الأحد، 17 يوليو 2011

مجتمعنا وثقافة جحا - مقال للأستاذ علي العريان

مجتمعنا وثقافة جحا


"أنت لست من أهل التخصص فلا يحق لك أن تطرح هكذا أسئلة" وربما قيل ذلك بأسلوب أقسى تمازجه لغة جسد حقيرة ، عبارة يواجهها كثير من الناس حينما يطرحون سؤالا على بعض وجهاء وأكاديميي ورموز مجتمعنا ، وهو جواب نابع من مشكلة ممتدة ومعقدة أكثر مما يتصوره البعض ، إنها مشكلة ثقافة مجتمع يصنع هالات قداسة زائفة قد يعيش فيها أحيانا وقد يضفيها على ما شاء ثم يجعل منه صنما يعبده من دون الحق ، على كل لا أريد الخوض في تفريعات المشكلة - التي تبدأ عند نظام أسرة يحكمه ذكر مستبد وتنتهي إلى دول يحكمها دكتاتور - بقدر ما أريد – في هذا المقال – الإشارة إلى بعض مواطن ومظاهر الخلل وربما السبيل إلى علاجها ، وهي في نقاط:

الأولى: النظر إلى الشهادة الأكاديمية أو غيرها من المسميات أو المناصب الرسمية في ساحة النقاش العلمي ، وتتضاعف هذه المعضلة مع تفشي ظاهرة شراء الشهادات الأكاديمية و ارتقاء المناصب بوسائل ملتوية خارجة عن إطار الكفاءة بحيث لا يكون للشهادة ولا للمنصب معنى واقعي ، فساحة النقاش العلمي هي ساحة تصادم الأفكار حيث يجب الفصل التام بين الفكر والشخص الحامل له ومناقشة الفكر مهما كان حامله ، ثم الأخذ به إن كان حقا ولو كان حامله بغيضا أو مبطلا أو رده إن كان باطلا وإن كان حامله عزيزا أو مؤمنا ، فهذه من أسمى أخلاقيات البحث العلمي التي يدل عليها العقل بل ودل عليها الأنبياء والأولياء فعن المسيح (ع) أنه قال : (( معشر الحواريين ما يضركم من نتن القطران إذا أصابكم سراجه ، خذوا العلم ممن عنده ولا تنظروا إلى عمله )) ميزان الحكمة: محمد الريشهري ج3 ص2082 ، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال : (( خذ الحكمة ممن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال )) المصدر السابق .

الثانية: الانخداع بالمظهر والكاريزما ، فنحن نلاحظ على سبيل المثال أن بعض أفراد مجتمعنا يتراكضون خلف كل من تمظهر بمظهر رجل الدين كي يطرحوا ما بدا لهم من أسئلة عليه وربما كان هذا ممن تزيى بهذا الزي طلبا للوجاهة أو المال دون أن يكون له أي معرفة بالدين لكننا نراهم يقبلون رأيه تسليما دون نقاش أو جدل ، والمفارقة الغريبة هي أننا نجد بعض الضليعين في العلوم الدينية ممن قضى سنوات في التفقه في الدين دون أن يتزيى بزي رجال الدين يقول رأيه في المجالس فيناقشه العامة ولا يقبلون ما يقول إلا على مضض أحيانا بل وقد لا يقبلونه ، هذا كله لأنه لم يتسربل بسربال رجل الدين ، فمما يؤسف له أن النادر النادر من مجتمعنا من يستطيع أن يفرق بين رجل الدين وعالم الدين و بينهما عموم وخصوص من وجه ، ومن هذه الفئة النادرة تلك الشخصية الهزلية المذكورة في الثقافة العربية وهو جحا الذي يروى أنه ذهب في ثياب عادية إلى مجلس وليمة فلم يوله أحد أهمية ، فذهب وبدل ملابسه وارتدى عمامة فاخرة و رداء زاهيا ثم جاء فاستقبله أهل الوليمة بالحفاوة والإكرام واستقبلوه أحسن استقبال وأجلسوه في صدر المجلس على سفرة الطعام وقدموا له ما طاب من المأكل فما كان منه إلا أن قال لعمامته و ردائه كلوا واشربوا ، فهذا الإكرام ليس لشخصي ولا لمكانتي ولا لكفاءتي ولا لكياني كإنسان وإنما هو لما أرتديه ، فوا أسفاه لمجتمع لا زال عاجزا عن الوصول إلى ثقافة شخصية هزلية يحكي نوادرها ليضحك عليها .

الثالثة: وضع حجب وحواجز مختلفة أمام الشخصية مما يضفي عليها هيبة ورهبة مختلقة ، قد يضعها الشخص لنفسه وقد يضعها له مريدوه و جماعته ، ومن أمثلة ذلك سبق الأسماء بالألقاب الكثيرة وانتحال المسميات الأكاديمية كمسمى دكتور و أستاذ واختصاصي واستشاري وما إلى ذلك ، وللأسف لا يوجد قانون في البلد يعاقب على ذلك خلافا لما هو موجود في بعض الدول الأخرى ، وطالما تساءلت عن سبب التركيز على ذكر أسماء العلماء أصحاب النظريات وتمجيدهم أحيانا في مناهج الدراسات الإنسانية من الفلسفة والدين وعلم النفس والاجتماع والسياسة خلافا للدراسات العلمية التي قد تدرس فيها كما هائلا من النظريات دون أن تعرف اسم عالم واحد ممن كان له الفضل في اكتشافها فقد أنهيت أنا شخصيا بكلريوس الصيدلة دون أن أسأل ولو لمرة واحدة عن اسم عالم من علمائها ، إن التركيز على من قال علاوة على ما قال في العلوم الإنسانية واضح مقارنة بالعلوم الطبيعية ، فهل هذا لأن العلوم الإنسانية يتداخل فيها كثيرا طابع عدم الموضوعية ودخول الأهواء والأمزجة بطبيعة هذه العلوم خلافا للعلوم الطبيعية الجامدة؟ ربما يكون هذا هو السبب وإن كان كذلك فهي طامة كبرى بحق الحيادية العلمية يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار ، وعلى كل فإن من تلك الحواجز أيضا السلوك الشخصي من طريقة الكلام الاستعلائي التلقيني الوصائي الإرشادي الذي لا يسمح للمستمع بأن يكون له مجال للمساءلة أو الشك وإنما يفرض عليه الإذعان والتسليم بل لا يدع لك مجالا للمساءلة حتى لو لم تكن مقتنعا بما يلقيه المخاطب وليس ذلك لأن المخاطب عالي الصوت أو شديد النبرة أو متسلطا بالضرورة بل قد يكون لأنه ثقيل النفس بطيء الكلام لا يوليك اهتماما متعمدا ليرفع من شأن نفسه و يوحي إلى مستمعه شعورا بالدونية ، وإجمالا هو أسلوب خطاب مناقض تماما لوصية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) : (( لا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تظنوا بي استثقالا لحق قيل لي أو عدل يعرض علي فإن من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل .. الخ )) (نهج البلاغة ج2 ص200) ، وتتفاقم هذه الظاهرة السلبية فنراها في المجالس الدينية بين من من شأنهم أن يكون سلوكهم عكس ذلك كما نراها متجسدة في بيرقراطية بعض المسؤولين في وزارات الدولة ممن يعتقد أن المركز جعل منه إلها يعبد من دون الواحد القهار ، كما تتنوع أشكال هذه الظاهرة السلبية فنرى بعض الوعاظ الناشئين وأصحاب المناصب وللأسف الشديد يسير إلى صدر المجلس شاخصا ببصره نحو المقاعد المملوءة بكبار السن كي يقوم أحدهم ويعطيه مجلسه ليجلس المسن بدوره على الأرض ويتكرر هذا المشهد أمام ناظرينا ممن يفترض أن يكونوا قدوة للناس ومصداقا لسنة رسول الله (ص) الذي كان من سنته الجلوس حيث انتهى به المجلس (مستدرك الوسائل ج8 ص405) وعدم تخصيص مجلس خاص له بل نهي في بعض الأحاديث عن قبول الجلوس في صدر المجلس (مستدرك الوسائل ج8 ص406) ، بقي أن أشير أخيرا إلى أنه و من خلال التجربة الشخصية التي هي استقراء ناقص ظني لاحظت بأن هذه الحالة – ومع أنها موجودة في جميع المجتمعات – إلا أنها أكثر تفشيا في مجتمعاتنا من المجتمع الغربي ولعل هذا من أسباب تقدمهم المادي ، فكم سمعنا أثناء دراستنا في الخارج و رأينا كبار الأساتذة وعمداء الجامعات يجلسون معنا نحن الطلبة المبتدئين الغرباء المختلفين عنهم في الثقافة والدين واللغة والعرق فيمازحوننا و يعرضون مساعدتهم و يسألون عن أحوالنا بل حصل لي موقف شخصي مرة حينما كنت أسير في سوق شارع غرافتون في دبلن العاصمة الإيرلندية وإذا بأحدهم يربت على كتفي من الخلف مازحا ، ظننته أحد الزملاء وحينما التفت وإذا به البروفسور نولن أستاذ الكيمياء الدوائية ورئيس قسم الدراسات العليا في الكلية الملكية للجراحين ، وقد كان هذا الرجل المسن الحائز على أعلى الشهادات التي قد يحوزها أكاديمي في مجاله غاية في التواضع دائما مما يجعلني أتمنى لأمثاله أمنية قلما أتمناها لأحد وهي أن يكونوا أكثر مني تفوقا ونجاحا دون أن يكون في صدري مقدار ذرة من حسد أو ضيق ، لقد حدثني أحد الإخوة الدارسين في جامعة ترنتي في دبلن أنهم كانوا يجلسون في ممر الجامعة يأكلون بعض السندويشات فإذا بأحد الأساتذة يجلس بجوارهم يسألهم عن أحوالهم وأمورهم وقد كانوا حينها في أيامهم الأولى في الكلية وفي الغربة ، وعلموا أثناء حديثهم أن الجالس في جوارهم هو رئيس الجامعة وهو بروفسور يحمل ثلاث شهادات دكتوراه وغيرها من الأوسمة ، ولكي لا يفهم أنني أرمي مجتمعنا بالسلبية المطلقة فإني أقول بأن علماء الدين الحقيقيين عندنا في البلاد الإسلامية لا يختلفون في أخلاقهم العلمية عن سائر الفحول في هذه الميادين فها هو العلامة السيد كمال الحيدري الأستاذ في الحوزة العلمية في إيران يطرح بحوثه الفقهية في شرح اللمعة وغيرها بأسلوب يحث الطلاب الدارسين على النقد و التفنيد والنقاش دون أي خوف أو ريب بل يقوم بطرح أخطر الأسئلة والإشكاليات العقائدية في دروسه حول العدل الإلهي وغيرها مما جعل بعض حضور الدرس يهربون خوفا على عقيدتهم ثم يجيبها إجابات راقية رائعة ، بل إن بعض العلماء الأعلام في الحوزات العلمية كان يؤكد على طلبته بأنهم لا يستمعون إلى منبر وعظ يتلقون فيه الإرشادات فقط بل عليهم أن يناقشوا معلمهم و يختلفوا معه في الرأي ويقيموا أدلتهم حينما لا يقتنعون بكلامه ، و نفس الحالة تزرعها في أنفسنا كتابات الشيخ مرتضى المطهري (رحمه الله) المختلفة ، هكذا نجد علماءنا الحقيقيين سواء كانوا علماء دين أو غيره في كتاباتهم و دروسهم يربون الناس على أخلاق الحيادية العلمية و الاستقلال الفكري و قبول الرأي الآخر ، لكننا هاهنا تحدث عن ثقافة مجتمع لم تهضم ذلك بعد ، فمنا إلى أساتذة جامعاتنا في الشرق الأوسط ، ومنا إلى مجتمعنا ، بل من جحا إليهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق