الأحد، 17 يوليو 2011

الارتقاء بالعقيدة من البحث النظري إلى الحالة الروحية - مقال الأستاذ علي العريان من مجلة "حياء"



الأمريكي آرثر آش أسطورة رياضة التنس ، فاز بالعديد من البطولات العالمية ، و أصيب أخيرا بمرض الأيدز إثر نقل دم ملوث أثناء جراحة أجريت له مما أدى إلى وفاته لاحقا ، وقد كان له الكثير من المعجبين في شتى بقاع العالم فأخذوا يبعثون إليه بالرسائل ، وكان مما أرسل إليه بعضهم "لماذا أنت بالذات ليختارك الله كي تعاني من هذا المرض الخبيث؟!" فأجابه آرثر "استمع ، لقد بدأ 50 مليون طفلا في العالم ممارسة لعبة التنس ، و 5 مليون من هؤلاء استطاعوا تعلم قواعد اللعبة ، من هؤلاء الـ 5 مليون استطاع 500000 فقط أن يصبحوا لاعبين محترفين ، من هؤلاء الخمسمائة ألف استطاع 50000 فقط أن يصلوا إلى البطولات ، ومن هؤلاء استطاع 5000 فقط أن يصلوا إلى بطولة غراند سلام ، بل ومن هؤلاء استطاع فقط 50 لاعبا أن يصلوا إلى بطولة ويمبليدون ، ومنهم ثمانية وصلوا الدور ربع النهائي ثم أربعة إلى ما قبل النهائي ، ووصل لاعبان فقط إلى النهائي وفاز منهم واحد ، وكان الفائز هو أنا ، و عندما رفعت الكأس منتشيا بالفوز لم أسأل رب أبدا لماذا أنا".
ما جذب انتباهي في هذه الرسالة هو أن بطلها ليس رجل دين ولا متخصصا في العقيدة وأصول الدين ، كما لا أظنه قد خاض المعضلات الفلسفية الخاصة بموضوع العدل الإلهي ، إلا أنه اتخذ عقيدته على أساس أخلاقي راق يتجاوز مستوى البحوث النظرية بدليل أن جوابه على الرسالة كان جوابا عفويا لم يتجشم عناء إقامة البراهين المنطقية و الفلسفية ، لا يخفى – أيها القارئ الكريم – ما للعقيدة من دور أساسي في صقل شخصية الإنسان و ثبات نفسيته و فاعليته الاجتماعية ، وبتغير هذه العقيدة أو ضعفها أو ترددها بين الشك و اليقين يضعف الفرد ويتردد في سلوكياته و مواقفه ، و ينخدع الكثير من المتوغلين في بحار العلوم العقلية بدور العقل و يعطونه حجما أكبر من حجمه بحيث يجعلونه حاكما على الله تعالى ، فهم يبحثون وجود الله و عدله و صفاته بحيث لو ثبت لهم بالدليل العقلي ذلك آمنوا به و إلا ضربوا بكل القيم و المقدسات عرض الحائط ، بل ربما ثبتت لبعضهم هذه العقائد في يوم و تزلزلت في يوم آخر بسبب شبهة تطرأ من هنا أو هناك فلا يثبت له إيمان ولا يرسخ له مبدأ مما يجعل منه شخصا مهزوزا في معترك الحياة و في الساحة العملية ، إنني لست بصدد التقليل من دور العقل و أهميته بل إن العقل هو سبيلنا الأساسي للخلاص إلا أن هنالك عقائد أساسية بها يقوم نظام أي مجتمع و هي الاعتقاد بوجود الله تعالى و بعدله و بالمعاد ، فأي تزلزل في هذه العقائد يؤدي إلى تزلزل أركان المجتمع و تضعضع بنيانه ، و الارتقاء بهذه العقائد من مستوى البحث النظري إلى الحالة القلبية الروحية و العلاقة الأخلاقية التي نعيشها مع المتعالي تجعل منا أفرادا شامخين راسخين في الميدان الاجتماعي و أفرادا مطمئنين مستقري السيكولوجية في الميدان الفردي .
لقد ارتقى آرثر لاعب التنس الأمريكي بعقيدته في العدل الإلهي إلى مستوى العلاقة الأخلاقية مع الله تعالى ، و هذا أمر نستلهمه نحن المسلمين في عقيدتنا الإسلامية و تراثنا العقائدي بشكل واضح و جلي ، فعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) يقول : (( التوحيد أن لا تتوهمه و العدل أن لا تتهمه )) فلاحظ ودقق النظر في قوله "تتهمه" ترى فيه تلميحا إلى هذا المعنى ، هذا بالنسبة إلى العدالة الإلهية ، و أما ما يتعلق بوجود الله تعالى فقد بين علماء الإسلام أنه سبحانه خفي لشدة ظهوره كالشمس – وله سبحانه المثل الأعلى – فإنه لشدة ظهورها تستعصي على الأبصار أن تنظر إليها ، و في هذا ورد عن بعض العرفاء عبارة يخاطب بها الله عز وجل (( متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تراك عليها رقيبا )) وقد نسبت هذه الفقرة إلى الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة ، أيضا مما يستشهدون به في هذا المقام ما روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه دخل السوق فإذا هو برجل موليه ظهره يقول "لا والذي احتجب بالسبع" فضرب علي (ع) ظهره ثم قال : (( من الذي احتجب بالسبع؟ )) قال الرجل "الله يا أمير المؤمنين" قال : (( أخطأت ثكلتك أمك ، إن الله عز وجل ليس بينه و بين خلقه حجاب لأنه معهم أينما كانوا )) ، هكذا هو الله سبحانه أجلى الجليات و أوضح الواضحات ، و في هذا أبيات لمجنون ليلى يصف بها حسن ليلى و أنها لفرط جمالها خطفت ناظريه عن أن ينظر إليها حيث يقول:

توهمت قدما أن ليلى تبرقعت .. وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب .. سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى

فإذا ما كانت الحياة محصورة في العقيدة و الجهاد كما يقول الحسين بن علي (ع) (( إنما الحياة عقيدة و جهاد )) لا يكون الجهاد على أتم وجه إلا والعقيدة على أتم وجه ، والعقيدة التامة لا تكون إلا بأن يرتقي الإنسان بحالته القلبية من خلال إصلاح أفكاره و التأمل في القرآن الكريم و أدعية الصالحين و أذكار العارفين و تلاوتها و عيش هذه الحالة في الواقع العملي ، فإذا ما ارتقى الإنسان بحيث صار كيانه كيانا عقائديا صار أثره في المجتمع أثرا فريدا و عاش بنفس مطمئنة كالحسين بن علي (ع) الذي كان في أقصى درجات الثبات مع كل المآسي و الظروف الحالكة التي اعتورته ، فبعدما قدم في طف كربلاء عياله و نساءه و أصحابه و أهل بيته قتلى و سبايا في سبيل الله بل و قدم رضيعه الصغير قربانا في سبيل الدين حتى فار دم نحره بين يدي أبيه ثم استعد لتقديم روحه الطاهرة امتثل بأبيات تنسب إليه وتحكي لسان حاله يخاطب بها ربه سبحانه وتعالى إذ يقول:

تركت الأهل طرا في هواكا .. و أيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا .. لما مال الفؤاد إلى سواكا

فهكذا يقين و هكذا معرفة و هكذا تضحية و هكذا فداء لا يمكن أن تكون إلا بيقين قلبي يذوب فيه العبد في الحق و ينقلب وجوده إلى مثال يحكي الحق كما هو حال الحديدة المحماة التي اكتوت بالنار حتى اتصفت بصفاتها فصارت محرقة كما أن النار محرقة و صارت حمراء كما أنها حمراء .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق