الأحد، 17 يوليو 2011

يوغا - مقال للدكتور مصطفى محمود

هذا مقال للدكتور المصري مصطفى محمود (رحمه الله) في كتابه الرائع "الشيطان يحكم" بعنوان "يوجا" .. بعض عبارات هذه المقالات عليها ملاحظات و ربما تحتاج تأويل أو تفسير معين كما ربما يكون عليها ملاحظات شرعية و لكن المقال فيه العديد من الاتفاتات المفيدة و هو التالي:
سعيت وراء علماء التشريح لأعرف ما هو الإنسان .. سرت وراء المشرط وهو ينقب في الأحشاء و المصارين و اللحم و العظم .. و هو يفتح القلب و يتتبع الأعصاب حتى نهايتها .. وهو يقطع المخ نصفين ثم يقطع كل نصف إلى نصفين .

وبعد ثلاثة آلاف صفحة من كتب التشريح لم أصل إلى شيء و كأنما فتحت حقيبة فوجدت داخلها حقيبة ثم حقيبة و في نهاية المطاف اكتشفت أني ما زلت واقفا في مكاني أدق على الباب نفسه من الخارج لم ألج إلى الداخل أبدا .
كنت طول الوقت أتحسس كسوة ذلك الإنسان لأكتشف أن القناع الذي يحجبه ليس ثيابه وحدها .. وإنما جلده ثوب آخر .. و لحمه و شحمه و عظامه كلها ثياب .. أما هو نفسه فبعيد .. بعيد .. تحت هذه الأقمشة السميكة من اللحم و الدم .
قالت لي كتب التشريح أن الإنسان مجموعة من الأحشاء في قرطاس من الجلد ، و لكنها لم تصف لي الإنسان على الإطلاق و إنما وصفت ثيابه أما قلبه ، أما عواطفه فإنها ليست في تلك الكتب .. إنها فينا نحن الأحياء .
إنها الزامر الذي ينفخ من الداخل في ذلك البوق الجسدي الذي يتألف من الفم و اللسان و الشفتين و اليدين و الرجلين فتنطق و تتحرك كأنما هي دمى خشبية تحركها خيوط خفية من وراء خباء .
إنها العاطفة .. الإرادة .. الروح .. النفس .. الأنا .. سمها كما تشاء و لكنها دائما غاية الوحدة و البساطة .
وراء هذا العديد المتعدد من الأعضاء هناك وحدة .. هناك دائما واحد فقط يتكلم من داخل المعمار الجسدي المعقد التركيب المتعدد النوافذ و الشرفات .. واحد فقط بالرغم من هذه الألوف المؤلفة من الأنسجة و الملايين بلا عدد من الخلايا.
فإذا نظرت إلى الطبيعة حولك بما يتعدد فيها من إنسان و حيوان و نبات لمست مرة أخرى نوعا ثانيا من الوحدة .. فهذا الشتيت المختلف من أشكال الحياة يخفي وراءه وحدة .
ليست مصادفة أن تركيب جسمي و تركيب جسم واحد .
ولا هي مصادفة أننا نحن كلانا لنا رئتان مثلما للحصان و الحوت و العصفور .. و أن رقبة الزرافة على طولها بها سبع فقرات مثل رقبتك القصير تماما .. و أن ذيل القرد لك ذيل مثله ضامر متدامج ملتحم في مؤخرتك .. و بالمثل أجنحة الخفافيش هي أذرع مثل أذرعك لها العدد إياه من الأصابع و العظام و المفاصل كل ما تمتاز به أن جلدها مشدود عليها كالستارة .
و أنت و الشجرة تتألفان من المواد ذاتها .. كربون و ماء و أملاح معدنية .. و كلاكما تتحولان بالاحتراق إلى فحم ، و كل أنواع الحياة تنهدم بالموت فتستحيل إلى تراب .
أكثر من هذا ، يقول لك الفلكي ، إن هذا التراب يحتوي على المواد نفسها التي تتركب منها الشمس و النجوم و الكواكب .. و إنك مهما أوغلت في السماء بين النجوم تجد دائما الشيء نفسه .. المواد ذاتها ..
كل العالم من مادة واحدة أولية .
لا يمكن أن تكون كل هذه مصادفات و إنما هي إصبع تشير إلى أن هناك وحدة نسيج في هذا الكون المتسع العظيم .. و أنه بالرغم من الكثرة الظاهرة و التعدد و الاختلاف في الأشياء فإنها في الواقع ليست مختلفة .. و إنما هي مجرد عمائر و تراكيب مختلفة لشيء واحد .
كما تظهر الطاقة مرة على شكل كهرباء و مرة على شكل حرارة و مرة على شكل ضوء و مرة على شكل مغناطيسية ، و هي دائما الشيء الواحد ذاته .
الوحدة ..
هذا هو موضوع اليوجا .
و المعنى الحرفي لكلمة "يوجا" بالهندية هو "الاتحاد و إدراك الوحدة في الأشياء" أن لا تنظر إلى الدنيا على أنها أنا و أنت و هو و هي و هم .. ثم تتقاتلون جميعا .. فهذه خدعة .. و أنتم جميعا واحد و ما يقع للآخر يقع عليك من حيث لا تدري .. و الألم الذي توقعه بالآخرين يجرحك حيث لا تحس في أعمق الأعماق .
هذا الصراع بينك و بين الآخرين هو تخريب أساسي لفطرة واحدة .
إذا أردت أن تعيش بكل وجودك فعليك أن تفتح ذراعيك لتحتضن كل شيء .
و حيثما توجهت فلن تكون في غربة بالطبيعة حولك هي أنت .. و الناس هم أنت .. و الوردة هي أنت .. و النجوم أنت .
أنت و أنا و هو و هم شيء واحد .
هل تستطيع أن تدرك هذه الوحدة؟
علوم "اليوجا" تقول أنك لا تستطيع أن تدركها إلا إذا تحررت من تقاليدك .. و أخضعت جسدك و عواطفك و غرائزك و عقلك تماما .
إذا أردت أن تسمع صوت الواحد في داخلك فلا بد من إسكات صوت المتعدد أولا .. لا بد من إسكات صوت الجسد و النفس و الغريزة و الرغبة و العقل .
و إخضاع الجسد تختص به علوم "الهاتايوجا" و هي التمرينات الرياضية المعروفة ، و إخضاع العقل تختص به علوم "الراجايوجا" و هي تمرينات على التأمل و التركيز ، و إذا استطعت إسكات كل شيء فسوف تسمع من أعماق الصمت في داخلك صوت الواحد.
سوف تشعر بالقرابة الحميمة بينك و بين الأشياء .. سوف يعزف في داخلك لحن الانسجام بينك و بين العالم إذ تدرك التوافق العميق بين عناصرك و عناصره .. و تسودك طمأنينة قدسية فلم يعد هناك داع للتعجل .. ما يفوتك باليمين سوف تحصل عليه باليسار.
و في الهند يسمون هذا الواحد "اتمان" .. و في صلاة هندية قديمة لهذا الواحد يقول الشعر السنسكريتي :
إذا ظن القاتل أنه قاتل
و المقتول أنه قتيل
فليسا يدريان ما خفي من أساليبي
حيث أكون الصدر لمن يموت
و السلاح لمن يقتل
و الجناح لمن يطير
و حيث أكون لمن يشك في وجودي
كل شيء حتى الشك نفسه
و حيث أكون أنا الواحد
و أنا الأشياء

و كأنما شعر جميع المفكرين بهذا الواحد الخفي .. وحاول كل منهم أن يعبر عنه بطريقته .. في فلسفة شوبنهور كان اسمه "الإرادة" .. و في فلسفة نيتشه كان اسمه "القوة" و في فلسفة هيغل "المطلق" و في فلسفة ماركس "المادة" و في فلسفة برجسون "الطاقة الحية" و في الأديان السماوية اسمه "الله" ..
اتفقت جميع الأصابع التي تشير على أن هناك شيئا داخل خباء ذلك الكون يحرك خيوطه .. و كل الخلاف هو خلاف أسماء.
و لهذا تقول علوم اليوجا .. لا تحاول أن تسمي ما لا يمكن تسميته ..
تأمل .. لا تنطق بحرف
عليك بالإصغاء إلى صوت الصمت .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق