و قلت أن أخلاقي و الإنسانية و الشرف و الأمانة إنما هي وسيلة الأقوياء على الضعفاء و أساس السيادة ، فأنا لست سوى إنسان عدو لإنساني[50].

وأسمى الاستعدادات الموجودة عند الإنسان و أكرمها هي الحركة نحو الله تعالى : (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) و التشرف بشرف التوحيد هو الذي يضمن السعادتين الدنيوية و الأخروية ، فإذا ما تمرد أحد على التوحيد فهو إنسان معاد للإنسان ، أو قل حيوان معاد للإنسان ، و من هنا ندرك أن معيار كرامة الإنسان و احترامه و حريته حركته في مسار الإنسانية ، و لا بد من إعطاء الحرية له خلال حركته في هذا المسار ، و ليس أن تعطى له الحرية في انتخاب كل ما يشاء حتى و إن كان ذلك الانتخاب متعارضا مع الإنسانية . فأولئك الذين تقوم فكرتهم حول حرية الإنسان على أساس حرية إرادته – أي أنه حر في كل ما يشاء – يقولون "الإنسان حر في اختيار عقيدته" لكن ماذا لو اختار الإنسان عقيدة مناهضة للإنسان نفسه و مضادة له[51] ))[52]


- الكرامة بين العقيدة و العمل



إذا قلنا بأن الإيمان و العمل الصالح هما مناط التفاوت في الكرامة البشرية يقول البعض بأنني أفهم أن يكون الخلق الحسن و الإحسان إلى الآخرين سببا لفضل الإنسان كما أنني أفهم أن تكون العقيدة المؤدية إلى العمل الصالح سببا لكرامة الإنسان فعلى سبيل المثال هنالك فرق بين من يعتقد حسن الكرم و بين من يعتقد حسن البخل ، فهذه العقيدة من حيث تأثيرها المباشر في الواقع العملي تكون سببا لكرامة أو ضعة الإنسان ، و لكنني لا أفهم أن تكون عقيدة نظرية بحتة لا شأن لها في الواقع العملي سببا في كرامة الإنسان أو ضعته ، فماذا لو كنت أعتقد بأن الله واحد و لم أكن عنصرا إيجابيا في المجتمع ، بل و ماذا لو كنت موحدا لكنني سيء الخلق و التعامل ألا يكون المشرك أكرم مني عندها؟ ثم ماذا عن غير المسلمين أو غير الشيعة الذين اخترعوا اختراعات أفادت العالم كأديسون مكتشف الكهرباء؟[53] أضف إلى ذلك .. ما فائدة بعض العبادات الفردية التي لا شأن لها بالمجتمع كالصلاة؟ ..

واضح أن التساؤلات السابقة تربط كرامة الإنسان بفائدته لمجتمعه كما أنها تفترض عدم وجود مستند عقلاني يمكن من خلاله لجميع البشر التوصل إلى الحق من التوحيد و العدل و النبوة و الإمامة و المعاد ، و أما الدين فيرى بأن الله يسر الإنسان للتوصل إلى العقائد الحقة ، و بالتالي فالمؤمن أفضل و أكرم على الله من غيره بغض النظر عن الجانب العملي ، فعن أبي عبد الله (ع) أنه قال : كان أمير المؤمنين (ع) كثيرا ما يقول في خطبته (( يا أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره و السيئة فيه تغفر و الحسنة في غيره لا تقبل ))[54] أضف إلى هذه الروايات تلك التي تتحدث عن اللطخ و أثره في عمل و عقيدة المخالفين .

ثم إن هنالك نكتة في غاية الأهمية في جواب الإشكاليات السابقة و هي أن العدل الإلهي يقتضي أن يجازى المحسن بإحسانه سواء كان كافرا أو مؤمنا و هذا الجزاء قد يكون دنيويا أو أخرويا ، فأما الكافرون فقد حرم الله عليهم الجنة في الحياة الآخرة و بالتالي فهم إما أن ينعموا بنعم دنيوية مقابل إحسانهم أو أن يخفف عنهم العذاب يوم القيامة أو أن يوفقهم الله تعالى للهداية قال تعالى : (( و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين ))[55] ، و جزاء المؤمنين أيضا إما دنيوي أو أخروي إلا أن بعض جزائهم قد يؤخر إلى الآخرة خلافا للكافر ، فإذا عرفت ذلك تبين أن الكرامة المقصودة في الشرع لا تترتب عليها الحقوق الدنيوية و التي منها حرية العقيدة و التعبير فحسب و إنما تترتب عليها الحقوق الأخروية أيضا و التي تسمى بالفضل و هي خارجة تماما عن هذا المبحث كما أن هنالك معادلة إلهية معقدة تحكم الجزاء ، يقول الشريف المرتضى (ره) في قوله تعالى (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ما نصه : (( و وجه آخر مما يمكن أن يقال في هذه الآية أيضا : إن مفهوم الآية إذا تؤملت يقتضي أنه تعالى لم يرد الفضل الذي هو زيادة الثواب و إنما أراد النعم و المنافع الدنيوية ، ألا ترى قوله تعالى "و لقد كرمنا بني آدم" و الكرامة إنما هي الترفيه و ما يجري مجراه ثم قال "و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات" ولا شبهة في أن الحمل لهم في البر و البحر و رزق الطيبات خارج عما يستحق به الثواب .. الخ ))[56] و بالتالي يمكن القول أن هذه من الصعوبات التي تواجه جعل مسألة الكرامة العامة مستندا من مستندات الاستنباط الشرعي و الأحكام الشرعية خاصة مع وجود أدلة خاصة تبحث في مواطنها في كثير من الأحكام التي يظن من ينتقدها أن ملاكها هو نفي الكرامة كتجويز غيبة المبتدع و سبه و مباهتته .



- كرامة المستضعف الذي لم تقم عليه الحجة



ورد في العديد من الروايات التعقيب بعبارة "ولا كرامة" و قد ناقش دلالة هذا التعبير آية الله محمد المؤمن في بحثه حول التشريح و ذلك عندما وردت في معتبرة عمار بن موسى عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل عن النصراني يكون في السفر و هو مع المسلمين فيموت؟ قال : (( لا يغسله مسلم و لا كرامة و لا يدفنه ولا يقوم على قبره و إن كان أباه )) فأورد سماحته تساؤلا في البين مفاده أن قوله "ولا كرامة" يفيد نفي الاحترام عن ميت النصارى ، ثم ناقش ذلك قائلا : (( و أما قوله "و لا كرامة" فالظاهر أن المراد به أن المروءة و الكرم الجبلي للمسلم لا ينبغي أن يجره إلى القيام بتجهيز الكافر ، فهو نظير قوله تعالى "الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة و لا تأخذكم بهما رأفة" و ليس ظاهرا في نفي الحرمة عن الميت الذمي ))[57] فإذا عرفت ذلك نقول ..

روي عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر (ع) قال : سألته عن المستضعفين فقال : (( البلهاء في خدرها و الخادم تقول لها صلي فتصلي لا تدري إلا ما قلت لها و الجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له و الكبير الفاني و الصبي الصغير ، هؤلاء المستضعفون ، و أما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشرى و البيع لا تستطيع أن تغبنه في شيء تقول هذا مستضعف! لا ولا كرامة ))[58] فقد ختمت الرواية بنفي الكرامة عن غير المستضعف ممن قامت عليه الحجة ، ولو أردنا تطبيق الكلام السابق على هذه الرواية أيضا لقلنا بأن قوله (ع) "ولا كرامة" يحتمل وجهين ، إما أن للمستضعف كرامة تزول بقيام الحجة عليه مع معاندته للحق ، أو أن الكرم الجبلي للمسلم لا ينبغي أن يجره إلى إكرام غير المستضعف من دون أن يكون للعبارة أية دلالة على تحلي المستضعف بالكرامة في نفسه .



و قد ذكرنا فيما سبق نصوصا عديدة من القرآن و السنة و كلام العلماء الأعلام صرحت بتمتع الإنسان بالكرامة بما هو إنسان ، إلا أن للقارئ أن يتساءل عن حقيقة هذه الكرامة و عن الفرق بين الإكرام و الاستجابة له أي الفعل و الانفعال ، و بعبارة أوضح فقد ذكرنا أن الشمس تشرق على الزهرة فتفوح ريحا طيبة كما تشرق نفس الشمس بذاتها و بنفس القدر من الأشعة على الجيفة فتنفث رائحة كريهة ، أو كما عبر الشاعر بأنك لو أكرمت الكريم ملكته و لو أكرمت اللئيم لتمرد ، و من هنا نتساءل بأنه أولا هل الإكرام الإلهي للبشر يلزم منه أن يكونوا ذوي كراما مطلقا ، فقد من الله تعالى على بني آدم بالعقل و القدرة على التعلم و الكتابة و غير ذلك مما ذكرناه – و ذلك لمرجح فيهم كما قلنا – إلا أن بعضهم قد يستغل ذلك لتحقيق هدف الخلقة و بعضهم قد لا يستغل ذلك على الإطلاق و بعضهم قد يستغله لتحقيق هدف معاكس لهدف الخلقة ، فكل تلك الأصناف مكرمون من حيث أن الله زودهم بالاستعدادات دون غيرهم من المخلوقات غير البشرية إلا أن إكرام الله تعالى لا يستلزم كرامة الإنسان في نفسه و ذلك عندما لا يستجيب الإنسان لذلك الإكرام أو عندما يكفر بتلك النعمة ، و من هنا فالمستضعف مكرم من حيث هو إنسان و هذا الإكرام كان لمرجح و استحقاق فيه ، إلا أنه غير كاف لنقول بأنه ذو كرامة لأنه لم يستجب لذلك الإكرام بالشكل المطلوب .

و من هنا يصعب بناء الأحكام الشرعية على أصل الكرامة البشرية و الأجدر هو الرجوع إلى النصوص الخاصة في كل و قد خصص فقهاؤنا المستضعف بأحكام شرعية خاصة ذكرناها في بحث المستضعف كقول بعضهم بطهارته فراجع ، و مع ذلك يمكن القول أن البحث الفقهي لم يول المستضعف حقه من المناقشة و الاهتمام فالأحكام الشرعية المذكورة فيه محدودة .

أخيرا قد يشكل بما روي عن النبي (ص) : يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله و فاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية[59] أي قوله تعالى : (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ، و قد تكون هذه الرواية ناظرة إلى غالبية الناس أو إلى قابليات المستضعفين التي تحدد مصيرهم في الآخرة بعد أن يعرض عليهم التكليف فيها خاصة مع عدم وجود المستضعف في كل الأمور خاصة الأحكام التي دل عليها العقل و الفطرة و العرف الاجتماعي .





* المراجع و المصادر:



1-   القرآن الكريم

2-   الهندسة الوراثية و الأخلاق تأليف ناهدة البقصمي

3-   نهج البلاغة

4-   الخطاب الإسلامي و حقوق الإنسان تأليف حسن الصفار

5-   الميزان في تفسير القرآن تأليف السيد محمد حسين الطباطبائي

6-   هذه المجازر و هذه الثقافة التي خلفتنا ، مقال للشيخ حسن الصفار

7-   رسالة الإنسانية ، تأليف الميرزا حسن الإحقاقي

8-   المبدأ و المعاد

9-   موقع الأمم المتحدة باللغة العربية

10-                   منهاج الصالحين تأليف السيد أبي القاسم الخوئي

11-                   تفسير الصافي تأليف الفيض الكاشاني

12-                   آمالي الصدوق

13-                   روض الجنان

14-                   مصباح الفقاهة تأليف السيد أبي القاسم الخوئي

15-                   الحرية عند الشهيد مطهري

16-                   الكافي تأليف الشيخ الكليني

17-                   كنز العمال

18-                   معاني الأخبار تأليف الشيخ الصدوق

19-                   شرح الزيارة الجامعة الكبيرة تأليف الشيخ أحمد الأحسائي ج1

20-       قراءات فقهية معاصرة في معطيات الطب ، بحث بعنوان التشريح في التعليم الطبي لآية الله محمد المؤمن

21-       قراءات فقهية معاصرة في معطيات الطب ، بحث بعنوان بحث في حكم التشريح لآية الله محسن الخرازي

22-                   علل الشرائع تأليف الشيخ الصدوق



[1] نهج البلاغة ص84
[2] McDougal et al, note, at 70.
[3] McDougal et al, note, at 69
[4] هذه المقدمة مستوحاة من كتاب "الهندسة الوراثية و الأخلاق" – الفصل السادس : معنى قدسية الحياة
[5] هنا بحث مهم في قوله تعالى (( لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الإنسان و لكن أكثر الناس لا يعلمون )) غافر 57 ، و تقديم آيات الآفاق على الأنفس في قوله تعالى : (( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )) الشورى 53 ، فما هو وجه الكبر في الآية ، هذا بحث خارج عن احتمال موضوعنا اقتضى التنويه على أهميته .
[6] سورة النحل الآية 14
[7] سورة لقمان الآية 20
[8] سورة النحل الآيات من 5-8
[9] موقع الأمم المتحدة باللغة العربية http://www.un.org/arabic/aboutun/humanr.htm
[10] الشيخ حسن الصفار ، الخطاب الإسلامي و حقوق الإنسان ص190
[11] مقال بعنوان "هذه المجازر و هذه الثقافة التي خلفها" للشيخ حسن الصفار ، منشور بصحيفة الشرق الأوسط العدد 9601 بيوم السبت 12-3-2005
[12] لم يغب عن نظر الإسلاميين المناصرين لفكرة كرامة البشر جميعا أن يهاجموا هذه الأحكام الشرعية و يبحثوا عن الآراء المقابلة و لو كانت آراء شاذة أو غير معتبرة في الحوزة العلمية ، و على سبيل المثال فقد شاعت مؤخرا فتاوى تقول بطهارة الآدمي مطلقا كفتوى رجل الدين اللبناني السيد محمد حسين فضل الله كما في مجموعة من كتبه و الاستفتاءات المنشورة على موقعه الالكتروني حيث يقول في جواب أحدها : (( لقد تم عندنا الدليل على طهارة كل إنسان ، والمسألة عند الفقهاء أنهم يختلفون في نجاسة الكافر إذا كان كتابياً فمنهم من يقول بالطهارة ومنهم من يقول بالعدم إما فتوىً أو إحتياطاً ، ونحن إنما بنينا على ذلك بعد مناقشة كل الأدلة التي استدل بها المشهور من العلماء ولم نجد أن أيّاً منها يدل على النجاسة بالمعنى المادي ، بمعنى لزوم التطهير إذا كان هناك رطوبة مسرية ، وإنما النجاسة التي تتحدث عنها الآية أو بعض الروايات فإنما ترشد إلى النجاسة غير المادية بمعنى خبث الباطن الناتج عن الانحراف في العقيدة ، وهناك بعض الفقهاء ممن يرى ذلك كما أن السيد الشهيد محمد باقر الصدر الصدر كان يرى ذلك ولكنه يحتاط فيه )) و لإصابة القول المعتبر بين عموم علماء الإمامية في المسألة يرجع إلى بحث السيد عادل العلوي بعنوان "زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفار".
[13] مقال بعنوان "هذه المجازر و هذه الثقافة التي خلفها" للشيخ حسن الصفار ، منشور بصحيفة الشرق الأوسط العدد 9601 بيوم السبت 12-3-2005
[14] باقي: عماد الدين ، تقريرات درس آية الله المنتظري ، بعنوان حقوق الإنسان أم حقوق الإنسان المؤمن ؟ النزعة الإنسانية و الإسلام
[15] منهاج الصالحين ج1 ص360
[16] راجع مثلا كتاب مصباح الفقاهة للسيد الخوئي (قده) باب مستثنيات الغيبة – في غيبة غير المؤمن
[17] http://www.bioethics.gov Human Dignity and Bioethics: Essays Commissioned by the President's Council on Bioethics March 2008.
[18]  Bartha Maria Knoppers, Human Dignity and Genetic Heritage: Study Paper (Law Reform
Commission of Canada, 1991) 52.
[19] راجع في ذلك كتاب الهندسة الوراثية و الأخلاق – الفصل السابع
[20] سورة الحجرات الآية 13
[21] الكافي ج2 ص33 ، بحار الأنوار ج66 ص19
[22] سورة التين الآية 4
[23] سورة الإسراء الآية 70
[24] تفسير الميزان
[25] سورة الحجر الآية 29
[26] الميزان في تفسير القرآن ج8 ص21
[27] آمالي الصدوق (ره) ص453
[28] كنز العمال ج12 ص192
[29] آمالي الشيخ الطوسي ص489
[30] بحار الأنوار ج55 ص21
[31] بحار الأنوار ج57 ص300
[32] روض الجنان ص6
[33] سورة الأحزاب الآية 72
[34] لا بد من ملاحظة أن مقصد الشيخ ليس ذات الله بالمعنى المتبادر و إنما الذات التي خلقها الله و نسبها إلى نفسه تشريفا لها و هذا ما أكده كثيرا في كتبه و ردوده على وحدة الوجود .
[35] شرح الزيارة الجامعة الكبيرة ج1 شرح عبارة "المكرمون المقربون"
[36] المبدأ و المعاد ص405
[37] المبدأ و المعاد ص411
[38] تفسير القمي ج1 ص85 و بحار الأنوار ج55 ص21
[39] عن غرر الحكم ص179
[40] رسالة الإنسانية ج1 ص67 الحاشية
[41] سورة الفرقان الآية 44
[42] سورة الأعراف ص179
[43] التفسير الأصفى ج1 ص689
[44] تفسير الصافي ج3 ص394
[45] علل الشرائع ج1 ص4
[46] قراءات فقهية معاصرة في معطيات الطب الحديث ص446
[47] الوسائل ج2 ص703
[48] قراءات فقهية معاصرة في معطيات الطب ، بحث بعنوان "التشريح في التعليم الطبي" لآية الله محمد المؤمن ص447-450
[49] قراءات فقهية معاصرة في معطيات الطب ، بحث بعنوان "بحث في حكم التشريح" لآية الله محسن الخرازي ص459
[50] نقلا عن التعرف على القرآن ج3 ص220-223
[51] عن التعرف على القرآن ج3 ص224
[52] الحرية عند الشهيد مطهري تأليف حسين يزدي ص170-172
[53] في هذا الموضوع بحث مفصل للشيخ المطهري في كتاب العدل الإلهي فراجع
[54] الكافي ج2 ص464
[55] سورة العنكبوت الآية 69
[56] رسائل الشريف المرتضى ج2 ص164
[57] قراءات فقهية معاصرة في معطيات الطب ص447
[58] معاني الأخبار ص203
[59] زبدة البيان تأليف المحقق الأردبيلي ص418

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق