الجمعة، 19 أغسطس 2011

تجربة الشعب الأمريكي في محاربة العنصرية

هذه الصورة تبين تطور وضع التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية وآثار جهود المصلحين الاجتماعيين في هذا المجال ، ابتداء من نزول أول السفن الناقلة للعبيد المكبلين الذين كانوا يعتبرون حيوانات وذلك قبل 389 سنة إلى أن أصبح رئيس الولايات المتحدة من الأمريكيين السود ، إنها بحق تجربة تحتذى يمكننا الاستفادة والتفاؤل بها لإصلاح بعض الآفات الاجتماعية الموجودة في مجتمعاتنا كالتمييز الطائفي وظاهرة الواسطة والمحسوبية



الخميس، 11 أغسطس 2011

التجاوزات الشرعية في المحكمة الجعفرية في الكويت - خطبة لسماحة الشيخ علي حسن غلوم




انطلاقاً من الدستور الكويتي، واحتراماً لحقوق المواطنين والمقيمين فقد أنشأ قسم المحكمة الجعفرية في الكويت قبل عقود، وهو بحد ذاته يعد إنجازاً مهماً في بلد يحترم التعدد المذهبي، إلا أنني أود أن أسجّل مجموعة من الملاحظات في إطار أحكام الطلاق الصادرة من هذه المحكمة وفق المعطيات الواقعية، أملاً في إعادة النظر في أوضاع هذه المحكمة، و تحريك القضية على المستوى الرسمي بحثاً عن الحلول المناسبة.
لماذا قضايا الطلاق؟
واختياري لخصوص مسألة الطلاق ينبع من خصوصية أحكام هذا التشريع السماوي في الفقه الجعفري (الإمامي)، وهو ما توضحه النصوص التالية:
1ـ عن عمرو بن رياح عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: بلغني أنك تقول: مَن طلَّق لغير السنّة (أي وفق سنة النبي) أنك لا ترى طلاقه شيئاً؟ فقال أبوجعفر عليه السلام: ما أقوله، بل الله عزوجل يقوله، أما والله لوكنا نفتيكم بالجور لكنا شراً منكم لأن الله عزوجل يقول: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون).
2ـ وعن الإمام الصادق عليه السلام: لا يقع الطلاق إلا على كتاب الله والسنة، لأنه حدٌّ من حدود الله عزّ وجلّ، يقول: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ )، ويقول: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، ويقول: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله رد طلاق عبدالله بن عمر لأنه كان على خلاف الكتاب والسنة.
وفي حديث آخر أنه طلقها ثلاثاً وهي حائض.
3ـ قال الفقهاء: الطلاق السنّي هو الطلاق الجامع للشرائط التالية:
ـ يشترط في المطلِّق: البلوغ، والعقل، والقصد، والاختيار.
ـ ويشترط في المطلَّقة: كونها زوجة دائمة وطاهرة من الحيض والنفاس (وفي المسألة استثناءات)، وطاهرة في طهر لم يجامعها زوجها فيه (وفيها استثناءات)، وأن تُعيّن المطلّقة.
ـ ويشترط في الطلاق: أن يكون بصيغة خاصة، وأن لا يكون معلّقاً على شئ (كقدوم أحد من السفر)، وشهادة رجلين عادلين.
وما كان فاقداً لشرط منها كان طلاقاً بدعياً باطلاً لا قيمة له، والعلاقة الزوجية باقية على حالها.
ملاحظات:
1ـ عدم تعيين العدد الكافي من القضاة الشيعة، حيث يقوم بعض قضاة أهل السنة بهذا الدور، ومع احترامي الكامل لأشخاصهم، إلا أنني أتساءل عن مدى إحاكتهم بتفاصيل أحكام الفقه الجعفري وفتاوى الفقهاء في هذا الإطار، وعن مدى تطبيق الأحكام على مفرداتها الخارجية.
2ـ في الحالات التي يُقدِم فيها الزوج على الطلاق برغبته، فهل يلتزم القاضي عند أخذ التوكيل من الزوج للطلاق بإجراء صيغة الطلاق أمام شاهدين عدلين، والتحقق من توفر سائر الشرائط؟ وما آلية ذلك؟
3ـ من خصوصيات الفقه الجعفري أنه في الحالات التي يرفض فيها الزوج أن يطلق، لابد أن يكون القاضي مجتهداً جامعاً للشرائط، أو مجازاً من قبله، بينما القضاة من أهل السنة وكثير من القضاة الشيعة لا يتوفر فيهم هذا الشرط.
نتائج الوضع السابق:
1ـ الزوجة تصبح مطلقة قانوناً، وزوجة شرعاً.
2ـ يمكنها الزواج ـ بعد العدة ـ من الناحية القانونية، فلو أقدمت على ذلك جهلاً أو عمداً، بطل النكاح، وحرمت على الزوج الثاني مؤبداً.
3ـ لا تستحق نفقة من زوجها الأول، لأنها طليقته قانوناً، بينما تستحقها شرعاً (إن لم تكن ناشزاً).
4ـ يمكن للزوج استغلال هذا الوضع، وإبقاء زوجته معلّقة، لعلمهما بتفاصيل الأحكام الشرعية وبطلان مثل هذا الطلاق.
وهناك حالات عديدة في مجتمعنا ـ وللأسف ـ شهدت هذا الوضع، وهي تعاني من آثار شرعية واجتماعية ونفسية سيئة.
محكمة الاستئناف:
يتوفر في محكمة الاستئناف ـ حالياً ـ اثنين من القضاة الجعفريين المجازين من قبل المجتهد لإصدار أحكام الطلاق الآنفة الذكر، فلو استأنف أحد الزوجين الحكم، كان الحكم الصادر شرعياً، إلا أن الحاجة قائمة لزيادة عدد القضاة الذين يجب أن تتوفر فيهم الشرائط، ولضمان استمرارية هذا الوضع في المستقبل أيضاً.
محكمة التمييز:
أما محكمة التمييز فلا يتوفر فيها أي من القضاة الجعفريين المجازين، وعليه لو استأنف أحد الزوجين، وأبطل القاضي حكم محكمة الاستئناف، فالنتائج الشرعية المترتبة ستكون مشابهة لما ذكرناه مسبقاً، فقد تتزوج المطلقة طلاقاً شرعياً بحكم قاضي الاستئناف، ثم يُبطل قاضي التمييز الحكم، مما يعني أنها زوجة الثاني شرعاً، وهي زوجة الأول قانوناً!!
تحرّك جاد:
ختاماً أقول لكل المسئولين وأعضاء مجلس الأمة: المسألة لا تحتمل التأخير، فكلما بادرنا في إيجاد الحلول المناسبة كلما قللنا من الآثار السلبية المترتبة على الأنكحة الباطلة والطلاقات غير الشرعية، وهي مسئولية شرعية ووطنية نُساءل عنها جميعاً.
المصدر:

السبت، 6 أغسطس 2011

تفريغ الدروس من 51 إلى 68

الدرس الواحد و الخمسون


* الدرس السابق

- بعد الانتهاء من بحث مسألة الحسن و القبح العقليين بحثنا مسألتين أساسييتين من مسائل العدل الإلهي (1) الترجيحات و الاختلافات في عالم الإمكان (2) مشكلة الشرور
- هنالك اختلاف بين بحث الترجيحات و بحث الشرور ، فالأول يشمل جميع عالم الإمكان و الثانية
- أجبنا فيما سبق عن سؤال: لماذا خلق الله الخلق؟ و أجبنا بأنه خلق (لأنه الله) ، الآن السؤال عن كيفية خلق عالم الإيجاد (لماذا خلق الله الخلق هكذا بهذا التفاوت)
- أشرنا فيما سبق إلى جوابين إجمالي و تفصيلي عن مشكلة اختلاف و تفاوت عالم الإمكان

· هذا العالم هو عالم الوسائط

- صدق القرآن الكريم حقيقة أن هذا العالم هو عالم الوسائط أي عالم العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات
- التعبير بأن العالم هو عالم الوسائط أدق من التعبير بأنه عالم العلل و المعلولات
- كل موجود بينه و بين الله تعالى واسطة إلا الصادر الأول فلا واسطة بينه و بين الله تعالى
- الواسطة هنا لا نقصد بها الواسطة العرفية بل معناه ما ذكرناه في بحث التوحيد و هو أن الوسائط معناها العلل المعدة بمعنى أن الفيض لا يمكن أن يصل إلى المرتبة الدانية حتى يمر بالمرتبة العالية لأن الداني لا يمكنه أن يأخذ ذلك الفيض مباشرة بل يجب أن يضعف ذلك الفيض بحيث يمكن للأدون أن يتلقاه (مثال محول كهربائي)
- الفيض الصادر من الذات الإلهية فيض لا يمكن لأي موجود أن يستقبله مباشرة
- سؤال: لماذا تعلقت إرادة الله تعالى بأن يكون العالم هكذا مرتبا حسب تسلسل الوسائط؟
- جواب: في الحديث القدسي (( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف )) و إذا أراد الله سبحانه أن يعرفنا نفسه فهو يعرفنا نفسه من خلال موجود كامل عظيم يخلقه بحيث يستطيع هذا الحق أن يكون الدليل الذي يدل عليه فتجلى لخلقه بخلقه ، لأن الأثر مسانخ لمؤثره
- أراد الله تعالى أن يعرف لأن كمال المخلوقات في أن يعرفوه
- إذن نظام عالم الإمكان نظام طولي (سلسلة علل و معاليل) لا عرضي
- لا بد (و هذه اللابدية لا بدية عن لا على) أن يخلق الله سبحانه موجودا أكمل لكي يعرف خلقه به ، و بالتالي لا بد أن يجعل هذا النظام نظاما طوليا لكي يعرفه خلقه و يتجلى لهم .

· النصوص الكريمة في المطلب (القرآن)

- ذكر السيد العلامة المطلب في ج1 الميزان ص74 تحت عنوان "تصديق القرآن لقانون العلية العامة" و المراد من العلية الطولية أي أن يكون الموجود الثاني متوقف الوجود على الموجود الأول وما لم يوجد الأول لم يوجد الثاني ، يقول : (( فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزم ذلك السبب و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه )) عندما نقول أن المعلول لازم ذاتي للعلة لا نعني به أنه من قبيل الزوجية للأربعة بحيث يكون خارجا عن الإرادة و سنبين ذلك لاحقا ، فاللزوم الذاتي المقصود هو سنة و لن تجد لسنة الله تعطيلا فقد اقتضت إرادته سبحانه أن لا يفك بين السبب و المسبب إلا في موارد كما سيأتي بيانه (( مترتبا عليه بإذن الله سبحانه )) فالمسبب يترتب على السبب ولا ينفك عنه ولكنه بإذن الله سبحانه لا خارجا عن قدرته (( و إذا وجود المسبب كشف ذلك عن تحقق مسببه لا محالة ))
- ج7 من الميزان ص293 : (( فالقرآن ينظم النظام الموجود مثلما ينتظم عند حواسنا و تؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب وهو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها و أنواعها فعالة بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها و من غيرها و بذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء و هذا هو قانون العلية العام في الأشياء و كما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التي بينهما فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود و أن لكل شيء من الأشياء الموجودة و عوارضها و لكل شيء من الحوادث الكائنة علة أو مجموع علل بها يجب وجوده و بدونها يمتنع وجوده و هذا مما لا ريب فيه )) ثم يشير إلى شواهد عديدة من القرآن الكريم

· النصوص الكريمة في المطلب (الروايات)

- عن جابر سأل رسول الله (ص) : أول شيء خلق الله ما هو؟ [و قد بينا في علم الأصول أن السائل إذا سأل سؤالا خاطئا ينبغي على الإمام أن ينبهه على أن السؤال سؤال خاطئ فينبغي أن يقول هنا بأنه ليس عند الله أولا و ثانيا و ثالثا ، و لكننا نجد هنا أن رسول الله (ص) يقر لجابر بأن سؤاله صحيح و أن هنالك أولا] قال (ص) : نور نبيك يا جابر [قال نور نبيك و لم يقل نبيك لأن نبينا هو أوسط ما خلقه الله تعالى لا أوله بحسب الوجود المادي و هو مسبوق بخلق كثير من الموجودات ، و لكن نور النبي هو الصادر الأول] خلقه الله ثم خلق منه كل خير ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ثم جعله أقسام فخلق العرش من قسم و الكرسي من قسم و حملة العرش و سكنة الكرسي من قسم و أقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء و الشمس من جزء و القمر من جزء .. إلى أن قال .. ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف و أربعة و عشرون ألف قطرة [و وجود نبينا كما هو واضح من هذه القطرات لأن عدد الأنبياء يشمله فالرسول مخلوق من هذه القطرات فتبين أنه عندما نقول أول ما خلق نور نبيك يا جابر فهذا مقام الصادر الأول قبل كل شيء و أول كل شيء ولا يستلزم ذلك أن يكون وجود النبي المادي قبل كل شيء] فخلق الله من كل قطرة نور نبي و رسول ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق من أنفاسها أرواح الأولياء و الشهداء و الصالحين [نلاحظ أن أول الخلق الذي هو النور عبر عنه تعبيرات متعددة في الروايات مرة عبر عنه بالنور و مرة بالعقل ، و هذا النور إذا تنزل إلى نشآتنا يظهر بعالمنا بمظاهر مختلفة مرة بمظهر الولاية و مرة بمظهر النبوة و بالتالي فذلك النور لا يسمى باسم فليس هو محمد ولا علي ، و نحن نتكلم هنا في عالم العقل و المثال لا عالم المادة ثم نتنزل في قوس النزول إلى عالم المادة ، و بتعبير القرآن الكريم نحن نتكلم في عالم النون و القلم و اللوح و العرش و الكرسي و القضاء و القدر و اللوح المحفوظ .. الخ إلى أن نصل إلى عالمنا هذا]
- رواية أخرى في نوادر الفيض الكاشاني باب فضل نبينا و أوصيائه على سائر الخلق عن أمير المؤمنين (ع) قال قال رسول الله (ص) : (( ما خلق الله خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني )) و هذه رواية تامة صحيحة من حيث المباني فلو وضعنا يدنا على وجود رسول الله (ص) المادي فهو أفضل الخلق على الإطلاق ، و إذا وضعنا يدنا على حقيقته و هو العقل و هو النور فهو أول صادر ، قال علي (ع) : فأنت أفضل أم جبرئيل (ع)؟ [ وهذا سؤال إما للتعلم أو للتعليم ، فإما أمير المؤمنين (ع) كان يعلم و لكنه يسأل لكي تتضح الحقيقة للآخرين أو أنه كان يتعلم من رسول الله كما علمه رسول الله ألف باب من العلم] فقال (ص) : يا علي إن الله تبارك و تعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين و فضلني على جميع النبيين و المرسلين و الفضل بعدي لك يا علي و للأئمة من بعدك [و هذه في نشأة الكثرة لا الوحدة فإذا صعدنا إلى النور الأول ليس هنالك كثرة و ليس هنالك محمد و علي و فاطمة] يا علي الذين يحملون العرش و من حوله يسبحونه بحمد ربهم و يستغفرون للذين آمنوا بربهم وبولايتنا ، يا علي لولا نحن ما خلق الله تعالى آدم ولا حواء ولا الجنة و لا النار ولا السماء ولا الأرض و كيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى التوحيد و معرفة ربنا [فالتوحيد هو المدار على الفضل ، كما لاحظ أن السابق إلى التوحيد و المعرفة ليس هو الوجود المادي و إنما هي تلك النشأة الأخرى السابقة لكل شيء] و معرفة ربنا عز و جل و تسبيحه و تقديسه و تهليله لأن أول ما خلق أرواحنا [لا الأجساد ولا الأجسام و النشآت المادية] فأنطقنا بتوحيده و تمجيده ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا [ولا يوجد أوضع من هذا التعبير فالأرواح ليست متكثرة بل نورا واحدا] استعظموا أمورنا فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون فسبحت الملائكة لتسبيحنا و نزهته عن صفاتنا فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله و أنا عبيد و لسنا بآلهة نحب أن نعبد معه أو دونه فلما شاهدوا كبر محلنا كبرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال و أن الله عظيم المحل فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة و القوة قلنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لتعلم الملائكة أن لا حول ولا قوة إلا بالله [فحتى في تلك النشأة الأولى كانوا معلمين للتوحيد] فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا و أوجب لنا من فرض الطاعة [يتضح هنا أن وجوب طاعتهم (ع) ليست اعتبارية بل تكوينية] قلنا الحمد لله لتعلم الملائكة ما يحق لنا تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه فقالت الملائكة الحمد لله فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله و تسبيحه و تهليله و تحميده و تمجيده
- الروايات كثيرة بهذا المضمون و التي تتحدث عن الصادر الأول

· الرابطة بين الغيب و الشهادة


- أول وجود الإنسان (( و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا )) و آخر وجوده (( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ))
- الارتباط بين عالم الغيب و الشهادة هو ارتباط تشكيكي (الأشد و الأضعف) كما يدل عليه البحث العقلي
- البحث النقلي يقول (( و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزه إلا بقدر معلوم ))
- راجع الميزان ج12 ص143 الآية 21 من سورة الحجر
الدرس الثاني و الخمسون


· الدرس السابق:

- ذكرنا أن هذا العالم هو عالم الوسائط (الأسباب و المسببات) و بتعبير القرآن عالم (المدبرات أمرا)
- بينا سبب تعلق إرادة الله تعالى بالإيجاد على نحو الوسائط لا على نحو آخر
- نتيجة ما سبق أن هنالك اختلاف في قوس النزول لا ترجيح ، فلا بد أن يتضح أولا الفرق بين الترجيح و الاختلاف

· الفرق بين الترجيح و الاختلاف:

- لو فرضنا أن هناك وعاءين كل منهما يسع لعشرة لترات من الماء ، فقدم صاحب كل وعاء وعاءه ، فإذا أعطى الفاعل لصاحب الوعاء الأول 10ل و أعطى لصاحب الوعاء الثاني 5ل ، هذا نسميه (ترجيحا) لا اختلافا لأن لكلا الوعاءين الاستعداد نفسه ، و هذا الترجيح لا موجب له بالنسبة إلى الحق سبحانه
- لو فرضنا أن ليس هنالك لا إنسان ولا إناء و لا سعة في الإناء و أراد الله تعالى أن يوجد و يخلق هذه الأشياء ، فخلق هذا الشيء بهذا النحو و خلق ذاك بنحو آخر ، فلا يوجد استحقاق متساو ولا يوجد استعداد متساو و إنما يوجد فيض الله تعالى و تعلقت إرادته الأزلية بأن يكون فيضه بهذا النحو ، فإذا أوجد فعله بهذا النحو و عندما نظرت إلى فعله وصفته بالاختلاف ، فالاختلاف شيء و الترجيح شيء آخر
- في قوس النزول هنالك اختلاف لا ترجيح
- مقتضى علم الله تعالى و إرادته أن يتجلى لخلقه بخلقه فتجلى لهم بطرق مختلفة
- ليس من حق الموجودات الاعتراض على الاختلافات لأن :
(1) لم يكن لها استعدادات أصلا لكي تتلقى فيوضات بمقدارها
(2) لا يترتب على الاختلاف ثواب و عقاب
- ليس للصادر الأول مزية على الصادر العاشر أو غيره في قوس النزول ، نعم الصادر الأول أشرف وجودا بحسب العقل النظري لا العقل العملي
- لا يحق للصادر الثاني أن يقول لماذا أصبحت صادرا ثانيا لأنه لم يكن موجودا أساسا قبل خلقه و لم يكن له استعداد كي يستحق على وفقه فيضا معينا
- العلامة في رسالة الولاية ص17 بين أن السعادة و الشقاوة تبدأ من أول قوس الصعود ولا معنى أن يتصف الموجود بالسعادة و الشقاوة في قوس النزول
- الترجيح فرع الاستحقاق المتساوي أو الاستعداد المتساوي و في قوس النزول لا استحقاق ولا استعداد و هذا معنى قول السجاد (ع) : (( مننك ابتداء ))
- في قوس الصعود كلما كانت أعمال الموجود أكبر كانت سعادته أكبر
- الاختلاف لا ينافي العدل

· السلسلة الطولية

- في السلسلة الطولية عندنا موجود قبل موجود ، و الموجود القبل في نشأة و الموجود البعد في نشأة أخرى ، فعندما نقول هذا علة و هذا معلول فالعلة في نشأة و المعلول في نشأة أخرى ، أضف إلى ذلك أنه ما من كمال في المعلول إلا و هو موجود في العلة و زيادة ، فالعلة دائما أشد وجودا من معلولها و أقدم وجودا من معلولها
- بينا في بحث بداية الحكمة أن عالم العقل أشد وجودا من عالم المثال و عالم المثال أشد وجودا من عالم المادة
- بينا أن عالم العقل نشأة وجودية و عالم المثال نشأة وجودية ثانية و عالم المادة نشأة ثالثة ، و هذا ما نسميه بالسلسلة الطولية ، لأن كل مرتبة أعلى محيطة بتمام وجود المرتبة الأدنى ، إن صح التعبير كالدائرة الكبيرة التي تحيط بالدائرة الأصغر ، فالعلة محيطة بكل وجود المعلول و أوسع منها و أشد منها وجودا و لها أحكام تختلف عن أحكام معلولها أيضا

· السلسلة العرضية:

- يمكن أن تكون العلة و المعلول في نشأة واحدة ، مثال : عندما نقول أن زيدا و هندا علتان لوجود هذا الابن ، فالأبوان و الابن في نشأة واحدة
- ليس بالضرورة المعلول أضعف من العلة وجودا فقد يكون المعلول أشد وجودا من العلة ، فقد يكون الأبوان مثلا جاهلان فاسقان بينما يكون الولد أوحدي من العلماء تقي ورع
- هل السلسلة الطولية و العرضية اعتبارية جعلية وضعية أم تكوينية؟ سنبين أنهما تكوينيتان لا اعتباريتان حتى تكون قابلة للتقديم والتأخير
- كل ما سبق كلام في قوس النزول (الواجب ..العقل .. المثال .. المادة) و لم نبدأ بعد بالبحث في قوس الصعود ( المادة .. المثال .. العقل .. لقاء الله)
- اقتضت إرادة الله تعالى الأزلية أن يخلق العقل ثم عالم المثال ثم عالم المادة ، و بتعبير القرآن أن يخلق نون ، قلم ، لوح ، عرش ، كرسي

· العلاقة بين السلسلة الطولية في قوس النزول و السلسلة العرضية في عالمنا

- هنا برهان فلسفي و دليل قرآني روائي ولن ندخل في البرهان الفلسفي لابتنائه على مجموعة من المقدمات منها أصالة الوجود و أن الوجود حقيقة واحدة مشككة لها مراتب مختلفة و لن ندخل في هذا المبحث
- الدليل القرآني قوله تعالى : (( و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم ))
- في هذا الموضع نكتفي بما قرر من دروس التوحيد للسيد كمال الحيدري ج1 و الدرس هو نفس ما ذكره هنالك في تفسير الآية المباركة
- يتنزل الشيء في السلسلة الطولية حتى يصل إلى هذا العالم أي عالم الاستعداد و عالم الحركة و الذي سميناه (السلسلة العرضية)
- التنزل ليس على نحو التجافي (راجع مباحث التوحيد) لذا نجد أن القرآن الكريم يعبر عن جبرئيل (ع) (( فتمثل لها بشرا سويا )) و لم يقل صار بشرا فهو لم يترك مقامه المعلوم و إنما تنزل لا على نحو التجافي
- لجميع الوجودات المادية التي نراها (الشجر ، الحجر ، التفاح ، الإنسان .. الخ) نشآت أخرى تنزلت منها
- السلسلة العرضية ممثلة للسلسلة الطولية و هذا التمثيل تكويني حقيقي واقعي لا اعتباري فكل ما في تلك العوالم موجودة هنا بنشأتها المادية و كل ما في هذه العوالم موجود هناك بنشآتها المجردة ، و هذا معنى ما يقوله الحكماء من أن عوالم الوجود متطابقة فعالم المادة مطابق لعالم المثال و عالم المثال مطابق لعالم العقل و عالم العقل مطابق للنظام الموجود في العلم الربوبي
- السيد العلامة في النهاية ص315 : (( و ثالثا أن العوالم الثلاثة متطابقة متوافقة نظاما بما يليق بكل منها وجودا و ذلك لما تقدم أن كل علة مشتملة على تمام معلولها بنحو أعلى و أشرف ))

· نتائج:

- توجد في قوس النزول سلسلة طولية
- درجات السلسلة الطولية الوجودية مختلفة و ليست متساوية
- للسلسلة الطولية وجود يمثلها بالسلسلة العرضية و لكن بحسب نشأة المادة
- في السلسلة الطولية كلما اقتربنا من الواجب سبحانه و تعالى قلت القيود و ازدادت الكمالات إلى أن نصل إلى وجود لا حد له و لكنه عين الفقر و الحاجة إلى الله تعالى
- كلما نزلنا في السلسلة الطولية و كلما ابتعدنا عن الواجب تعالى ازدادت القيود و النقائص إلى أن نصل إلى عالمنا المشهود المادي الذي هو موطن كل نقص و عدم متصور


الدرس الثالث و الخمسون



· النظام في عالم الإمكان (سواء في السلسلة الطولية) هل هو تكويني أم اعتباري جعلي؟

- الفرق بين التكويني و الاعتباري أن تغيير المواقع في التكويني مستحيل و لكن في الاعتباري ممكن ، فلو كان عندنا عشرة أشخاص يمكننا أن نصفهم وفق ترتيبات مختلفة فنجعل السادة مقدمين و الشيوخ مأخرين أو غير ذلك من الترتيب فهذا ترتيب اعتباري جعلي فكل من الأشخاص يبقى هو هو سواء قدمناه أو أخرناه
- السلسلة الوجودية (الصادر الأول ، الصادر الثاني ، .. الخ) نظام تكويني لا يعقل فيه التقدم و التأخر و إذا تقدم و تأخر لا يبقى المتقدم هو ذاك و لا يبقى المتأخر هو ذاك (مثال لتقريب الفكرة: في سلسلة الأعداد 1،2،3،4،5،6،7،8 موقع السبعة مثلا لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر و إلا لم تبق السبعة سبعة)
- سؤال: إذا صار موجود هو الصادر الأول فهل يمكن أن يصير الأخير و هل يمكن للصادر الأخير أن يكون الأول؟ الجواب: لا يمكن و إلا لتغيرت حقيقته و هذا معنى قول حكمائنا أن الإرادة تعلقت بالوجود أي بمرتبة الوجود فالوجود و رتبته شيء واحد و ليس أن الله خلق الموجود و خلق له رتبة ، فالرتبة هي حقيقة وجود الشيء و ليست شيئا وراء وجوده
- أفعال الله تعالى أمور تكوينية لا اعتبارية فالاعتباريات موجودة في النظام الاجتماعي البشري لتتميم النقائص و ليست موجودة عند الله تعالى فقوله تعالى فعله ، قال تعالى (( أن نقول له كن فيكون )) فالقول هو فعله سبحانه
- سؤال: هل معنى أن رتبة الموجود هي عين وجوده أن الله تعالى لا يمكنه أن يغير رتبة الموجود فهل يستطيع الله تعالى أن يجعل عدد السبعة في المثال السابق في موضع آخر بين الأعداد؟ الجواب: القصور في ذلك في القابل لا في الفاعل فلا تحديد في قدرة الله تعالى لأن منشأ عدم الإمكان ليس عجز الله تعالى بل قصور القابل
- مثال على قصور القابل لا الفعل لو ألقينا حجرا إلى أعلى و ورقة بنفس القوة لوجدنا أن الحجر ينطلق مسافة أكبر دون الورقة لقصور في القابل
- اقرأ العدل الإلهي للمطهري ص117 (( ما معنى الخلقة و الإبداع من وجهة النظر هذه أيكون معنى ذلك أن الله قد خلق مجموعة من الحوادث و الأشياء التي ليس بينها أية رابطة واقعية ثم جعلها في صف واحد ورتبها بحيث يكون أحدها بعد الآخر ومن هذا الترتيب )) الذي رتبها بعد أن أوجدها (( نشأ النظام فتكونت المقدمة و النتيجة و المغير و الغاية )) فهل أن الله تعالى خلق مجموعة من الأشياء ثم رتبها فجعل أحدها الصادر الأول و أحدها الثاني و هكذا مع بقاء كل منها هو هو حتى لو غير ترتيبها ، أم أن الله تعالى خلق الأشياء برابطة علية و معلولية بشكل تكون فيه تبعية المعلول لعلته و النتيجة لمقدمتها (( و بتعبير الفلاسفة فإن رتبة أي وجود للكون سواء كان في النظام الطولي أو العرضي مقومة لذات ذلك الوجود و من هذه الجهة فهو يشبه نظام الأعداد )) و ليس هو نظام الأعداد كما سيأتي فالمثال للتقريب إلى الذهن فقط و إلا فهو مرتبط بالسنن الإلهية
- ص128 من العدل الإلهي يشير إلى أن تغيير المواقع غير ممكن ، فلا يمكن للممكن أن يأخذ موقع الواجب ، فالإيجاد و المؤثرية من خصائص الغني بالذات و لا يمكن إعطاء هذه الخصائص للغير لنقص في القابل ، فيبطل التفويض لأنه ممتنع ، و الروايات المذكورة في التفويض قرينتها اللبية معها و هو أن التفويض محال فلا بد أن يتصرف بها ، نعم لو قيل بأن هذا النظام اعتباري أمكن التفويض بحيث نفهم المواقع في عالم الوجود كما نفهم موقع رئيس الوزراء و وزرائه و الإداريين فهي مواقع اعتبارية يمكن تغيير بعضها ببعض
- (( كلا إن ممكن الوجود واجب الإمكان كما أن واجب الوجود واجب الوجود )) فالإمكان و الوجوب ليسا بقرار و جعل فالخلق أمر تكويني ولا يمكن أن يتغير بجعل ، و لعل الذين أنكروا الولاية التكوينية كان هذا نظرهم فمسألة المراد من الولاية التكوينية لم تنقح حتى الآن و لا بد أن نتبين مراد المنكرين لها ، فإذا كان المراد من الولاية التكوينية تغيير المواقع و إعطاء ما للواجب بما هو واجب للممكن فهذا ممتنع فضلا عن البحث في أنه واقع أم ليس بواقع ، لأن البحث في أنه واقع أم لا فرع الإمكان ، فلا بد من تقرير محل النزاع في مسألة الولاية التكوينية و لم نجد حتى الآن تحريرا لمحل النزاع (( كلا إن الممكن لا يستطيع أن يتخلى عن إمكانه و إن الواجب لا ينفصل عن وجوبه )) فإذا ثبت لنا أن الخالقية من شؤون الواجب فلا يمكن فصلها عنه
- سيتبين لاحقا في بحث النبوة أن مقام النبوة ليس مقاما اعتباريا بل تكوينيا فلا يمكن لغير النبي أن يكون نبيا ، ولا يمكن لبعوضة أن تكون ملكا ، ولا يمكن لملك أن يحل مكان ملك آخر ، ولا يمكن أن يكون علي محمدا (ص)
- (( و يحصل هذا الخطأ نتيجة لعدم الإدراك الفكري لضرورة الروابط بين الموجودات و مراتبها .. على النظام الاعتباري للمجتمع الإنساني )) من الضروري قراءة تمام الكلام في العدل الإلهي
- سؤال: هل يقتضي ما طرحناه الجبر بحيث تكون مرتبة الرسول ذاتية له و مرتبة أبي جهل ذاتية له؟ الجواب: سيأتي في بحث السلسلة العرضية
- أراد الله تعالى و اقتضت قدسيته و علو ذاته أن تكون الأشياء مرتبة وفق سلسلة علل و معاليل ، فعلو ذات الله منشأ لأن يصدر منه موجود لا متناه و إلا لو كان هو تعالى وجودا متناهيا لصدر منه موجود متناه ، فصدر عنه أولا موجود قوي كامل لا ضعيف
- ليس المقصود بالترتيب في السلسلة الطولية الترتيب الزماني لأن الزمان نفسه مخلوق لله تعالى
- السيد العلامة في الميزان في قوله تعالى "والمدبرات أمرا" : (( و كذا ظهور الخطأ في نسبة التصرف في الكون بأنواعه إليهم )) أي إلى المدبرات أمرا أي الملائكة فنسبه التصرف بالكون إليهم خطأ إذا لم نقل أنه بإذن الله تعالى أو إذا قلنا أنه فوض ذلك إليهم (( فإن هؤلاء الملائكة و كذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئا و لا يستقلون دونه بشيء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون، و كذا الجن فيما يعملون و بالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا و هو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره ))
- يؤكد القرآن على أن الفاعلية في العالم دائما بإذن الله تعالى في النهاية

· نتائج وسؤال

- النظام الذي يحكم العالم في السلسلة الطولية نظام تكويني لا اعتباري
- يستحيل تغيير مواقع الوجودات في السلسلة الطولية لأنها مراتبها ليس شيئا وراء حقيقة وجوداتها
- هذه السلسلة و ما فيها من اختلاف داخلة ضمن مشيئة و إرادة الله تعالى الأزلية ، فقد تعلقت إرادته تعالى بذلك
- سؤال: إذا كانت إرادته تعلقت بهذا النحو من الإيجاد فهل يمكن أن يغيرها سبحانه؟ الجواب: قال الفلاسفة نظام العلة و المعلول ذاتي و لكن تعبير القرآن أدق قال تعالى : (( ولن تجد لسنة الله تبديلا )) و (( لن تجد لسنة الله تحويلا )) فإرادته الأزلية لا يغيرها فهو كتب على نفسه الرحمة و قال بأنه لا يبدل سنته .

الدرس الرابع و الخمسون


- انتهينا في الدرس السابق إلى أن الكيفية التي خلق عليها عالم الإمكان القائمة على نظام العلل و المعاليل (الوسائط) لا تتغير ولا تتبدل بدليل العقل و النقل ، فأما دليل العقل فقد خلق الله عالم الإمكان بهذا النحو لأنه على هذه المواصفات فهو فوق ما لا يتناهى بلا ما لا يتناهى فمثل هذا الموجود يوجد نظاما على أفضل ما يمكن و أتقن ما يمكن و إلا لزم إما (1) عدم علمه بالأتقن أو (2) عدم قدرته على الأتقن أو (3) فقره و حاجته و بخله و كلها منفية عنه تعالى ، ولا يغير الله تعالى خلقه الأتقن إلى ما دون الأتقن لأنه إن غير الأتقن إلى غير الأتقن لتغير هو تعالى أيضا لأن مقتضى السنخية أن لا يعرض عن الأتقن إلى ما دون الأتقن فهذا هو برهان المطلب العقلي ، و أما دليله النقلي قوله تعالى (( ولن تجد لسنة الله تبديلا )) و (( لن تجد لسنة الله تحويلا )) فكل يعمل على شاكلته و نظام الوجود على شاكلة الواجب و مسانخ لذاته تعالى
- نظام الوجود لا يقبل الاختلاف ولا التخلف ، فأما الاختلاف فكما بينا أن تكون السبعة بين عددين آخرين غير الثمانية و الستة ، و أما التخلف فهو أن لا تتحقق المسببات كلما تحققت أسبابها و عللها التامة
- يقول الفلاسفة أن نظام الوجود نظام علية و معلولية و نظام تكويني و نظام ذاتي و مرادهم من الذاتي ليس نفي قدرة الله تعالى على أن يغير نظام الوجود و إنما لا يفعل الله ذلك لأن نظام الوجود هو الأكمل و الله تعالى لا يعرض عما هو أكمل لأنه مسانخ لذاته و إن كان يقدر على ذلك فهو لا يفعل القبيح لأنه غير مسانخ لذاته لا لأنه لا يقدر على ذلك
- ليس تغيير النظام الأكمل كالزوجية بالنسبة للأربعة فإن نزع الزوجية عن الأربعة ممتنع ذاتا لا تتعلق به القدرة الإلهية و لكن تغيير نظام الإمكان من الأكملية إلى ما دونها ممتنع وقوعا لا ذاتا ، فالله تعالى لا يعرض عن الأكمل إلى الأنقص لا لامتناع ذلك ذاتا و إنما ذلك ممتنع وقوعا لأنه سنخ ذات تقتضي أن يفعل الأكمل و الأحسن
- راجع العدل الإلهي للمطهري ص134 تحت عنوان "سنة الله"
- إلى هنا نحن انتهينا من بيان النظام الطولي في قوس النزول و الذي انتهى بنا إلى عالم المادة بالتعبير الفلسفي (عالم الشهادة بالتعبير القرآني) و عالم المادة هذا سيكون أول سلسلة قوس الصعود و الرجوع إلى الله تعالى (( إنا لله وإنا إليه راجعون ))

· قوس الصعود و الفرق بينه و بين قوس النزول

- كما لأحكام قوس النزول أحكام (مثلا الأسبق أشرف و أكمل من الأدنى و اللاحق فالصادر الأول هو أشرف المخلوقات) فهنالك أحكام لقوس الصعود
- قاعدة الأشرف فالأشرف في قوس النزول تشير إلى المثال المذكور
- في قوس الصعود هنالك قاعدة الأخس فالأخس في قبال القاعدة المذكورة في قوس النزول
- في قوس النزول لا يترتب على الاختلاف ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، و لكن في قوس الصعود هنالك ثواب وعقاب ، ففي قوس النزول ليس هنالك محمود و مذموم و ليس هنالك إبليس ، و إنما هنالك محمود و مذموم في قوس الصعود
- قلنا بأن لكل شيء في عالمنا المادي ما يقابله في قوس النزول ، فما هو الموجود الذي يمثله إبليس في قوس النزول؟ الجواب: القرآن يوضح أن إبليس كان من الجن و الجن مكلف و لكنه عندما فسق صار إبليس و قبل أن يفسق لم يكن إبليس بل كان عبدا لله تعالى ، فهنالك خزائن تنزل منها إبليس و إبليس في قوس النزول لا يمثل إلا الخير و لكنه في قوس الصعود صار إبليسا و هذا سيأتي في حل إشكالية الشرور
- في قوس النزول الصادر الأول لا متناهي و لكن في قوس الصعود مهما فعل الصادر الأول يبقى متناهيا بالفعل و غير متناه بالقوة فيبقى تكامله وصعوده إلى الأبد ، مثل العدد فهو بالفعل متناه ولكن بالقوة غير متناه ، و هذا فرق أساسي بين قوس الصعود و النزول ، و منه يتبين أن الخلق في قوس الصعود محتاجون للعبادة دائما و أبدا

· خصائص نشأتنا (عالم المادة) (عالم الشهادة) (السلسلة العرضية)

- الخصوصية الأولى: هو نظام يحكمه الاستعداد فالموجودات فيه تخرج من القوة إلى الفعل و من النقص إلى الكمال فهي توجد بنحو فتترقى فتصل إلى وجود آخر بنحو آخر فهذا العالم هو عالم الحركة ، تبدأ نطفة فتصبح مضغة و هكذا حتى تصبح إنسانا ، نعم قد يكون التكامل في هذا العالم نحو الجنة و في درجات الجنة أو نحو النار و في درجات النار ، قال تعالى : (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) و إلى تعني الانتهاء هنا
- أثبت البرهان الفلسفي أنه ما من شيء إلا وهو مسبوق بمادة ومدة
- الخصوصية الثانية: الاستعدادات و الأواني و الأوعية مختلفة بدليل العقل و النقل ، فدليل العقل هو ما ذكر من أن اختلاف الآثار في هذا العالم يدل على اختلاف المؤثرات و اختلاف المؤثرات تدل على اختلاف الاستعدادات ، و أما البرهان النقلي فقوله تعالى : (( و أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها )) و المشكلة كل المشكلة في جواب سؤال: من أين أتى اختلاف الاستعدادات هذه؟ و قد بينا سابقا أن العدل هو إعطاء القوابل ما هي مستعدة لها ، و لكن من أوجد هذه القوابل بهذا النحو؟!
- الميزان ج11 ص338 في ذيل الآية السابقة راجع المطلب المفصل في الكتاب و منه قول العلامة : (( و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية )) أي أن فيها مفاتيح لمعارف كثيرة (( و قد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية: الأولى أن الوجود النازل من عنده (سبحانه و تعالى) )) أي قوس النزول الذي ليس فيه إمام و مأموم ولا حسين و يزيد ولا مسلم وكافر ولا شقي و سعيد بل فيه وجود فقط ، و أشار إلى هذا المقام بالماء في قوله تعالى "أنزل من السماء ماء فسالت أودية" فإنما نكر الماء كي يقول بأنه ليس موصوفا بأية صفة (( على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار )) فالماء إذا وقع على الورد فاح عطرا و إذا وقع على الجيفة فاحت ريحا خبيثا و إذا وقع في الإناء تشكل بشكل الإناء و هكذا (( كماء المطر الذي يحتمل من القدر و الصورة ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنما تنال الأشياء )) أي الاستعدادات و الوجودات (( من العطية الإلهية بقدر قابلياتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية ))


الدرس الخامس و الخمسون


· الدرس السابق وتتمة الحديث عن قوسي الصعود و النزول

- قلنا بأن لعالم الإمكان قوسين قوس نزول (فاعلية الحق سبحانه و كيفية إيجاده لهذا العالم) و قوس الصعود ، ووصل الكلام إلى مراتب قوس الصعود
- الجميع يتناهى في قوس الصعود فيلاقي الحق و لكن البعض يلاقي ذلك البحر في الساحل و البعض يلاقيه في العمق و سيأتي ذلك في الكلام عن قوس الصعود
- الجزء المشترك بين القوسين هو عالم المادة فهو – إذا نظرنا إليه بحسب السلسلة الفاعلية – آخر سلسلة قوس النزول ، و – إذا نظرنا إليه بحسب السلسلة الغائية – فهو أول قوس الصعود إلى الله سبحانه
- يمثل عالم الإمكان بشعاع الشمس و الله بعين قرص الشمس ، فللقرص شعاع ليس هو عين القرص بشهادة أن الشعاع لم يكن موجودا ثم وجد ثم يعدم في الغروب و لكن القرص لا يعدم ، فالله لا ينقص منه شيء بالإيجاد
- بهذا يكون تفسير الآخرة أنها رجوع إلى المبدأ (( إنا لله و إنا إليه راجعون ))
- الخصوص الثانية في نشأة المادة: أن الخروج من القوة إلى الفعل و من النقص إلى الكمال يستدعي استعدادا ، و إلا لما كان ثمة معنى لأن يخرج الموجود من النقص إلى الكمال
- الخصوصية الثالثة: أن هذا الاستعداد الذي يحكم عالم المادة يأتي على أنحاء متعددة بدليل البرهان العقلي و النقلي ، قال تعالى : (( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها )) لا بقدره ، و المشاهدة العيانية تدلنا أن لبعض الناس استعدادات لأن يكونوا أعلم العلماء و بعضهم ليس لهم استعداد لأن يكونوا كذلك مثلا
- سؤال: هل هنالك ارتباط بين الموجودات المختلفة (الإنسان ، الحجر ، الشجر .. الخ) الموجودة في عالمنا؟ الجواب: البرهان و المشاهدة تدل على أن الموجودات مرتبطة ببعضها فكل العلوم الطبيعية من فيزياء و كيمياء و غيرها قائمة على ربط الموجودات ببعضها كما هو في حال التنبؤ بالأحوال الجوية ، ومثال آخر وجود الماء و الهواء و غيرها بالنسب المناسبة لإمكانية حياة الإنسان
- السيد العلامة في النهاية ص279 : (( الفحص البالغ و التدبر الدقيق العلمي يعطي أن أجزاء عالمنا المشهود و هو عالم الطبيعة مرتبطة بعضها ببعض )) و كذلك يقول الشيخ مصباح اليزدي في تعليقته على النهاية ص433 (( فإن الأجزاء الحالية الموجودة في هذا العالم ترتبط بالأجزاء التي سوف تحدث من حيث أنها تشكل موادها )) يعني قابلياتها و استعداداتها التي على أساسها ستوجد )) و تهيئ الأرضية لحدوثها كما أنها حدثت من الأجزاء السابقة و الأجزاء المتزامنة أيضا يرتبط بعضها ببعض بأنواع من التأثير و التأثر فماء البحر مثلا يتسخن بضوء الشمس فيتبخر و يصعد إلى الجو سحابا ثم يتبدل بتأثر العوامل الجوية إلى المطر فينزل على سطح الأرض فينمو به النبات فيأكله الحيوان كما أن الإنسان يتغذى به و بلحم الحيوان و هكذا ))
- الإمكان بالقياس هو أن الموجودات لا علاقة لها ببعضها ، و لكن الوجوب بالقياس فهي أن هنالك علاقات بين الموجودات فإذا كان أ معدوما يكون ب معدوما ، و الوجوب بالقياس متناسب مع قولنا بأن أجزاء هذا العالم مترابطة ، و بمقدار معرفة الإنسان بهذه الروابط يمكنه أن يسيطر على الطبيعة و يتحكم بها
- سؤال: نحن قلنا بأن في السلسلة الطولية و العرضية هنالك نظام ، و السؤال ما هو الفرق بين النظامين؟ الجواب : (1) في السلسلة الطولية الأسبق وجودا كالصادر الأول أكمل وجودا ، و لكن في السلسلة العرضية ليس الأمر كذلك فوجود الابن متوقف على وجود الأب و الأم و لكن لا يلزم ذلك أن يكونا أكمل منه (2) في السلسلة الطولية إذا أريد للأدنى أن يوجد فلا بد أن يكون الأعلى موجودا لأنه واسطة الفيض فلو لم يكن الصادر الأول موجودا لما كان الصادر الثاني موجودا
- النظام الطولي و العرضي مشتركان في حقيقة واحدة هي أن المتأخر متوقف على المتقدم ولا يوجد المتأخر إلا أن يوجد المتقدم
- سؤال يتبين جوابه مما سبق: إذا كان التراب علة مادية لإيجاد الإنسان فكيف يكون وجود الإنسان أكمل من وجود التراب؟ الجواب: لأن في السلسلة العرضية ليس الأمر كذلك كما تبين
- سؤال: هل هنالك سنخية بين كل مقدمة و نتيجتها أم أن كل مقدمة قد تؤدي إلى أية نتيجة (مثلا: هي الآثار المترتبة على لمس النار و الماء واحدة متماثلة أم ثابتة متغايرة؟) الجواب: تبين أنه لولا قانون السنخية لما ثبت شيء لشيء كما سبق فهنالك سنخية بين كل فعل و الأثر المترتب عليه بدليل البرهان العقلي أولا و الدليل النقلي القرآني ثانيا و هو أن كلا يعمل على شاكلته كما ورد في الآية ، و كذلك قوله تعالى (( و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا )) فقد بينت الآية أن مقدمات معينة لا بد أن تؤدي إلى نتائج معينة
- من القوانين المتفرعة الموجودة في نشأتها هي أنه إذا تحققت المقدمات فلا بد أن تتحقق النتيجة و هذا ما يعبر عنه في الفلسفة بوجوب وجود المعلول عند وجود علته التامة و أنه لا يختلف ولا يتخلف ، و العلة التامة هي (1) مجموع المقدمات و (2) إرادة الإنسان و (3) وجود كل الشرائط و (4) انتفاء كل الموانع
- فالقانون الثاني هو ضرورة وجود النتيجة بعد وجود المقدمات فالنتيجة لا تختلف ولا تتخلف ، بمعنى أننا إذا غرسنا بذرة التفاح في الأرض مع وجود شرائط نموها و انتفاء موانعه فإن بذرة التفاح تنتج شجرة التفاح من دون أن تختلف النتيجة بحيث تنتج شجرة تفاح مرة و شجرة زيتون أخرى و شجرة أرز ثالثة ، و من دون أن تتخلف بحيث تنتج مرة شجرة تفاح و مرة لا تنتج شيئا
- النتيجة من المقدمات السابقة جميعا التي تستهدف استعراض عالم الشهادة:
(1) هنالك ارتباط بين أجزاء عالمنا المشهود
(2) هذا الارتباط منظم بنحو خاص وهو السنة الإلهية
(3) هذا النظام لا يتبدل ولا يختلف ولا يتخلف بل هو على سنة ثابتة
- المعجزة ليس كسرا لقانون العلية و لها بحثها الخاص في مبحث النبوة فالإعجاز خرق لنشأتنا المادية لا خرق للقانون و السنة الإلهية
- المعاجز خير دليل على أن الذي يحكم عالمنا نظام خاص فبحسب السنن التي تحكم عالمنا لأن انقلاب العصا حية ممكن في عالمنا و لكن بتواجد الوسائط و كذلك أن يخلق من الطين كهيئة الطير ممكن في عالمنا و لكن بتواجد وسائط معينة

· اختلاف الاستعدادات

- في البحث سنقتصر على الإنسان لأن المكلف – حسب ما نعلم – بين الموجودات هو الإنسان فعلى فعله يترتب الحسن و القبح و الثواب و العقاب ، و إذا استطعنا أن نحل المشكلة في الإنسان فإن المشكلة في غير الإنسان يسهل حلها ، لأن التفاوت في الإنسان و استعداداته تفوق الموجودات الأخرى و الإنسان خص من بين الموجودات الأخرى بأنه يستطيع أن يتسامى فيصل قاب قوسين أو أدنى و يستطيع أن يتسافل فيصل إلى أن يكون أضل من الأنعام
- أشارت الروايات بأن الله تعالى خلق الحيوان من الشهوة و الملائكة من العقل و الإنسان من عقل و شهوة فإن غلب عقله شهوته صار أفضل من الملائكة و إن غلبت شهوته عقله صار أضل من الأنعام
- الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل يمكنه أن يصبح أفضل من الملائكة كما يمكنه أن يصير أضل من الأنعام
- ما نريد أن نقوله مما سبق أن حل مشكلة اختلاف الاستعدادات في الإنسان تسهل حلها في سائر الخلق
- القرآن صريح في أن (( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا )) و (( لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين )) (( إنا خلقناهم من طين لازب )) أي يلتصق باليد و قال (( الذي أحسن كل شيء خلقه )) فهذه الكبرى ثم بين الصغرى فقال : (( و بدأ خلق الإنسان من طين )) فخلق الإنسان من طين أحسن ما يمكن أن يكون ، فخلقه من الطين أحسن من خلقه من الحديد أو غيره
- في الدرس القادم سنبين معنى خلق الإنسان من الطين و ارتباط ذلك بنظرية تطور الأنواع عند دارون


الدرس السادس و الخمسون و السابع و الخمسون


- تصرح الآيات بأن الله تعالى سخر للإنسان جميع ما في السماوات و الأرض و بالتالي فإن اختلاف الموجودات – غير الإنسان – فإنما اختلافها لتأمين حاجة الإنسان و تمهيد تحقيق الغرض الذي خلق من أجله الإنسان ، و من هنا كان بحثنا في سبب الاختلاف في استعدادات البشر دون غيرهم و قلنا بأنه إذا حلت المسألة في الإنسان فإن حلها في غيره أسهل

· خلق الإنسان من طين

- الطين الذي خلق منه الإنسان – كما هو ظاهر الآيات و صريح الروايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت (ع) – هو طين هذه الأرض نفسه كما هو ظاهر المعنى
- الميزان ج16 ص255 تحت عنوان "كلام في كينونة الإنسان الأولى" : (( (كلام في كينونة الانسان الاولى) تقدم في تفسير أول سورة النساء كلام في هذا المعنى وكلامنا هذا كالتكملة له. قدمنا هناك أن الايات القرآنية ظاهرة ظهورا قريبا من الصراحة في أن البشر الموجودين اليوم - ونحن منهم - ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل وامرأة بعينهما وقد سمى الرجل في القرآن بآدم وهما غير متكونين من أب وأم بل مخلوقان من تراب أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن. فهذا هو الذي يفيده الآيات ظهورا معتدا به وإن لم تكن نصة صريحة لا تقبل التأويل ولا المسألة من ضروريات الدين نعم يمكن عد انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريا من القرآن وأما أن آدم هذا هل أريد به آدم النوعي )) فلا تستطيع أن تحدد فترة تقول بأن البشرية بدأت عندها و لعل فيما روي من أن قبل آدمكم ألف آدم تأييد في ذلك فيكون النوع غير متناه و إن كانت الأفراد متناهية فكل فرد ينتهي و لكن النوع الإنساني لا ينتهي إلا أن نقول أن الظهور القرآني لا يشير إلى آدم نوعي بل إلى آدم شخصي (( أعنى الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص )) فهذه هي النظرية الأولى في نشأة البشرية و النظرية الثانية هي : (( أو عدة معدودة من الأفراد هم أصول النسب والآباء والأمهات الأولية أو فرد إنساني واحد بالشخص؟ )) بحيث ينتهي كل مجموعة من الناس إلى أبوين مختلفين فمثلا ينتهي السود إلى أبوين غير الأبوين الذين ينتهي إليهما البيض و إلى هذا يشير العلامة الطباطبائي في موضع آخر من الميزان ج4 ص141 : (((كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم وزوجته) ربما قيل إن اختلاف الالوان في أفراد الانسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا واوروبا والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية والصفرة كلون أهل الصين واليابان والحمرة كلون الهنود الامريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الالوان من اختلاف طبيعة الدماء وعلى هذا فالمبادئ الاول لمجموع الافراد لا ينقصون من أربعة أزواج للالوان الاربعة )) و العقل لا ينفي أو يثبت أيا من هذه النظريات و إنما يضعها جميعا في إطار الإمكان ، و ليست هذه النظريات من ضروريات الدين نعم الضروري هو مطلق القول بأن البشر ينتهون إلى آدم ، و هنالك نظرية ثالثةترى أن النسل البشري ينتهي إلى زوج بعينه هما آدم و حواء (( أو فرد إنساني واحد بالشخص )) و هي النظرية الشائعة بين الناس (( وعلى هذا التقدير هل هو فرد من نوع الإنسان تولد من نوع آخر كالقردة مثلا على طريق تطور الأنواع وظهور الأكمل من الكامل والكامل من الناقص وهكذا )) و القول بهذه النظرية لا يقتضي الإلحاد و لذا قيل بأن دارون كان موحدا ، فحتى لو قلنا بأن القرد هو أصل الإنسان فلا بد أن يكون هنالك خالق للقرد و قد ذكر السيد العلامة بأن هذه النظرية واردة و ممكنة إلا أن البحوث العلمية لا تعضدها ، فالقرآن الكريم لم يتعرض عن المصدر الذي جاء منه آدم (ع) (( أو هو فرد من الإنسان كامل بالكمال الفكري )) كآدم النبي (( تولد من زوج من الإنسان غير المجهز بجهاز التعقل فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهز بالتعقل القابل للتكليف وانفصاله من النوع غير المجهز بذلك فالبشر الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يسمى بآدم ، و ينشعب هذا النوع الكامل بالتولد تطورا من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقل وهو يسير القهقرى في أنواع حيوانية مترتبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزا وأنقصها كمالا وإن أخذنا من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل ومن كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقل ثم إلى الإنسان الكامل كل ذلك في سلسلة نسبية متصلة مؤلفة من آباء وأعقاب. )) ثم يذكر احتمالا رابعا في المقام (( أو أن سلسلة التوالد والتناسل تنقطع بالاتصال بآدم وزوجه )) الكاملين (( وهما متكونان من الأرض من غير تولد من أب وأم )) و هنا احتمالان الأول أن الروح أفيضت على آدم مباشرة و احتمال آخر هو أن أحقابا طويلة مرت على بدن آدم حتى أفيضت عليه الروح كما يمر الجنين في مراحل حتى تبث فيه الروح (( فليس شيء من هذه الصور ضروريا )) بل كلها نظرية ، و كثير من الروايات التي جاءت في هذا المقام دخيلة من أديان أخرى ، ولو توصل أحد إلى نظرية تطور الأنواع – و العياذ بالله – لا يصبح كافرا لأن المسألة قابلة للاجتهاد (( وكيف كان فظاهر الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة وهي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه المتكونين من الأرض من غير أب وأم. غير أن الآيات لم تبين كيفية خلق آدم من الأرض وأنه هل عملت في خلقه علل وعوامل خارقة للعادة؟ وهل تمت خلقته بتكوين إلهي آني من غير مهل فتبدل الجسد المصنوع من طين بدنا عاديا ذا روح إنساني أو أنه عاد إنسانا تاما كاملا في أزمنة معتد بها يتبدل عليه فيها استعداد بعد استعداد وصورة وشكل بعد صورة وشكل حتى تم الاستعداد فنفخ فيه الروح وبالجملة اجتمعت عليه من العلل والشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم. ومن أوضح الدليل عليه قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" آل عمران: 59، فإن الآية نزلت جوابا عن احتجاج النصارى على بنوة عيسى بأنه ولد من غير أب بشرى ولا ولد إلا بوالد فأبوه هو الله سبحانه ، فرد في الاية بما محصله أن صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم ))
- واضح أن السيد العلامة يرى بأن البشر ينتهي إلى فرد بعينه و أن هذا الفرد لا ينتهي إلى نوع آخر و إنما خلق آنا و نفخت فيه الروح
- سواء اخترنا أيا من تلك النظريات (الأولى أو الثانية أو الثالثة) و سواء اخترنا في النظرية الثالثة الاحتمال الأول أو الثاني أو الثالث فإنها جميعا تشترك في أن الإنسان خلق من طين الأرض ، و هنا يجب أن نتعرف على خصائص طين الأرض لأن هنالك رابطة بين الطين و الإنسان ، و هذه الرابطة هي منشأ الاستعدادات في الإنسان
- بناء على وجود الارتباط التام بين المقدمات و النتائج و بناء على نظرية الحركة الجوهرية يمكننا تفسير اختلاف القابليات و الاستعدادات من خلال فهم خصائص الطين

· الطين في الروايات
· رواية (1)

- ج9 ص305 بحار الأنوار باب احتجاجات النبي على اليهود ، قال السائل : فأخبرني عن آدم لم سمي آدم ؟ قال (ص) : (( لأنه خلق من طين الأرض و أديمها )) قال : فآدم خلق من الطين كله أو من طين واحد؟ قال : (( بل من الطين كله ولو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضا و كانوا على صورة واحدة )) قال: فلهم في الدنيا مثل ؟ قال: (( التراب فيه أبيض وفيه أخضر وفيه أصفر (أشقر) وفيه أغبر وفيه أحمر وفيه أزرق ، وفيه عذب وفيه ملح وفيه خشن وفيه لين وفيه أصهب، فلذلك صار الناس فيهم لين وفيهم خشن وفيهم أبيض وفيهم أصفر وأحمر وأصهب وأسود على ألوان التراب ))
- بناء على نظرية صدر المتألهين بأن النفس تبدأ مادية (طين و تراب) لا مجردة ، فإذا كان للطين خصائص متعددة يكون للنفس خصائص متعددة أيضا ، و بعبارة علمية تكون الجينات المؤثرة في تحقق الولد و صفاته متعددة ، و في الرواية السابقة يسأل السائل عما إذا خلق آدم من نوع واحد من الطين أو من الطين كله ، و الجواب بين أن خلقه من الطين كله و التنوع في الطين سبب التنوع في الجينات و الاستعدادات و عموما سبب التفاوت بين الناس
- في الرواية السابقة (( و فيه عذب و فيه ملح )) إشارة إلى الماء الممزوج بالطينة التي خلق منها الإنسان ودخالته في تفاوت الاستعدادات
- برهان الرواية السابقة جلي في المباحث الفلسفة و هو أن النفس مادية الحدوث و بالحركة الجوهرية تصبح مجردة
- يعبر السيد العلامة تعبيرا دقيقا يقول بأن عالم المادة مصنع عالم التجرد
- تتحرك المادة في سير معين فتصبح ذات روح ثم تنتهي إلى تجرد تام ، وهذه الحركة في قوس الصعود لا النزول لأن البدء من المادة و الانتهاء بالمجرد بعكس قوس النزول ، والصعود هنا على نحو التجافي لا التبدل فالبدن إذا تصاعد إلى التجرد يبقى محتاجا للطعام و الشراب مثلا (( إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي )) (( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ))

· رواية (2)

- البحار ج5 ص237 عن أمير المؤمنين عليهم السلام في خبر طويل: قال الله تبارك وتعالى للملائكة: "إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" قال: وكان ذلك من الله تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم ، قال: فاغترف ربنا تبارك وتعالى غرفة بيمينه من الماء العذب - وكلتا يديه يمين - فصلصلها في كفه فجمدت فقال لها: منك أخلق النبيين و المرسلين، وعبادي الصالحين، والأئمة المهتدين، والدعاة إلى الجنة وأتباعهم إلى يوم الدين ولا أبالى ، ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون. ثم اغترف غرفة أخرى من الماء المالح الأجاج فصلصلها في كفه فجمدت ثم قال لها: منك أخلق الجبارين والفراعنة والعتاة وإخوان الشياطين والدعاة إلى النار إلى يوم القيامة وأشياعهم ولا أبالي ، ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون. قال: وشرط في ذلك البداء فيهم ، ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء ، ثم خلط الماءين جميعا في كفه فصلصلهما ثم كفأهما قدام عرشه وهما سلالة من طين. الخبر
- السجود ليس للبدن و إنما هو لما نفخ في الإنسان من الروح
- لا يخلف الله تعالى وعده في أصحاب الجنة و لكنه قد يخلف وعيده في أصحاب النار (( وشرط في ذلك البداء فيهم ، ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء )) فالكثير يخرجون من النار إلى الجنة لأن الله تعالى شرط على نفسه ذلك و يمكنه أن يعكس فيدخل كثيرا من أهل الجنة النار و لكنه كتب على نفسه الرحمة و نرجع هنا إلى مسانخة ذاته لفعل الرحمة ، و لذا شرط البداء في أهل النار لا في أصحاب اليمين

· رواية (3)

- عن أبي جعفر عليه السلام قال: لو علم الناس كيف كان ابتداء الخلق لما اختلف اثنان. فقال: إن الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق قال: كن ماءا عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي. وقال: كن ماءا ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي، ثم أمرهما فامتزجا، فمن ذلك صار يلد المؤمن كافرا والكافر مؤمنا، ثم أخذ طين آدم من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فإذا هم في الذر يدبون، فقال لأصحاب اليمين: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب النار: إلى النار ولا أبالي، ثم أمر نارا فأسعرت فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها، فدخلوها: فقال كوني بردا وسلاما فكانت بردا وسلاما ; فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا . فقال: قد أقلتكم فادخلوها، فذهبوا فهابوها، فثم ثبتت الطاعة والمعصية، فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء.
- ((كن ماءا عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي )) فيه دليل على أن هذه الأرض إنما وجدت على هذه الصفات لأن الله تعالى أراد لها ذلك لأن هذا هو النظام الأحسن أولا و لأن ذلك اقتضاء تنزلات قوس النزول
- ((أخلق منك ناري وأهل معصيتي )) ليس في قوس النزول جنة ولا نار ولا طاعة ولا معصية ولا سعادة ولا شقاوة و إنما ذلك كله في قوس الصعود

· رواية (4)

- البحار ج11 أيضا الدقاق، عن الكليني، عن علان رفعه قال: أتى أمير المؤمنين يهودي فقال: لم سمي آدم آدم وحواء حواء ؟ قال: إنما سمي آدم آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل عليه السلام وأمره أن يأتيه من أديم الأرض بأربع طينات: طينة بيضاء وطينة حمراء، طينة غبراء، وطينة سوداء، وذلك من سهلها و حزنها، ثم أمره أن يأتيه بأربع مياه: ماء عذب، وماء ملح، وماء مر، وماء منتن، ثم أمره أن يفرغ الماء في الطين، وأدمه الله بيده فلم يفضل شئ من الطين يحتاج إلى الماء، ولا من الماء شئ يحتاج إلى الطين، فجعل الماء العذب في حلقه، وجعل الماء المالح في عينيه، و جعل الماء المر في أذنيه ، وجعل الماء المنتن في أنفه، وإنما سميت حواء حواء لأنها خلقت من الحيوان. الخبر.
- (( وأدمه الله بيده )) أي يد القدرة ، فالإنسان مشرف لأنه خلق بالصادر الأول و الصادر الأول مخلوق بلا واسطة فالإنسان خلق بلا واسطة لأنه مظهر الصادر الأول و من هنا تكون له الخلافة العظمى في عالم التكوين

· رواية (5)

- ج67 ص87 من البحار : عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم عليه السلام بعث جبرئيل عليه السلام في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة فبلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، و أخذ من كل سماء تربة )) فآدم مخلوق من كل أنواع الطين و بالتالي فما من استعداد متصور إلا وهو موجود فيه ، فهو مستعد بأن يكون في أعلى عليين كما أنه مستعد بأن يكون في أسفل السافلين ((، وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الارض السابعة القصوى. فأمر الله عز وجل كلمته )) أي جبرئيل (ع) (( فأمسك القبضة الأولى بيمينه ، والقبضة الأخرى بشماله ففلق الطين فلقتين، فذرا من الارض ذروا ومن السماوات ذروا، فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون و المؤمنون والسعداء ومن أريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال )) و هذا وجوب من لا على كما تبين لأن إرادته الأزلية تعلقت بذلك و يستحيل أن تتخلف إرادته (( وقال للذي بشماله: منك الجبارون و المشركون والكافرون والطواغيت ومن أريد هوانه وشقوته، فوجب لهم ما قال كما قال. ثم إن الطينتين خلطتا جميعا وذلك قول الله عز وجل "إن الله فالق الحب والنوى" فالحبة طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته و النوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير و إنما سمي النوى لأنه نأى عن كل خير و تباعد عنه ))
- (( في أول ساعة من يوم الجمعة )) فيه دلالة على أن الطين هو طين الأرض من هذا العالم من هذا الزمان و إلا فقبل نشأتنا لا يوجد جمعة ولا سبت ولا زمان
- (( فبلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا )) كيفية بلوغ القبضة من السماء السابعة إلى الدنيا تتضح من خلال ما قدمناه من أن هذه الأرض جعلها الله تعالى ممثلة لكل مراتب الوجود فظهرت فيها خصائص عالم الوجود المختلفة (( و إن من شيء إلا عندنا خزائنه )) فكل الموجودات عندما تنزلت في الأرض كان لها ما يقابلها في عالم العقل و المثال ، و الموجودات في الأرض مختلفة و متفاوتة و ما تمثله في الخزائن أيضا مختلف و متفاوت كمالا و نقصا
- إذا خلق الإنسان من طينة أعلى عليين صار معصوما و إذا خلق من فاضل الطينة صار شيعيا و إذا خلق من طينة سبخة صار منحرفا ، و لكن لماذا يخلق الإنسان من هذه الطينة أو تلك؟! سيأتي بيان ذلك
- الأرض التي هي منشأ آدم و ابن آدم مختلفة الاستعدادات لأنها ممثلة لكل الموجودات في قوس النزول ، و الموجودات في قوس النزول كمالاتها مختلفة ، فالإنسان المعصوم مثلا مخلوق من العذب الفرات الخالص لذا كان استعداده خالصا غير ممزوج بالشرك و النقائص المعنوية
- سؤال: أثبتت الروايات السابقة حقيقة أن التراب مختلف كما أن الماء مختلف ، و السؤال ما هو سبب اختلاف ذلك؟
- الجواب: اتضح من الأبحاث السابقة أن التراب و الماء لها خزائن كما قال تعالى : (( و ما من شيء إلا عندنا خزائنه )) فكل أنواع الماء و التراب لها خزائن و هذه الخزائن هي ما سميناه فيما سبق بقوس النزول ، فالموجود في قوس النزول كلما كانت كمالاته أكثر و حدوده ونقائصه أقل صار وجوده في عالم المادة بصورة الاستعداد الأكثري للكمالات (( و أنزل من السماء ماء فسالت أودية )) فالأودية المختلفة تمثل الصادر الأول الذي كان من حيث الكمالات لا متناه ، فكلما كان الوجود في قوس النزول أشد كمالا كلما كان أشد استعدادا في هذا العالم ، و كلما كان الوجود هناك أضعف كمالا – أي أبعد في السلسلة الطولية فالصادر العاشر مثلا أضعف من الأول – و أبعد عن الحقيقة المحضة و عن معدن العظمة أي عنه سبحانه و تعالى كلما ظهر في عالمنا باستعدادات أقل ، و من هنا صار عندنا طينة من أعلى عليين و أخرى من أسفل سافلين و طينة مالحة و طينة عذبة فكل هذه تمثيلات لوجوداتها في الخزائن ، و قد عبرت الروايات الكثيرة عن هذه الفكرة :
(1) كما في أصول الكافي ج1 ص389 عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال : (( إن الله خلقنا من عليين )) أي من الطين فالأئمة من نسل آدم (ع) و آدم من التراب أعني نفس التراب المعروف ، فأهل البيت مخلوقون من نفس هذه الطينة و لكن لهذه الطينة مراتب و خصوصيات و صفات ، فبحسب أن الطين متنزل من العوالم العلوية و نشآت أخرى تكون صفاته متفاوتة ، و السؤال : ماذا لو لم يخلقوا من هذا الطين هل كانوا يصيرون أئمة و هل لو خلقني الله من هذا الطين أكون إماما؟ سيأتي (( و خلق أرواحنا من فوق ذلك )) و هذه قرينة على أن أبدانهم هي المخلوقة من عليين و لكن أرواحهم ليست كذلك ، فأبدانهم الأكثر استعدادا لنزول الفيوضات عليها (( و خلق أرواح شيعتنا من عليين )) فخلقت أرواح شيعتهم مما خلقت به أبدانهم (ع) لا أرواحهم (( و خلق أجسادهم من دون ذلك فمن أجل ذلك القرابة بيننا و بينهم و قلوبهم تحن إلينا )) و الإشكال هنا يتضح مرة أخرى أن من نصب العداء لهم إنما هو مجبور في ذلك ولو أنه خلق مما خلقت به أرواح و أبدان الشيعة لكان شيعيا
(2) عن أبي عبد الله (ع) قال : سمعته يقول : (( إن الله خلقنا من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش )) و هذه طينة مجردة لا مادية لأنه لا يوجد مواد في نشأة العرش فخزينة الطينة التي خلق منها الأئمة (ع) في العرش ، و أنا عندما أخلق فخزانة طينتي فيما دون العرش (( فأسكن ذلك النور فيه فكنا نحن خلقا و بشرا نورانيين )) فلهم جانب بشري و آخر نوراني فهم خلقوا من طينة تمثل طينة الصادر الأول و ليس للصادر الأول شريك و بالتالي يكون استعدادهم في عالم المادة ليس له مثيل ولا شريك لهم في ذلك ، و هذا هو ما جعل في صلب آدم كما في الروايات حيث كانوا نورا واحدا إلى أن قسم النور عند عبد الله و عبد المطلب (ع) (( و كنا لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا و خلق أرواح شيعتنا من طينتنا و أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطين ، و لم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيبا إلا للأنبياء )) و طبعا ليس بين المحبين و الأنبياء بل الشيعة و الأنبياء و هناك روايات مخصوصة في معنى الشيعة (( و لذلك صرنا نحن و هم الناس ، و صار سائر الناس همج للنار و إلى النار )) و قد أشارت الروايات إلى أن الناس إما عالم أو متعلم على سبيل نجاة أو همج رعاع و هذه الرواية تبين ذلك ، و بالتالي فلا تدل هذه الروايات على ولاية الفقيه و إنما مضمونها عقائدي تماما
(3) عن أمير المؤمنين (ع) : (( إن لله نهرا دون عرشه و دون النهر الذي دون عرشه نور نوره و إن في حافتي النهر نورين مخلوقين روح القدس و روح من أمره ، و إن لله سبحانه و تعالى عشر طينات )) فالطينات متعددة لا واحدة (( خمسة من الجنة و خمسة من الأرض (( طين الجنة جنة عدن و جنة المأوى و جنة النعيم و الفردوس و الخلد )) فالرواية تشير إلى مراتب النعيم و ليست تشير إلى حقيقة واحدة (( و طين الأرض مكة و المدينة و الكوفة و بيت المقدس و الحائر )) فهذه الأماكن الخمسة نجد لها أحكاما تشريعية خاصة في الفقه الإسلامي (( قال: ثم قال : ما من نبي ولا ملك من بعده بله )) أي خلقه (( إلا نفخ فيه من إحدى الروحين )) إما روح القدس أو روح من أمره (( و جعل النبي (ص) من إحدى الطينتين ، قلت لأبي الحسن الأول (ع) : أنتم مم خلقتم؟ فقال : إن الله عز و جل خلقنا من العشر طينات )) فكل الكمالات موجود استعداداتها فيهم (ع) (( و نفخ فينا من الروحين فأطيب بها طيبا )) بخلاف الأنبياء و الملائكة الذين نفخ فيهم من إحدى الروحين فقط ، و الإشكال لا زال قائما بأنه لو لم يخلق من مثل هذه الطينات لما وجدت هذه الاستعدادات ولو جعلها في غيرهم لكان فيه الاستعداد أيضا
- اتضح إلى هنا أن الطينات جميعا ممثلة لما للوجودات في قوس النزول أي تجليات و مظاهر لتلك الحقائق ، و كم لذلك من مثال ، فمثلا يقال في تعبير شرب اللبن في النوم أنه علم و حكمة ، فالحقائق عندما تتبدل نشآتها تتبدل و تتغير صورها أيضا ، و هذا ما سيأتي تحقيقه في مبحث تجسد الأعمال بحيث تتبدل صورتي في هذه النشأة إلى صورة أخرى في النشأة الآخرة بسبب الأعمال التي أعملها (( يوم تبلى السرائر )) ، فهنالك موجودات في النشآت السابقة عندما نزلت إلى عالم المادة صارت ماء عذبا و موجودات صارت ماء ملحا أجاجا
- استعداد النبي محمد (ص) أوسع استعداد فعندما يأتي الفيض يأخذ أوسع مساحة و أكثر فيضا و أكثر رحمة
- سؤال: هذه الصفات التي وجدت في الماء و الطين و سببت اختلاف البشر على قسمين
(1) ما لا مدخلية لها في الثواب و العقاب و الجنة و النار أي لا مدخلية لها في القرب و البعد الإلهي ، فالتراب الأسود يصير إنسانا أسود و التراب الأبيض يصير إنسانا أبيض ، و تراب يصير ذكرا بينما يصير تراب أنثى و لكن كون الإنسان ذكرا أو أنثى طويلا أو قصيرا أو غير ذلك لا مدخلية له بالتكاليف الإلهية المؤدية إلى القرب و البعد الإلهي ببرهان العقل و صريح القرآن القائل (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ، و في الميزان ج1 ص104 أن رجلا سأل الصادق (ع) عن القضاء و القدر (( ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه و ما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله )) يقول الله للعبد لم عصيت لم فسقت لم شربت الخمر لم زنيت و لا يقول له يوم القيامة لما ابيضضت لما اسوددت لما قصرت لأنه من فعل الله ، فلا أثر لذلك في القرب الإلهي ، و هنا سؤال : إذن ما فائدة التفاوت و الاختلاف لو لم يكن له مدخلية في القرب الإلهي؟ الجواب: يجيب البرهان العقلي بأن المقدمات مختلفة فتكون النتائج مختلفة ، فالطينات مختلفة ، و النقل يذكر أن آدم أشكل هذا الإشكال على الله تعالى ، ج5 من البحار ص226 قال الراوي سمعت أبا جعفر (ع) يقول : (( إن الله عز و جل لما أخرج ذرية آدم (ع) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق له بالربوبية و بالنبوة لكل نبي و كان أول من أخذ عليهم الميثاق بالنبوة نبوة محمد (ص) ثم قال الله جل جلاله لآدم (ع) انظر ماذا ترى فنظر آدم إلى ذريته و هم ذر قد ملؤوا السماء فقال آدم يا رب ما أكثر ذريتي و لأي أمر خلقتهم فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟!)) و هذا سؤال مرتبط بفلسفة الخلق و قد بينا فيما سبق أن الله خلق كل ما في العالم لأجل الإنسان و لكننا لم نبين لماذا خلق الإنسان (( فقال الله عز و جل ليعبدونني ولا يشركون بي شيئا و يؤمنون برسلي و يتبعونهم ، قال آدم (ع) فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض و بعضهم له نور قليل و بعضهم ليس له نور و بعضهم له نور كثير ، قال الله عز و جل كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم )) فالحكمة من الاختلاف هو الامتحان (( قال آدم : يا رب فتأذن لي بالكلام فأتكلم . قال الله جل جلاله : تكلم فإن روحك من روحي و طبيعتك )) أي بدنك بقرينة (( من خلاف كينونتي )) فكينونتي غير مادية و أنت قبضة من الطين و روح نفخت فيه من روحي (( قال آدم : يا رب لو كنت خلقتهم على مثال واحد و قدر واحد و طبيعة واحدة و جبلة واحدة و ألوان واحدة و أعمار واحدة و أرزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض و لم يكن بينهم تحاسد و لا تباغض ولا اختلاف في شيء من الأشياء . )) فقال الله جل جلاله كما قال لغيره من الأنبياء : إني أعظك أن تكون من الجاهلين (( فقال الله : يا آدم بروحي نطقت و بضعف طبعك )) أي مادتك و بدنك (( تكلفت ما لا علم لك به و أنا الله الخلاق العليم بعلمي خالفت بين خلقهم و بمشيتي أمضي فيهم أمري و إلى تدبيري و تقديري هم صائرون لا تبديل لخلقي و إنما خلقت الجن و الإنس ليعبدون و خلقت الجنة لمن عبدني و أطاعني منهم و اتبع رسلي ولا أبالي و خلقت النار لمن كفر بي و عصاني و خلقتك و خلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك و إليهم و إنما خلقتك و خلقتهم لأبلوك و أبلوهم أيكم أحسن عملا في دار الدنيا في حياتكم و قبل مماتكم و كذلك خلقت الدنيا و الآخرة و الحياة و الطاعة و المعصية و الجنة و النار و كذلك أردت في تقديري و تدبيري و بعلم نافذ فيهم خالفت بين صورهم و أجسامهم و ألوانهم و أعمارهم و أرزاقهم و طاعتهم و معصيتهم فجعلت منهم السعيد و الشقي و البصير و الأعمى و القصير و الطويل و الجميل و الذميم و العالم و الجاهل و الغني و الفقير و المطيع و العاصي و الصحيح و السقيم )) و الحكمة ما هي؟ قال (( فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته و ينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني و يسألني أن أعافيه و يصبر على بلائه فأثيبه جزيل عطائه )) فلو لم يخلق العافية و المرض لما وصل الإنسان إلى كمال الشكر و بالتالي ينبغي أن يكون هنالك اختلاف و تفاوت (( و ينظر الغني إلى الفقير فيحمدني و يشكرني و ينظر الفقير إلى الغني فيدعوني و يسألني و ينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء و الضراء وفيما عافيتهم و فيما ابتليتهم وفيما أعطيتهم وفيما أمنعهم و أنا الله الملك القادر ، و لي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت و إلي أن أغير عن ذلك ما شئت إلى ما شئت )) فعندما وضع القوانين هو المالك لها و هو القادر على ما عليه أقدرها (( فأقدم من ذلك ما أخرت و أؤخر من ذلك ما قدمت و أنا الله الفعال لما أريد لا أسأل عما أفعل و أنا أسأل خلقي عما هم فاعلون )) فتبين أن النوع الأول من الصفات تؤثر في اختلاف الموجودات ولا أثر لها في القرب و البعد الإلهي ، وإنما صار التفاوت لأن الغني بغناه يتكامل و الفقير بفقره يتكامل و الضرير بفقدانه البصر يتكامل و البصير ببصره يتكامل و هكذا (ملخص الجواب: خلقهم متفاوتين لأن الأرض هذه خصوصياتها أولا و لأن هذا الاختلاف ضمن النظام الأحسن و الحكمة الإلهية لأنها موصلة للإنسان إلى كماله المطلوب له)
(2) صفات لها مدخلية في القرب الإلهي
- مقدمة للنقطة (2) فوق التي سندخل فيها في الدرس القادم: خلق الله ما في السماوات و الأرض لأجل الإنسان ، فالإنسان إذا أراد أن يصل إلى كماله المطلوب يحتاج إلى أدوات و وسائل ، و قد سخرت له هذه الوسائل في السماوات و الأرضين لكي يصل إلى كماله ، فكل ما في السماوات و الأرض مسخر لهدف واحد هو وصول الإنسان إلى كماله وهو القرب الإلهي ، و قد دلت النصوص الكثيرة من روايات و أحاديث قدسية على ذلك كقوله تعالى (( و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه )) و قوله سبحانه (( الله الذي خلق السماوات و الأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار و سخر لكم الشمس و القمر دائبين و سخر لكم الليل و النهار و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )) فأعطى الله الإنسان كل ما يحتاج إليه و كل ما سأل ، نعم ليس المراد من السؤال هنا الدعائي بل سؤال احتياجات الفطرة للوصول إلى الكمال اللائق بالإنسان و هذا مطلب واضح لا يحتاج إلى وقوف
- الإنسان أنقص موجود من حيث الإيجاد بمعنى أنه يحتاج أن يهيئ طعامه و لباسه بخلاف الحيوانات التي تجد طعامها و لباسها جاهزا في الطبيعة كما أن الحيوانات عندها في غرائزها ما يهديها و بالتالي لا نجد النملة أو النحلة تشتبه إلى تدبير أمورها و لكن الإنسان يشتبه و لهذا قال تعالى : (( و لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين )) فأسفل سافلين بلحاظ مراتب الوجود لا الملكات المعنوية ، فالإنسان هو الذي يستطيع أن يكون الممثل للصادر الأول و له الخلافة العظمى على كل شيء في العالم (لكن ليس كل إنسان) ، إلا أنه يوجد لا يعلم شيئا (( و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا )) هذا في الجانب النظري و في الجانب العملي يوجد و هو لا يملك ملكات عملية

الدرس الثامن و الخمسون


· الإنسان الكامل هو المحور

- سؤال: عندما قلنا أن الإنسان هو محور كل شيء و أن كل شيء مسخر له للوصول إلى كمال فما هو الإنسان الذي نقصده هنا؟ و ما هو الإنسان الذي هو محور للكون و لكل شيء؟
- جواب: لأفراد الإنسان محور لولاه لما وجد هؤلاء الناس ، فالإنسان الذي هو المحور هو الذي عبرت عنه الحديث القدسي (( لولاك لما خلقت الأفلاك )) ، فغاية خلقة الإنسان هو وصوله إلى القرب الإلهي و إنما إنسانيته بقربه من الله تعالى لا بأكله ولا بشربه ولا بغير ذلك ، فغاية وجود الأشياء أن تسهل للإنسان الوصول إلى القرب الإلهي ، و غاية خلق الإنسان نفسه الوصول إلى القرب الإلهي ، و لهذا القرب الإلهي درجات المطلوب منها بالذات هو الدرجة الأخيرة لا المتوسطة و قد خلق كل الإنسان كي يسعى للوصول إلى هذه الدرجة الأخيرة ، و هذه الدرجة الأخيرة متعددة فإذن (( لولاك لما خلقت الأفلاك )) فهو [رسول الله (ص)] أول في قوس النزول و آخر في قوس الصعود أي أن أقصى ما يمكن لممكن الوصول إليه هو المطلوب بالذات ، فمحور الناس جميعا هو الإنسان الكامل ، فكل الأشياء في خدمة الإنسان و كل الناس في خدمة الإنسان الكامل كي يصل إلى مقام قاب قوسين أو أدنى (لكن هل يصل إلى هذا المقام موجود واحد أم أكثر؟ هذا بحث سيأتي)
- سؤال: لماذا خلق الله الكافر؟ الجواب: خلق الكافر من أجل المؤمن (ولم يجعله كافرا) لأن هناك ثواب للمؤمن هو الجهاد في سبيل الله ولا يستطيع المؤمن أن يحصل هذا الثواب إلا إذا كان هنالك كافر ، و بنفس المعنى خلق الله جميع المؤمنين كي يصل الإنسان الكامل إلى أعلى مقامات القرب الإلهي لأن النبي مثلا لا يمكن أن يحصل على ثواب إبلاغ الشريعة و إيصال الناس إلى كمالاتهم و تحمل أذاهم (( ما أوذي نبي مثلما أوذيت )) إلا أن يكون هنالك بشر مخلوقون ، و من هنا يتبين أن رسول الله (ص) عندما يعمل فإنما يعمل لنفسه ، و قد ذكر علماؤنا قاعدة أن العالي لا يعمل للداني ، فعمله من أجل الناس بالعرض و لكن بالذات عمله لنفسه (( إن لك مقاما لا تناله إلا بالشهادة )) فتحصيله للكمال يستلزم فعلا ، و المقصود له من الفعل لا الفعل نفسه و إنما رقي الفاعل ، و قد ذكر في محله من الفلسفة أن الإحسان إلى الفقير ليس المقصود منه بالذات الإحسان إلى الفقير بل رفع الألم الحاصل عند المحسن من معاناة الفقير ، فالرسول (ص) لا يعمل لغيره بالذات شيئا و كل ما يعمله فإنما يعمله لنفسه لأن درجات الكمال لا متناهية ، وهنا يتبين الفرق بين النظرية التي تقول أنهم لا يعملون للتكامل و النظرية التي تقول بأنهم لا يعملون إلا للتكامل
- ليس معنى (( لولاك لما خلقت الأفلاك )) أن الله خلق الرسول في أعلى المراتب ثم خلق الخلق لأجله بل معناه أن الأشياء إنما خلقت لكي تعينك في الصعود إلى الله ، فهو (ص) كما قال (( أنا الأول أنا الآخر )) الأول بمعنى الصادر الأول في قوس النزول ، و الآخر بمعنى أنه صعد في قوس الصعود صعودا لم يصعده غيره ، و هذا معنى ما ورد في الزيارة الجامعة (( بكم فتح الله و بكم يختم )) و في الرواية (( كل أول غيره ليس بآخر و كل آخر غيره ليس بأول )) ففقط هو أول و آخر ، و أما غيره تعالى كالرسول و أمير المؤمنين أوليته غير آخريته ، فلا ثواب ولا عقاب في أوليته و لكن هنالك ثواب و عقاب في آخريته ، و الله تعالى قوس النزول منه و قوس الصعود إليه فإذا أخذ بالاعتبار الأول فهو أول و إذا أخذ بالاعتبار الثاني فهو آخر ، فإنما هو تعالى أول و آخر بالنسبة إلي لا في واقع الأمر ، و لهذا لم يجعل أئمة أهل البيت (ع) صفات الأول و الآخر من صفاته الذاتية سبحانه و تعالى لأنها صفات مرتبطة بالخلق لا الخالق
- من هنا يتبين أنه كلما كثر من يؤمن برسالة الرسول و كلما زاد عدد المؤمنين به كلما زاد ذلك في تكامله فهنالك فرق بين ما لو اتبعه عشرة أو عشرة مليارات ، فلو لم يخلق هؤلاء المسلمون لما وصل (ص) إلى مقام قاب قوسين أو أدنى ، و بهذا يتبين أن الناس جميعا خلقوا من أجله (ص) ، و برهان ذلك العقلي أن الأعلى لا يعمل من أجل الأدنى و هو موكول إلى الأبحاث الفلسفية ، و أما دليله في الروايات فكما يلي:
(1) بحار الأنوار ج15 ص28 وهي رواية طويلة نقرأ منها بعض المقاطع لإثبات المحورية و فيها إشارة إلى أصول كثيرة ذكرناها فيما سبق ، عن ابن عباس (( لما أراد الله أن يخلق محمدا صلى الله عليه وآله قال لملائكته : إني أريد أن أخلق خلقا أفضله وأشرفه على الخلائق أجمعين ، وأجعله سيد الأولين والآخرين ، وأشفعه فيهم يوم الدين ، فلولاه ما زخرفت الجنان ، ولا سعرت النيران فاعرفوا محله وأكرموه لكرامتي وعظموه لعظمتي ، فقالت الملائكة : إلهنا وسيدنا وما اعتراض العبيد على مولاهم ؟ ! سمعنا وأطعنا ، فعند ذلك أمر الله تعالى جبرئيل وملائكة الصفيح الأعلى وحملة العرش فقبضوا تربة رسول الله صلى الله عليه وآله من موضع ضريحه )) و قد أشرنا في رواية في الدرس السابق إلى أن خمسة مواضع هي تراب الأرض منها المدينة و بينا أن المدينة ليس هذه المدينة و إنما المقصود منها معنى خاص (( وقضى أن يخلقه من التراب و يميته في التراب ويحشره على التراب ، فقبضوا من تربة نفسه الطاهرة قبضة طاهرة لم يمش عليها قدم مشت إلى المعاصي ، فعرج بها الأمين جبرئيل فغمسها في عين السلسبيل ، حتى نقيت كالدرة البيضاء فكانت تغمس كل يوم في نهر من أنهار الجنة )) و هذه ليست الجنة و النار التي نصعد إليها في قوس الصعود و إنما هي في قوس النزول (( وتعرض على الملائكة ، فتشرق أنوارها فتستقبلها الملائكة بالتحية والإكرام .. إلى أن قال (( وشرفه قبل خلق آدم عليه السلام ، ولما خلق الله آدم عليه السلام سمع في ظهره نشيشا كنشيش الطير وتسبيحا وتقديسا ، فقال آدم : يا رب وما هذا ؟ فقال : يا آدم هذا تسبيح محمد العربي ، سيد الأولين والآخرين ، فالسعادة لمن تبعه وأطاعه ، والشقاء لمن خالفه ، فخذ يا آدم بعهدي ولا تودعه إلا الأصلاب الطاهرة من الرجال والأرحام من النساء الطاهرات الطيبات العفيفات ، ثم قال آدم عليه السلام : يا رب لقد زدتني بهذا المولود شرفا ونورا وبهاء ووقارا ، وكان نور رسول الله صلى الله عليه وآله في غرة آدم كالشمس في دوران قبة الفلك ، أو كالقمر في الليلة المظلمة ، وقد أنارت منه السماوات والأرض والسرادقات والعرش والكرسي ، وكان آدم عليه السلام إذا أراد أن يغشى حواء أمرها أن تتطيب وتتطهر ، ويقول لها : الله يرزقك هذا النور ويخصك به فهو وديعة الله وميثاقه ، فلا يزال نور رسول الله صلى الله عليه وآله في غرة آدم عليه السلام )) ثم تتمة الرواية عن أمير المؤمنين (ع) قال : (( كان الله ولا شيء معه فأول ما خلق نور حبيبه محمد صلى الله عليه وآله قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماواتوالأرض و اللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وآدم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة ألف عام )) كثير يأتي ذكر السنة في هذه الروايات و سنبحث معنى السنين في نشأة التجرد إذ أن السنين مرتبطة بنشأة المادة فما معنى ذكرها في نشأة التجريد؟ (( فلما خلق الله تعالى نور نبينا محمد صلى الله عليه وآله بقي ألف عام بين يدي الله عز وجل واقفا "يسبحه ويحمده، والحق تبارك وتعالى ينظر إليه ويقول: يا عبدي أنت المراد والمريد )) لأنه في قوس النزول هو المراد و لكن في قوس الصعود هو المريد لأنه يريد أن يصعد (( وأنت خيرتي من خلقي، وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت الأفلاك من أحبك أحببته ومن أبغضك أبغضته فتلألأ نوره وارتفع شعاعه فخلق الله منه اثني عشر حجابا أولها حجاب القدرة ثم حجاب العظمة ثم حجاب العزة ثم حجاب الهيبة ثم حجاب الجبروت ثم حجاب الرحمة ثم حجاب النبوة ثم حجاب الكبرياء ثم حجاب المنزلة ثم حجاب الرفعة ثم حجاب السعادة ثم حجاب الشفاعة ثم إن الله تعالى أمر نور رسول الله صلى الله عليه وآله أن يدخل في حجاب القدرة فدخل وهو يقول: (سبحان العلي الاعلى) وبقي على ذلك اثنى عشر ألف عام، ثم أمره أن يدخل في حجاب العظمة فدخل وهو يقول: (سبحان عالم السر وأخفى) أحد عشر ألف عام، ثم دخل في حجاب العزة وهو يقول: (سبحان الملك المنان) عشرة آلاف عام، ثم دخل في حجاب الهيبة وهو يقول: (سبحان من هو غني لا يفتقر) تسعة آلاف عام، ثم دخل في حجاب الجبروت وهو يقول: (سبحان الكريم الاكرم) ثمانية آلاف عام، ثم دخل في حجاب الرحمة وهو يقول: (سبحان رب العرش العظيم) سبعة آلاف عام، ثم دخل في حجاب النبوة وهو يقول: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) ستة آلاف عام، ثم دخل في حجاب الكبرياء و هو يقول: (سبحان العظيم الاعظم) خمسة آلاف عام، ثم دخل في حجاب المنزلة وهو يقول: (سبحان العليم الكريم) أربعة آلاف عام، ثم دخل في حجاب الرفعة وهو يقول: (سبحان ذي الملك والملكوت) ثلاثة آلاف عام، ثم دخل في حجاب السعادة وهو يقول: (سبحان من يزيل الأشياء ولا يزول) ألفي عام، ثم دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) ألف عام )) قال الامام علي بن ابي طالب عليه السلام: ثم إن الله تعالى خلق من نور محمد صلى الله عليه وآله عشرين بحرا "من نور، في كل بحر علوم لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم قال لنور محمد صلى الله عليه وآله: أنزل في بحر العز فنزل، ثم في بحر الصبر، ثم في بحر الخشوع، ثم في بحر التواضع، ثم في بحر الرضا، ثم في بحر الوفاء، ثم في بحر الحلم، ثم في بحر التقى، ثم في بحر الخشية، ثم في بحر الانابة، ثم في بحر العمل )) التفتوا جيدا إلى بحر العمل (( ثم في بحر المزيد، ثم في بحر الهدى، ثم في بحر الصيانة، ثم في بحر الحياء، حتى تقلب في عشرين بحرا "، فلما خرج من آخر الابحر قال الله تعالى: يا حبيبي ويا سيد رسلي، ويا أول مخلوقاتي ويا آخر رسلي أنت الشفيع يوم المحشر، فخر النور ساجدا "، ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف وأربعة وعشرين ألف قطرة، فخلق الله تعالى من كل قطرة من نوره نبيا من الأنبياء )) و بهذا يتضح أن للأنبياء من أولي العزم نور في درجة أدنى من نور رسول الله (ص) ، فوجود الأنبياء المادي في نشأتنا من هذه القطرات و تتفاوت فيما بينها فبعضه نوره ضعيف و بعضه نوره ضعيف ، و من هنا يتبين معنى قول العرفاء أن الأنبياء جميعا مراتب تلك الحقيقة أي مراتب الصادر الأول (( فلما تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمد صلى الله عليه وآله كما تطوف الحجاج حول بيت الله الحرام، وهم يسبحون الله ويحمدونه ويقولون سبحان من هو عالم لا يجهل سبحان من هو حليم لا يعجل سبحان من هو غني لا يفتقر) فناداهم الله تعالى: تعرفون من أنا ؟ فسبق نور محمد صلى الله عليه وآله قبل الانوار ونادى: (أنت الله الذي لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، رب الارباب، وملك الملوك) فإذا بالنداء من قبل الحق: أنت صفيي، وأنت حبيبي، وخير خلقي، أمتك خير أمة أخرجت للناس ، ثم خلق من نور محمد صلى الله عليه وآله جوهرة وقسمها قسمين ، فنظر إلى القسم الأول بعين الهيبة فصار ماء عذبا ، ونظر إلى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منها العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، وخلق من نور الكرسي اللوح، وخلق من نور اللوح القلم، وقال له: اكتب توحيدي، فبقي القلم ألف عام سكران من كلام الله تعالى، فلما أفاق قال: اكتب، قال: يا رب وما أكتب ؟ قال: اكتب: لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فلما سمع القلم اسم محمد صلى الله عليه وآله خر ساجدا ، وقال: سبحان الواحد القهار، سبحان العظيم الاعظم، ثم رفع رأسه من السجود وكتب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ، ثم قال: يا رب ومن محمد الذي قرنت اسمه باسمك وذكره بذكرك ؟ قال الله تعالى له: يا قلم فلولاه ما خلقتك، ولا خلقت خلقي إلا لاجله ، فهو بشير ونذير، (1) فخلق منه وسراج منير، وشفيع وحبيب، فعند ذلك انشق القلم من حلاوة ذكر محمد صلى الله عليه وآله، ثم قال القلم: السلام عليك يا رسول الله، فقال الله تعالى: وعليك السلام مني ورحمة الله وبركاته، فلأجل هذا صار السلام سنة، والرد فريضة، ثم قال الله تعالى: اكتب قضائي وقدري، وما أنا خالقه إلى يوم القيامة، ثم خلق الله ملائكة يصلون على محمد وآل محمد، ويستغفرون لامته إلى يوم القيامة، ثم خلق الله تعالى من نور محمد صلى الله عليه وآله الجنة، وزينها بأربعة أشياء: التعظيم، والجلالة، والسخاء، والامانة، وجعلها لاوليائه وأهل طاعته، ثم نظر إلى باقي الجوهرة بعين الهيبة فذابت، فخلق من دخانها السماوات، ومن زبدها الارضين، فلما خلق الله تبارك وتعالى الارض صارت تموج بأهلها كالسفينة، فخلق الله الجبال فأرساها (1) بها، ثم خلق ملكا "من أعظم ما يكون في القوة فدخل تحت الارض، ثم لم يكن لقدمي الملك قرار فخلق الله صخرة عظيمة وجعلها تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار فخلق لها ثورا "عظيما "لم يقدر أحد ينظر إليه لعظم خلقته وبريق عيونه، حتى لو وضعت البحار كلها في إحدى منخريه ما كانت إلا كخردلة ملقاة في أرض فلاة، فدخل الثور تحت الصخرة وحملها على ظهره وقرونه، واسم ذلك الثور لهوتا، ثم لم يكن لذلك الثور قرار فخلق الله له حوتا "عظيما "، واسم ذلك الحوت به موت. فدخل الحوت تحت قدمي الثور فاستقر الثور على ظهر الحوت (2)، فالارض كلها على كاهل الملك، والملك على الصخرة، (1) من أرسى الوتد في الارض: ضربه فيها، وذلك إشارة إلى قوله تعالى: (والجبال أوتادا)، أو المعنى أثبتها به، كما يثبت السفينة بالدسر والمسامير لئلا تنفسخ أجزاؤها. وتتفرق كل جزء منها في الجو. (2) قد ورد هذا التفصيل في أخبار من العامة، ولعل مصنف الانوار أخذه من طريقهم، وهو يخالف العلم الحاصل لنا من القرآن العظيم وأخبار النبي والولى عليهم صلوات الله وسلامه و غيرهما الذى يدل على أن الارض قائمة بنفسها غير محمولة ولا موضوعة على شئ، تتحرك في الفضاء، كما يشير إليه قوله تعالى: (والجبال أوتادا) إذ لو كانت مثبتة على شئ لما احتاجت إلى وتد، وكقوله تعالى: (وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم) أو (أن تميد بهم) كما في سورة الانبياء وكقوله تعالى: (ألم نجعل الارض مهادا "والجبال أوتادا ") وغير ذلك من الايات الدالة على ذلك، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نور السماوات والارضين وفاطرهما ومبتدعهما بغير عمد خلقهما فاستقرت الارضون بأوتادها فوق الماء) وقال في دعاء وداع شهر رمضان: وبسط الارض والصخرة على الثور، والثور على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الهواء، والهواء على الظلمة، ثم انقطع علم الخلائق عما تحت الظلمة، ثم خلق الله تعالى العرش من ضياءين: أحدهما الفضل والثاني العدل، ثم أمر الضياءين فانتفسا بنفسين، فخلق منهما أربعة أشياء: العقل والحلم والعلم والسخاء، ثم خلق من العقل الخوف، وخلق من العلم الرضا، ومن الحلم المودة، ومن السخاء المحبة، ثم عجن هذه الاشياء في طينة محمد صلى الله عليه وآله، ثم خلق من بعدهم أرواح المؤمنين من امة محمد صلى الله عليه وآله، ثم خلق الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والضياء والظلام وسائر الملائكة من نور محمد صلى الله عليه وآله، فلما تكاملت الانوار سكن نور محمد تحت العرش ثلاثة وسبعين ألف عام، ثم انتقل نوره إلى الجنة فبقي سبعين ألف عام، ثم انتقل إلى سدرة المنتهى فبقي سبعين ألف عام، ثم انتقل نوره إلى السماء السابعة، ثم إلى السماء السادسة، ثم إلى السماء الخامسة، ثم إلى السماء الرابعة، ثم إلى السماء الثالثة، ثم إلى السماء الثانية، ثم إلى السماء الدنيا، فبقي نوره في السماء الدنيا إلى أن أراد الله تعالى أن يخلق آدم عليه السلام أمر جبرئيل عليه السلام أن ينزل إلى الارض ويقبض منها قبضة، فنزل جبرئيل فسبقه اللعين إبليس فقال للارض: إن الله تعالى يريد أن يخلق منك خلقا "ويعذبه بالنار، فإذا أتتك ملائكته فقولي: أعوذ بالله منكم أن تأخذوا مني شيئا يكون للنار فيه نصيب (1)، فجاءها جبرئيل عليه السلام فقالت: إني اعوذ بالذي أرسلك أن تأخذ مني شيئا "، فرجع جبرئيل ولم يأخذ منها شيئا "، فقال: يا رب قد استعاذت بك مني فرحمتها، فبعث ميكائيل فعاد كذلك، ثم أمر إسرافيل فرجع كذلك، فبعث عزرائيل فقال: وأنا أعوذ بعزة الله أن أعصي له أمرا "، فقبض قبضة من أعلاها و أدونها وأبيضها وأسودها وأحمرها وأخشنها وأنعمها (1)، فلذلك اختلفت أخلاقهم وألوانهم، فمنهم الابيض والاسود والاصفر، فقال له تعالى: ألم تتعوذ منك الارض بي، فقال: نعم، لكن لم ألتفت له فيها، وطاعتك يا مولاي أولى من رحمتي لها ، فقال له الله تعالى: لم لا رحمتها كما رحمها أصحابك ؟ قال: طاعتك أولى ، فقال: اعلم أني أريد أن أخلق منها خلقا أنبياء وصالحين وغير ذلك ، وأجعلك القابض لأرواحهم، فبكى عزرائيل عليه السلام فقال له الحق تعالى: ما يبكيك ؟ قال: إذا كنت كذلك كرهوني هؤلاء الخلائق ، فقال: لا تخف إني أخلق لهم عللا فينسبون الموت إلى تلك العلل )) و من هنا يتبين أن تعبير العلل لم يدخل بعد الترجمة و إنما هو وارد في الروايات (( ثم بعد ذلك أمر الله تعالى جبرئيل عليه السلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي كانت أصلا "، فأقبل جبرئيل عليه السلام ومعه الملائكة الكروبيون والصافون والمسبحون، فقبضوها من موضع ضريحه وهي البقعة المضيئة المختارة من بقاع الأرض ، فأخذها جبرئيل من ذلك المكان فعجنها بماء التسنيم وماء التعظيم وماء التكريم وماء التكوين وماء الرحمة وماء الرضا وماء العفو، فخلق من الهداية رأسه، ومن الشفقة صدره، ومن السخاء كفيه، ومن الصبر فؤاده، ومن العفة فرجه، ومن الشرف قدميه، ومن اليقين قلبه، ومن الطيب أنفاسه، ثم خلطها بطينة آدم عليه السلام، فلما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أوحى إلى الملائكة: (إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) فحملت الملائكة جسد آدم عليه السلام ووضعوه على باب الجنة وهو جسد لا روح فيه، والملائكة ينتظرون متى يؤمرون بالسجود، وكان ذلك يوم الجمعة بعد الظهر، ثم إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لادم عليه السلام فسجدوا إلا إبليس لعنه الله، ثم خلق الله بعد ذلك الروح وقال لها: ادخلي في هذا الجسم، فرأت الروح مدخلا "ضيقا "فوقفت، فقال لها: ادخلي كرها "، واخرجي كرها "، قال: فدخلت الروح في اليافوخ إلى العينين، فجعل ينظر إلى نفسه، فسمع تسبيح أي الينها. تسنيم قيل: هو عين في الجنة رفيعة القدر، وفسره في القرآن بقوله: (عينا يشرب بها المقربون). اليافوخ واليأفوخ: الموضع الذى يتحرك من رأس الطفل، وهو فراغ بين عظام جمجمته في مقدمتها وأعلاها لا يلبث أن تلتقي فيه العظام

· ملاحظة بالنسبة للرواية السابقة التعبير بالنور و السنين و غيرها من التعبيرات أولها بعض العلماء من باب قصور التعبيرات اللغوية عن التعبير عن تلك الوجودات في تلك النشأة
الدرس التاسع و الخمسون


· الدرس السابق:

- محور عالم الإمكان هو الإنسان و محور الإنسان هو الإنسان الكامل
- لا بد أن يوجد الله تعالى في العالم المادي من هو مظهر و ممثل للصادر الأول بحسب مقتضى قوله تعالى (( و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم )) و ثانيا لكي يبين أنه من الممكن أن يصل إنسان إلى هذا المقام فيكون القدوة و الأسوة ، فلا بد أن يوجد في النظام الأحسن موجود يصل إلى مقام (( فدنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ))
- لا يسمى الموجود الأكمل في قوس النزول بمحمد و علي و فاطمة فهذه الأسماء ليست موجودة في قوس النزول ، و لكنها تظهر في قوس الصعود ، و سيتبين سبب تكثر الصادر الأول في قوس الصعود
- بينا بعض الروايات التي تشير إلى هذه الحقيقة من قبيل (( لولاك لما خلقت الأفلاك )) و (( أنا الأول أنا الآخر ))
- بينا في الدرس السابق ما يتعلق بخاتمية الرسالة و بقي أن نبين ما يتعلق بخاتمية الولاية

· خاتمية الولاية

- البحار ج18 ص398 رواية طويلة منها (( لما زوج رسول الله (ص) عليا فاطمة تحدثن نساء قريش و عيرنها و قلت زوجك رسول الله من عائل لا مال له فقال رسول الله (ص) يا فاطمة اما ترضين إن الله تبارك و تعالى اطلع اطلاعة إلى الأرض فاختار منها رجلين أحدهما أبوك و الآخر بعلك يا فاطمة كنت أنا و علي نورا بين يدي الله مطيعين من قبل أن يخلق الله آدم فلما خلق آدم قسم ذلك النور بجزأين جزء أنا ثم جزء علي معاشر الناس إن الله قد اختارني من خلقه فبعثني إليكم رسولا و اختار لي عليا خليفة ووصيا ، معاشر الناس إني لما أسري بي إلى السماء )) أي في قوس الصعود (( فما مررت بملأ من الملائكة في سماء من السماوات إلا سألوني عن علي بن أبي طالب (ع) و قالوا يا محمد إذا رجعت إلى الدنيا فاقرأ عليا و شيعته منا السلام فلما وصلت إلى السماء السابعة و تخلف عني جميع من كان معي من ملائكة السماوات و جبرئيل و الملائكة المقربين ووصلت إلى حجب ربي )) و لتقس هذه الرواية في قوس الصعود بالرواية التي ذكرناها في قوس النزول ستجد أن في قوس النزول حجب يجب تجاوزها نفسها في قوس الصعود (( قال وصلت إلى حجب ربي دخلت سبعين ألف حجاب حتى وصلت إلى حجاب الأغلال فناجيت ربي تبارك و تعالى و قمت بين يديه و تقدم إلي عز ذكره بما أحبه و أمرني بما أراد و لم أسأله لنفسي شيئا و في علي إلا أعطاني ووعدني الشفاعة في شيعته و أوليائه ثم قال لي الجليل جل جلاله يا محمد من تحب من خلقي ، قلت أحب الذي تحبه أنت يا رب )) و هذا هو مقام الفناء يقول أهل المعرفة عندما سئل موسى ماذا بيمينك كان ينبغي أن يقول موسى هي كما تريد لا أن يقول "هي عصاي" فالرسول (ص) يقينا في قلبه حب علي و لكنه لا يقول ذلك في هذا المقام (( فقال لي جل جلاله فأحب عليا فإني أحبه و أحب من يحبه فخررت ساجدا مسبحا شاكرا لربي تبارك و تعالى فقال لي يا محمد علي وليي و خيرتي بعدك من خلقي اخترته لك أخا و وصيا ووزيرا وصفيا و خليفة و ناصرا لك على أعدائي ، يا محمد و عزتي و جلالي لا يناوي عليا جبار إلا قصمته ولا يقاتل عليا عدو من أعدائي إلا هزمته و أبدته )) إلى أن قال (( إنك رسولي إلى جميع خلقي و إن عليا وليي و أمير المؤمنين و على ذلك أخذت ميثاق ملائكتي و أنبيائي و جميع خلقي و هم أرواح من قبل أن أخلق خلقا في سمائي و أرضي محبة مني لك يا محمد و لعلي و لولدكما و لمن أحبكما و كان من شيعتكما و لذلك خلقته من طينتكما ، فقلت إلهي و سيدي فاجمع الأمة على حبه و على مودته ، فأبى علي و قال يا محمد إنه المبتلى و المبتلى به )) فالحكمة في الخلاف هي الابتلاء (( و إني جعلتكم محنة لخلقي أمتحن بكم جميع عبادي )) لكي يثيب من يثيب و يعاقب من يعاقب و إلا فهو تعالى قادر أن يجمع الناس على حبهم و لكن عندئذ لا يكون ثواب ولا عقاب (( و خلقي في سمائي و أرضي و ما فيهن لأكمل الثواب لمن أطاعني فيكم و أحل عذابي و لعنتي على من خالفني فيكم و عصاني و بكم أميز الخبيث من الطيب ، يا محمد و عزتي و جلالي لولاك ما خلقت آدم )) فهدف الخليقة هو الإنسان الكامل (( ولولا علي ما خلقت الجنة ، لأني بكم أجزي العباد يوم المعاد بالثواب و العقاب وبعلي و بالأئمة من ولده أنتقم من أعدائي في دار الدنيا ثم إلي المصير للعباد و المعاد ، ثم انصرفت فجعلت لا أخرج من حجاب من حجب ربي ذي الجلال و الإكرام إلا سمعت النداء من ورائي يا محمد أحبب عليا يا محمد أكرم عليا يا محمد قدم عليا يا محمد استخلف عليا يا محمد أوص إلى علي يا محمد واخ عليا يا محمد أحب من يحب عليا يا محمد استوص بعلي و شيعته خيرا ، فلما وصلت إلى الملائكة جعلوا يهنئوني في السماوات ويقولون هنيئا لك يا رسول الله كرامة لك و لعلي ، معاشر الناس علي أخي في الدنيا و الآخرة ووصيي و أميني على سري وسر رب العالمين ووزيري و خليفتي عليكم في حياتي و بعد مماتي لا يتقدمه أحد غيري و خير من أخلف بعدي و لقد أعلمني ربي تبارك و تعالى أنه سيد المسلمين و إمام المتقين و أمير المؤمنين ووارثي و وارث النبيين و وصي رسول رب العالمين و قائد الغر المحجلين من شيعته و أهل ولايته إلى جنات النعيم )) إلى أن قال (( يبعثه الله يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه به الأولون و الآخرون بيده لواء الحمد يسير به أمامي و تحته آدم و جميع من ولد من النبيين و الشهداء و الصالحين إلى جنات النعيم حتما من الله محتوما من رب العالمين )) فهذا مقام الولاية
- يتبين في الرواية التعدد في قوس الصعود فهنا علي و محمد و لكل منهما مقام

· محل البحث (مطلب دقيق يحتاج إلى تركيز)

· مقدمة : في بطلان الجبر

- الجبر معناه أن الفعل لا يسند إلى الفاعل و إنما هو فعل غيره حقيقة و يسند إليه من باب المجاز
- إذا لم يكن الفاعل هو فاعل الفعل حقيقة فهو لا يستحق عليه مدحا ولا ذما
- رواية قيمة في كتاب (الدعوة الإسلامية) لمحمد حسين كاشف الغطاء ص187 و روي عن أمير المؤمنين حين أتاه يسأله عن معرفة الله قال يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال : بالتمييز الذي خولني و العقل الذي دلني . قال : فمجبول أنت عليه؟ [أي هل هو بإرادتك و اختيارك أم لا؟] قال: لو كنت مجبولا ما كنت محمودا على إحسان و مذموما على إساءة
- الرواية صريحة في أنه لو لم يكن مبدأ الفعل هو الإنسان فلا معنى أن يحمد على فعل حسن أو يذم على فعل قبيح

· دون الجبر

- لو فرضنا أن فعلا ما يقتضي مئة درجة كي يستطيع الفاعل أن يقول به ، فمثلا كي يقتل أمير المؤمنين مرحب يحتاج مئة درجة من الشجاعة و قد جاءت هذه الدرجات من أماكن مختلفة خارجة عن إرادته واختياره (العناية الإلهية ، الطينة ، .. الخ) ، و جزء من هذه الدرجات جاءت من إرادته ، فمثلا جاءت 99% من غير إرادته بل تفضلا و جاء 1% من إرادته ، و لربما قلنا أنه لو أوتي شخص آخر 99% لأضاف إليها هو 1% ، فهذه مرحلة مفروضة دون الجبر ، و نسأل هنا: في هذه الحالة هل يستحق الفاعل أن يمدح على الفعل؟ الجواب: يستحق بمقدار 1% أي ما يعتبر فيه الفاعل مبدأ للفعل
- سؤال: لو لم يعط أهل البيت كل هذا العلم و الاستعداد لما كان لهم تلك الدرجة من الخشية ، فهذه الموجودات (أهل البيت) التي هي محور الوجود هل ما جعلها في هذا المقام هو ما أعطاهم الله تعالى من استعدادات تفضلا منه تعالى مما لا مدخلية لأفعالهم فيه؟ و إذا كان الأمر كذلك فما هو الفرق بين ذلك و بين الجبر؟
- الجواب: لو كان الأمر كذلك لكان جعلهم محور الوجود ترجيح بلا مرجح ، فلو أعطى الله تلك الاستعدادات غيرهم من الخلق لكان هو أيضا محور الوجود ، و الجواب هو : خلق الله تعالى عالم الإمكان و نظمه بحيث لا بد أن يوجد فيه موجود يصل إلى مقام (( قاب قوسين أو أدنى )) فهذا ضمن النظام الأحسن ، و لكن هل عين الله تعالى هذا الموجود الكامل؟ إن قلت نعم لزم الجبر و ما سبق من الإشكاليات ، و إن قلت لم يعنه بحيث قال الله تعالى أريد موجودا في هذا العالم بحيث إذا توفرت فيه شرائط معينة أعطيه إمكانات معينة ، من قبيل من يدير مسابقة و يقول بأن جائزة المسابقة أعطيها لمن يكون الأول في الركض فمدير المسابقة لا يعين شخصا محددا و إنما يقول من أجهد نفسه و صار الأول يستحق هذه الجائزة ، فافترض أن من يعطي الجائزة هو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فهو عالم بمن سيكون الأول في السباق قبل أن يبدأ السباق و عندئذ يكون مقتضى الكمال أن يهيئ له المقدمات للوصل إلى كماله ، و من هنا خلق الله تعالى أهل البيت من طينة معينة و هيأ لهم الاستعدادات المناسبة لوصولهم إلى كمالهم ، فالله تعالى علم أن محمدا و عليا يريدان أن يكونا كذلك فأعطاهم الاستعداد وهيأ لهم المقدمات ، و ليس أن الله أعطاهم الاستعداد فصارا محمدا و عليا ، فمنشأ كمالاتهم هي إرادتهم (ع) ، و بعبارة أوضح : قال الله تعالى بنحو القضية الشرطية إذا أعطيت هذه الاستعدادات فإني أريد هذه النتائج ، و قد رأى في علمه الأزلي أن بعضا من الموجودات ستلتزم بلوازم الاستعدادات التي سيعطيهم إياها فأعطاهم إياها (( فاطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني منها ، ثم اطلع اطلاعة ثانية فاختار منها عليا )) فعلمه سبحانه في الأزل أنه لو أعطى فلانا كذا لفعل كذا فإنه يعطي ، بشهادة أن أئمتنا عندما كانوا يعملون و يتضرعون و يتعبدون كانوا يعلمون علم الغيب و أنهم إلى الفوز صائرين ، و نحن لو أعطينا علم الغيب و عرفنا أننا ناجون لما عملنا ، قال تعالى (( كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا )) فهو يمد من يريد أن يعمل الخير و الشر ، فجعل طينة الأول طاهرة مطهرة و طينة الثاني خبيثة لأنه بعلمه الأزلي علم أن المخلوق يريد ذلك لا لأنه سبحانه يريد ذلك ، و هذا هو المثال الذي ضربناه مثالا كسيارة يقودها الإنسان و الله – و لله المثل الأعلى – يدفعها من الخلف ، فالإنسان هو الذي يوجهها و الله تعالى يمده ، فالله تعالى يمد من يريد أن يكون طاغوتا و فرعونا كي يكون كذلك ، و يمد من يريد أن يكون نبيا كي يصبح كذلك
- مقتضى العدل الإلهي إعطاء كل مستعد ما هو مستعد له ، أي إعطاء كل مريد ما هو مريد له ، فمن يريد الخير يعطيه ما يتناسب مع الخير و من يريد الشر يعطيه ما يتناسب مع الشر كأن يخلقه من طينة خبيثة
- أهل البيت (ع) أرادوا 100% من الكمال في المثال السابق و الله تعالى هيأ لهم الاستعدادات و المدد اللازم للوصل إلى ذلك ، و ليس أنه أعطاهم 99% تفضلا بحيث ليس لهم دخالة في كمالهم .
- ثبت في بحث العلم في التوحيد أن الله تعالى عالم بالأشياء قبل الإيجاد علما ذاتيا تفصيليا هو عين ذاته سبحانه
- الله سبحانه تلطف على عباده بحيث قال بأنه على الرغم من أنني أعلم أنك إلى نهاية حياتك تريد الشر إلا أني لا أسد عليك طريق الخير ففي أي آن تريد أن ترجع إلى الله فالباب مفتوح ، و هذا هو معنى اختلاط الطينتين (الخلط)
- ورد أنه عندما سأل يزيد الإمام زين العابدين (ع) عما إذا كان الطريق مفتوحا إلى التوبة ، فبين له الإمام (ع) أن الطريق مفتوح للتوبة إلا أنه لا يوفق للعمل


الدرس الستون و الواحد و الستون


· الدرس السابق

- حيث أن الله تعالى علم علما أزليا من كل إنسان ما هو فاعله فقد هيأ له تلك الاستعدادات التي تتناسب مع ما يريد أن يفعله ، و بهذا تنتفي شبهة الجبر
- لابد أن نشير إلى نقطة أساسية هي أن كلامنا يدور حول الاستعدادات التي يترتب عليها الثواب و العقاب لا مطلق الاستعدادات ، فقد ميزنا مسبقا بين نحوين من الاستعدادات أولاهما ما له مدخلية في القرب الإلهي والثواب و العقاب و الثاني ما لا مدخلية له في ذلك و كلامنا في القسم الأول منهما

· استدلالات قرآنية على المطلب

- قال تعالى في سورة الجاثية الآية 29 : (( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون )) ففعل الإنسان نسخة من اللوح المحفوظ و هنا نظرتان:
- نظرة (1): عندما ننظر إلى اللوح المحفوظ و إلى زيد مع فعله الذي صدر منه فمن الواضح أن اللوح المحفوظ في قوس النزول متقدم على وجود زيد ووجود فعله في عالم المادة ، ففعل زيد مكتوب في اللوح المحفوظ و الكتابة في اللوح الحفوظ متقدمة على وجود الفعل في عالم المادة ، فإذا قيل بأن فعلي تابع لعلم الله تعالى المكتوب في اللوح المحفوظ فهذه نظرية الجبر
- نظرة (2): لو سألنا الله تعالى لماذا كتبت هذا الفعل لزيد في اللوح المحفوظ؟ الجواب: لأني أعلم بعلمي الذي لا يعزب عنه شيء أن زيدا سيفعل ذلك فعلمي تابع لفعل زيد و ليس فعل زيد هو التابع لما هو في اللوح المحفوظ
- سؤال: ما هو الدليل على وجود العلم التفصيلي في اللوح المحفوظ قبل الإيجاد؟ الجواب: قوله تعالى : ((هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون )) فالاستنساخ يعني أخذ نسخة من الأصل ، فالآية تدل على أن أفعال الناس هي نسخة من الكتاب الذي ينطق بالحق ، بمعنى أن أفعال الناس تابعة لما في اللوح المحفوظ لأنها نسخة لما في اللوح المحفوظ و الأصل هو ما في اللوح المحفوظ ، و هذا يؤيد النظرة الأولى و هي أن فعلنا تابع و ما في اللوح المحفوظ متبوع
- راجع الميزان ج18 ص177 : (( و نسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى ))
- تفسير نور الثقلين ، رواية عن الصادق (ع) قال سألته عن نون و القلم ؟ قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد ، ثم قال للقلم: اكتب، قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أولستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام وأحدكم يقول لصاحبه أنسخ ذلك الكتاب؟ أوليس إنما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ وهو قوله: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعقلون.
- الرواية السابقة إذا أخذت بهذا المضمون فهي جبر واضح لأن فعلي لا يمكن أن يتغير إلا أن يتغير علم الله تعالى أي ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ ، و لكن إذا أخذناها بفهم أن علم الله تعالى تابع لفعل الإنسان ينتفي الجبر فإنما كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ لأنه يعلم أني أريد ذلك لذا يقول (ع) : (( فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها )) يعني إذا نزلنا مرتبة فنفس ذلك الفعل موجود في مرتبة دانية إلا أن النسخة الأصلية في اللوح المحفوظ ، فأعمال الإنسان في النشأة الدنيوية مستنسخة من أصل وهو اللوح المحفوظ ، يقول السيد العلامة تعليقا على هذه الرواية : (( أقول: قوله (عليه السلام): فكتب القلم في رق الخ، تمثيل للوح المكتوب فيه الحوادث بالرق والرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - وقد تقدم الحديث عنه (عليه السلام) أن القلم ملك واللوح ملك ، وقوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان والقوائم وقوله: ثم ختم على فم القلم (الخ) كناية عن كون ما كتب في الرق قضاء محتوما لا يتغير ولا يتبدل، وقوله: أو لستم عربا (الخ) إشارة إلى ما تقدم توضيحه في تفسير الاية )) ثم ينقل رواية أخرى فيقول : (( وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهو الدواة وخلق القلم فقال: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر )) أي عمل يريد أن يعمله البار أو الفاجر (( أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم الزم كل شيء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف؟ ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم )) فهم يأخذون نسخة من اللوح المحفوظ ثم يأتون إلى الدنيا و هم عالمون بالأعمال و إنما يأتون إلى الدنيا كي يطابقوا النسخة التي عندهم مع أعمال الإنسان فإذا صعد الملك يقدم هذا اللوح إلى الملائكة الموكلة لكي يؤكد تطابق عمل الإنسان مع ما في اللوح المحفوظ كما قال تعالى "و ليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم" فالملائكة إنما يأتون إلى الأرض ليطبقوا لا ليكتبوا قال العلامة الطباطبائي ص178 "ويكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة في اللوح على الأعمال" (( فإذا فنى ذلك الرزق انقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال ابن عباس: ألستم قوما عربا؟ تسمعون الحفظة يقولون: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل. أقول: والخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب. وعن كتاب سعد السعود لابن طاووس قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: وفي رواية أنهما إذا أرادا النزول صباحا ومساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا ومساء بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه. وفي الجمع في قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والارض) وفي الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنم. ))
- سؤال: إذا كان الله يعلم منا كل شيء فلماذا كتب ذلك في اللوح؟ الجواب: لأنه علم أننا سنفعله ، فذلك العلم تابع لفعلها و ليس متبوعا و تؤيد ذلك روايات منها
(1) تفسير النعماني، بالإسناد الآتي في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين عقالالضلالة على وجوه فمنه محمود و منه مذموم و منه ما ليس بمحمود و لامذموم و منه ضلال النسيان فأما الضلال المحمود و هو المنسوب إلى الله تعالى كقولهيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُهو ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهمو المذموم هو قوله تعالىوَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّوَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدىو مثل ذلك كثير و أماالضلال المنسوب إلى الأصنام فقوله في قصة إبراهيموَ اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَرَبِّ إِنَّهُنَّأَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِالآية و الأصنام لا يضللن أحدا علىالحقيقة إنما ضل الناس بها و كفروا حين عبدوها من دون الله عز و جل و أما الضلالالذي هو النسيان فهو قوله تعالىأَنْ تَضِلَّ إِحْداهُمافَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرىو قد ذكر الله تعالى الضلال في مواضع منكتابه فمنهم ما نسبه إلى نبيه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانهوَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدىمعناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك و أما الضلال المنسوب إلى الله تعالى الذي هو ضد الهدى و الهدى هو البيان و هومعنى قوله سبحانهأَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْمعناه أ و لمأبين لهم مثل قوله سبحانهفَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمىعَلَى الْهُدىأي بينا لهم و هو قوله تعالىوَ ما كانَاللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مايَتَّقُونَ .. الخ
(2) هذه الرواية من غرائب و متشابهات روايات أهل البيت ورد فيها ((فإني أنا الله لا إله إلا أنا عالم السر و أخفى و أنا المطلع على قلوب عبادي لا أحيف و لا أظلم و لا ألزم أحدا إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه ))
- سؤال: إذا كان الله تعالى عالما أزلا بأفعال العباد و ما يصيرون إليه فلماذا لم يقسمهم بين الجنة و النار و كلفهم بالتكاليف و البلاءات؟
- الجواب: كي يقيم عليهم الحجة البالغة فلا يكون لهم الحجة عليه و هذا ، فابتلى الله تعالى خلقه فعرف منهم ما كان يعلمه منهم ، أي عرف ذلك منهم عملا بعدما كان يعرفه منهم علما ، و هنا يتبين معنى الآية التي تقول أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره و عرض عليهم الميثاق ، و من الروايات التي تحدثت عن الابتلاء و عالم الذر – و سمي ذرا لأن الله أخرج الخلق من آدم كالذر إشارة إلى الكثرة – ما يلي:
(1) ورد عن الأصبغ بن نباتة، عن علي (عليه السلام) قال: (أتاه ابن الكواء فقال: ياأمير المؤمنين أخبرني عن الله تبارك وتعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى ؟ فقال علي (عليه السلام): قد كلم الله جميع خلقه برهم وفاجرهم وردوا عليه الجواب ( فثقل ذلك على ابن الكواء) ولم يعرفه، فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له: أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه : {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ؟ فقد أسمعهم كلامه، وردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله - يا بن الكواء – {قالوا بلى} فقال لهم: إني أنا الله لا إله إلا أنا، وأنا الرحمن، فأقروا له بالطاعة والربوبية، وميز الرسل والأنبياء والأوصياء، وأمر الخلق بطاعتهم، فأقروا بذلك في الميثاق، فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك: شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
- تعليق على الرواية: جميعنا يتذكر نتيجة موقف الميثاق و إن كنا لا نتذكر نفس الموقف ، فنتيجته هي الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها ، نعم هنالك بعض الناس ممن قامت قيامته في هذه الدنيا يمكنه أن يتذكر الموقف في الدنيا و إلا فعموم الناس إنما يتذكره يوم القيامة
(2) عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى (وإذاأخذ ربّك من بني آدم . . .) قلت: معاينة كان هذا؟ قال: نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله (( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل((
(3) بإسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شيء الظلال؟ قال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء ثم بعث معهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله و هو قوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ثم دعوهم إلى الإقرار فأقر بعضهم و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب، و أنكرها من أبغض، و هو قوله: (( وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل )) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب
(4) (حديث مرفوع) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ ، عَنْ أَسْلَمَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَتَادَةَ السُّلَمِيُّ ، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ثُمَّ أَخَذَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ ، فَقَالَ : هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي ، وَهَؤُلاءِ فِي النَّارِ وَلا أُبَالِي ، قَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ ؟ قَالَ : عَلَى مَوَاقِعِ الْقَدَرِ "
- تعليق العلامة الطباطبائي على الرواية: أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي اُمامة المتقدّمة، وقد فهم الرجل من قوله «هؤلاء في الجنّة ولا اُبالي، وهؤلاء في النار ولا اُبالي» سقوط الاختيار، فأجابه (صلى الله عليه وآله): بأنّ هذا قدر منه تعالى وأنّ أعمالنا في عين أنّا نعملها وهي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر وينطبق هو عليها، وذلك أنّ اللّه قدّر ما قدّر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، ويقع مع ذلك ما قدّره اللّه سبحانه، لا أنّه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، ونفي تأثير إرادتنا، والروايات بهذا المعنى كثيرة ـ انتهى كلامه رفع اللّه مقامه ـ
(5) المجلد 15 من البحار ص29 ((فلما تكاملت الانوار صارت تطوف حول نور محمد صلى الله عليه وآله كما تطوف الحجاج حول بيت الله الحرام ، وهم يسبحون الله ويحمدونه ويقولن : ( سبحان من هو عالم لا يجهل ، سبحان من هو حليم لا يعجل ، سبحان من هو غني لا يفتقر ) فناداهم الله تعالى : تعرفون من أنا ؟ فسبق نور محمد صلى الله عليه وآله قبل الانوار ونادى : ( أنت الله الذي لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، رب الارباب ، وملك الملوك ) فإذا بالنداء من قبل الحق : أنت صفيي ، وأنت حبيبي ، وخير خلقي ، امتك خير امة اخرجت للناس )) فإنما حاز رسول الله (ص) هذا المقام بسبقه إلى الجواب
(6) ج18 من البحار ص399 عن الله تعالى (( يا محمد إني اطلعت على قلوب عبادي فوجدت عليا انصح خلقي لك ، وأطوعهم لك ، فاتخذهأخا وخليفة ووصيا ، وزوجه ابنتك .. الخ )) فأمير المؤمنين هو الأنصح باختياره و من هنا اتخذ أخا و خليفة ووصيا
(7) رسالة الطلب و الإرادة تأليف السيد الإمام ص150 عن محمد بن أبي عمير قال : (( سألت أبا الحسن موسى بن جعفر ع عن معنى قول رسول الله ص الشقي من شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه فقال الشقي من علم الله و هو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء و السعيد من علم الله و هو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء قلت له فما معنى قوله ص اعملوا فكل ميسر لما خلق له فقال إن الله عز و جل خلق الجن و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عز و جل وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فيسر كلا لما خلق له فالويل لمن استحب العمى على الهدى )) فيسر الله تعالى لكل إنسان و جعل له الاستعدادات التي تتوافق مع ما يختاره من سعادة أو شقاوة ، فيسر للبعض استعدادات الشقاء و للبعض استعدادات السعادة
(8) البحار ج10 ص170 قال الزنديق: "فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟" قال عليه السلام : "الشريف المطيع والوضيع العاصي"، قال: "أليس فيهم فاضل ومفضول؟" قال عليه السلام : "إنّما يتفاضلون بالتقوى"، قال: "فتقول إنّ كلّ ولد آدم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلّا بالتقوى؟" قال عليه السلام : "نعم إنّي وجدت أصل الخلق التراب، والأب آدم والأم حوّاء خلقهم إله واحد وهم عبيده، إنّ الله عزّ وجلّ اختار من ولد آدم أناساً طهّر ميلادهم، وطيّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم". "فعل ذلك لا لأمر استحقّوه من الله عزّ وجلّ ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وسائر الناس سواء. ألا من اتّقى الله أكرمه ومن أطاعه أحبّه، ومن أحبّه لم يعذّبه بالنار. قال : فاخبرني عن اللّه عزوجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا ؟. قـال (ع ) : لـو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب , لان الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة ولا نار , ولكن خلق خلقه فامرهم بطاعته , ونهاهم عن معصيته , واحتج عليهم برسله , وقطع عذرهم بكتبه , ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون[1] , ويستوجبون[2] بطاعتهم له الثواب , وبمعصيتهم إياه العقاب . قال : فالعمل الصالح منالعبد هو فعله , والعمل الشر من العبد هو فعله ؟. قال (ع ) : العمل الصالح العبد يفعله واللّه به امره , والعمل الشر العبد يفعله واللّه عنه نهاه[3] . قال : اليسفعله بالالة التي ركبها فيه ؟. قال (ع ) : نعم ولكن بالالة التي عمل بها الخير , قدر على الشر الذي نهاه عنه . قال : فإلى العبد من الأمر شي ؟. قال : ما نهاه اللّه عن شي إلا وقد علم انه يطيق تركه , ولا أمره بشي إلا وقد علم انه يستطيع فعله , لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون . قال فمن خلقه اللّه كافرا أيستطيع الايمان وله عليه بتركه الايمان حجة ؟. قـال (ع ) : ان اللّه خـلق خلقه جميعا مسلمين[4] , أمرهم ونهاهم , والكفر اسم يلحق الفاعل حين يفعله العبد[5] , ولميخلق اللّه العبد حين خلقه كافرا , انه انما كفر من بعد ان بلغ ‌وقتا لزمته الحجة من اللّه , فعرض عليه الحق فجحده , فبإنكاره الحق صار كافرا. قـال : أفـيجوز[6] أنيقدر على العبد الشر , ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير ان يعمله , ويعذبه عليه ؟. قال (ع ) : إنـه لا يليق بعدل اللّه ورأفته أن يقدر على العبد الشر ويريده منه[7] , ثم يأمره[8] بما يعلم أنـه لا يـسـتـطيع أخذه , والانزاع عما لا يقدر على تركه , ثميعذبه على تركه أمره الذي علم انـه لا يستطيع أخذه . قال : بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغنى والسعة , و بماذا استحق الفقير التقتير والضيق؟. قال (ع): اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم , والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم . ووجه آخر : أنه عجل لقوم في حياتهم , ولقوم آخر ليوم حاجتهم إليه . ووجـه آخـر : فـإنه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم , ولو كان الخلق كلهم أغنياء لـخربت الدنيا وفسد التدبير , وصار أهلها إلى الفناء , ولكن جعل بعضهم لبعض عونا , وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال وأنواع الصناعات ,وذلك أدوم في البقاء , وأصح في التدبير , ثم اختبر الأغنياء بالاستعطاف على الفقراء , كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يعاب تدبيره .. إلى آخر الرواية و هي رواية مهمة ننصح بقراءتها إلى آخرها في البحار ج10 ص170

[1] في دلالة على حريتهم و اختيارهم

[2] لا بمعنى الوجوب على بل الوجوب عن ، و من هنا سنبين أن معنى العدل بعدما قلنا أنه إعطاء كل مستعد ما هو مستعد له هو إعطاء كل ذي حق حقه ، لأن المستعد سيكون له حق بفعله و استعداده

[3] فالعبد هو الذي يوجد أفعاله حقيقة

[4] أي جعلهم مفطورين على التوحيد

[5] فلا يوجد في قوس النزول كفر ولا إبليس ولا يوجد فيه تزاحم و إنما هو خير محض ، و لكن في قوس الصعود يوجد الكفر و التزاحم

[6] المقصود بالجواز الجواز العقلي لا الشرعي

[7] أي إرادة تكوينية

[8] أي إرادة تشريعية



الدرس 61


· تعليق

- رحم الله صدر المتألهين إذ أنه من حقق مجموعة من المباني الفلسفية التي قام عليها أساس هذا الدين و منها هذا المطلب ، فكما يقول الأستاذ جوادي آملي أنه لولا مدرسة الحكمة المتعالية لما كان للمذهب أساس عقلي ، و إنما وصل صدر المتألهين هذا المقام لشدة تألهه فقد ذهب سبع مرات من شيراز إلى الكعبة المشرفة مشيا و في المرة السابعة قضى نحبه في البصرة و دفن فيها ، و كثير من العلماء أجهدوا أنفسهم لمعرفة قبر هذا الرجل و لم يعرفوا ذلك ، و هو يقول عن نفسه أنه حينما كان معتكفا في قم كان يأتي إلى زيارة المعصومة (ع) إذا أشكلت عليه مسألة و يذكر أمثلة على هذه المسائل ، فالعبادة هي ما أوصله إلى هذا المقام فهو القائل بأن من دق باب الملكوت أوشك أن يفتح له

· تكملة الاستدلالات النقلية السابقة

- الآية 20 في سورة الإسراء (( كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا )) فإذا أنزل من السماء ماء و تلون هذا الماء فإنما يتلون بسبب الاستعدادات ، و لكن ما سبب اختلاف الاستعدادات؟ الجواب: سببه هو اختلاف الإرادات فمن أراد الطاعة هيأ الله تعالى بعلمه الأزلي له الاستعدادا لذلك و من أراد المعصية كذلك ، قال العلامة الطباطبائي في الميزان ج13 ص66 : (( و الله سبحانه و تعالى يمد الإنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنية و القوى العمالة و المواد الخارجية التي يقع عليها العمل و يتصرف فيها العامل و الأسباب و الشرائط المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله و يمد الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله. فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإنسان أن يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، و أما إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجة البالغة. فقوله: "كلا نمد" أي كلا من الفريقين المعجل لهم و المشكور سعيهم نمد، و إنما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فإن المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعا.و قوله: "هؤلاء و هؤلاء" أي هؤلاء المعجل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أن لكل منهما نعته الخاص به، و يئول المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية الإلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإلهية لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلا الشقاء و الخيبة و قوله: "من عطاء ربك" فإن جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه. و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فإن أعمالهم لما كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلى النار مذموما مدحورا، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه. و في قوله: "ربك" التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و قد كرر ذلك مرتين و الظاهر أن النكتة فيه الإشارة إلى أن إمدادهم من شئون صفة الربوبية و الله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أربابا و لذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: "ربك". و قوله: "و ما كان عطاء ربك محظورا" أي ممنوعا و الحظر المنع فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته. و في الآية دلالة على أن العطاء الإلهي مطلق غير محدود بحد لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض ))
- سؤال: لماذا خلق الله نظاما في جنة و نار؟ الجواب: لأنه مقتضى النظام الأحسن
- غالبا لا يستقل الإنسان الاستعدادات التي أعطاها الله إياه فكيف يطلب مزيدا من الاستعدادات
- قال تعالى : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا )) يقول السيد العلامة ص312 : (( فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة و يكون المراد بالتطهير في قوله: «و يطهركم تطهيرا» - و قد أكد بالمصدر - إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله بعد إذهاب أصله، و من المعلوم أن ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد و العمل، و يكون المراد بالإرادة أيضا غير الإرادة التشريعية لما عرفت أن الإرادة التشريعية[1] التي هي توجيه التكاليف إلىالمكلف لا تلائم المقام أصلا[2] و المعنى: أن الله سبحانه تستمر إرادته أن يخصكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقادالباطل و أثر العمل السيىء عنكم أهل البيت و إيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم و هي العصمة ))
- سؤال: ما هو منشأ اختلاف الموجودات في عالمنا؟
- الجواب: إن كان مرادكم أصل الاختلاف فمنشؤه إرادة الله تعالى فالله تعالى أراد أن يخلق خلقا مختلفين ليوصلهم إلى الكمال و ليمتحن بعضهم ببعض و يعرف شكرهم و صبرهم و غير ذلك ، فتعلقت إرادة الله تعالى بأصل وجود الاختلاف لأنه هو النظام الأحسن ، و أما تفاصيل هذا الاختلاف بحيث أنا صرت في هذا الموقع و س و ص و ج من الخلق صاروا في مواقهم فهذه الخلق هم من عينها لا الله تبارك و تعالى ، حيث أنه يعلم أزلا من الكل ما يريدون فعين لهم استعداداتهم و لكن لطفا منه و رحمة جعلها بنحو الاقتضاء لا بنحو العلية التامة ففي كل آن آن يستطيع العبد أن يرجع عن هذا الطريق الذي انتهى إليه إلى طريق آخر ، و من هنا فطريق التوبة مفتوح إلى آخر لحظات هذا العالم .

[1] بل التكوينية

[2] ولكن ألا يلزم ذلك الجبر فالمعصوم لا يستطيع المعصية إذا كانت الإرادة تكوينية لأنها لا تتخلف؟ قال السيد محمد تقي الحكيم في الأصول العامة للفقه المقارن ص150 يقول : (( و قد يقال إن حملها على الإرادة التكوينية و إن دل على معنى العصمة لاستحالة تخلف المراد عن إرادته إلا أن ذلك يجرنا إلى الالتزام بالجبر و سلبهم الإرادة فيما يصدر عنهم من أفعال ما دامت الإرادة التكوينية هي المتحكمة في جميع تصرفاتهم و نتيجة ذلك حرمانهم من الثواب لأنه وليد إرادة العبد و هذا ما لا يمكن أن يلتزم به مدعوا الإمامة لأهل البيت )) ثم يجيب في ص151 يقول : (( و بناء على هذه النظرية )) أي لا جبر ولا تفويض (( يكون مفاد الآية إن الله عز و جل لما علم أن إرادتهم تجري دائما على وفق ما شرعه لهم ، اخبر عن علمه عنهم أنهم لا يعصونه فإذا لم يعصوه فهو أرد منهم ذلك بحكم ما زودوا به من إمكانات ذاتية إشارة إلى الاستعدادات و مواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم .. الخ ))


الدرس 62


· إشكال أخير

- قبل طرح الإشكال نذكر نقطتين لتوضيح منبع الإشكال:
- الاستعدادات عند الإنسان تنقسم إلى نوعين (أ) استعدادات خارجة عن اختيار الإنسان كلون بشرته و مكان ولادته و زمان ولادته و كونه مولودا عن نكاح شرعي أو سفاح فهذه كلها استعدادات خارجة عن اختيار الإنسان و الإنسان ليس مسؤولا عنها و لكنها تؤثر على إرادته في الأمور المرتبطة به و بإرادته ، فمن خلق في ظروف فاسدة يصعب عليه أن يكون إنسانا صالحا أكثر ممن ولد في ظروف صالحة (ب) استعدادات داخلة في اختيار الإنسان
- من كلمات الإمام الخميني في تعليقاته على "الكفاية" نذكرها تأييدا للإشكال لا دفعا له ج1 ص80 من "أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية" تحت عنوان "في سبب اختلاف أفراد الإنسان" : (( فإن قلت إذا كانت الذات و الذاتيات و لوازمها في أفراد الإنسان غير مختلفة فمن أين تلك الاختلافات الكثيرة المشاهدة في أفراد الإنسان ، فهل هي بإرادة الجاعل جزافا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، )) ولو كان الأمر كذلك لورد إشكال الجبر أيضا (( قلت هاهنا كلام طويل و لكن الذي يناسب المقام أن يقال إن المواد التي يتغذى بها بنوا آدم و بها يعيشون و تستمر حياتهم في هذا العالم العنصري مختلفة بحسب النوع لطافة و كثافة و صفاء و كدورة )) و لكن لماذا اختلفت هذه الأطعمة؟ لأن التربة والمياه مختلفة ، و لماذا اختلفت التربة و المياه فمنها مالحة و منها سبخة و منها عذبة و منها طيبة؟ هنالك بعض الروايات التي تفسر ذلك ستأتي لاحقا كما بينا شيئا من ذلك فيما سبق (( فربما يكون التفاح و الرمان و الرطب ألطف و أصفى و أقرب إلى الاعتدال و الكمال الوجودي من الجدري و الباقلاء و أشباههم وهذا الاختلاف الكثير بين أنواع المواد الغذائية ربما يكون ضروريا )) لأنه داخل ضمن النظام الأحسن ، إلى أن يقول (( الوالد و الوالدة إذا أكلوا من هذا فانعقدت النطفة من هذه النوع من الأغذية فسيؤثر ذلك على أن يكون طبع الإنسان لطيفا أو أن يكون غليظا جافا )) و تلاحظ أن البلدان المعتدلة جوا و طعاما تختلف عن البلدان الجافة القاسية في ظروفها الطبيعية و يؤثر ذلك بوضوح في طباع أهلها (( و لهذا يكون الإفراز من المادة الكثيفة الظلمانية الكدرة وقد يكون من متوسطة بينهما وقد يمتزج بعضها بالبعض ، و معلوم أن هنا اختلافات و امتزاجات كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى ، و لعل المراد من النطفة الأمشاج في قوله تعالى "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج" هو هذه الامتزاجات و الاختلاطات التي تكون في نوع الإنسان )) إلى أن يقول (( و من الواضح المقرر في موضعه أنه كلما اختلفت المادة اللائقة المستعدة لقبول الفيض من مبدئه اختلفت العطية و الإفاضة حسب اختلافاتها )) و هذه إشارة إلى قوله تعالى "و أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" (( و هذا – أي اختلاف النطف – أحد موجبات اختلاف النفوس والأرواح ، وهاهنا موجبات أخرى تكون سببا لاختلاف المواد في قبول الفيض ولاختلاف الأرواح في درجات الكمال بل إلى الوصول إلى الغاية و الخروج من الأبدان ، منها اختلاف الأصلاب في الشموخ و النورانية والكمال و مقابلاتها و التوسط بينهما وهذا أيضا باب واسع و موجب لاختلافات كثيرة ، و منها اختلاف الأرحام كذلك وهذا أيضا من الموجبات الواضحة )) لاحظ أن الروايات لم تقل "ألشقي شقي في صلب أبيه" بل "في بطن أمه" مع أن الأصلاب و الأرحام مشتركة في كونها أسبابا للسعادة و الشقاوة و ذلك لأن النطفة تصنع في أرحام النساء لا أصلاب الرجال ، و هنا سؤال: في نظام التكوين – لا في النظام الاجتماعي – فيما يرتبط بالقرب و البعد الإلهي من له أهمية أكثر هل المرأة أم الرجل؟ الجواب: المرأة أهم من الناحية التكوينية لأنها هي التي تعين مصير الابن سعادة أو شقاوة فللأب نسبة أقل من الأم في تعيين ذلك و من هنا فالجنة تحت أقدام الأمهات لا الآباء لأن نصيبها أكبر في عملية تكوين الأولاد و تحديد مصيرهم في عملية القرب أو البعد الإلهي ، و لذا اعتنى الشارع بالمرأة أكثر من الرجل ففي باب النكاح مثلا هنالك حث على البحث عن أصلاب المرأة التي يراد نكاحها و أرحامها أي آبائها و أمهاتها و نسلها ، و لم يرد ذلك في الزوج بل ورد أنه يجب أن يكون مؤمنا ، و كذلك ارجع للروايات تجدها تنصح المرأة الحبلى بنظام غذائي كامل و لكنها بالنسبة للرجل تأمره بأكل الحلال فقط (( وبالجملة اختلاف الأرحام كذلك ، و بالجملة الوراثة الروحية شيء معلوم مشاهد بالضرورة ومنها غير ذلك من كون غذاء الأم أو الأب حلالا أو حراما أو مشتبها و كذا كون ارتزاقهما من الحلال أو الحرام أو المشتبه في حال كون الأمانة في باطنهما ، وكون معدتهما في حال الوقاع خالية أو ممتلئة أو متوسطة ، وكون الوقاع حلالا أو حراما أو مشتبها وكون آداب الجماع مرعية مطلقا أو غير مرعية مطلقا أو مرعيا بعضها دون بعض ، فإن لكل ما ذكر دخالة تامة في قبول المادة الفيض الوجودي من المبدأ الجواد ، ولو اتفق كون سلسلة الآباء و الأمهات كلها كذلك لصاروا نورا على نور وطهارة على طهارة ، كما تقرأ في زيارة مولانا الحسين "أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهرة" )) ثم يبين الأمور الدخيلة بعد الولادة (( و بعد الولادة تكون أمور كثيرة دخيلة منها الارتضاع و منها التربية في أيام الصغر و في حجر المربي و منها التربية و التعلم في زمان البلوغ و منها المصاحب و المعاشر ومنها المحيط و البلد الواقع فيه ومنها مطالعة العلوم المختلفة والممارسة للكتب و الآراء فإن لها دخالة تامة عظيمة في اختلاف الأرواح ومنها غير ذلك و بالجملة كل ما ذكر في الآيات و الأخبار من الآداب الشرعية صراحة أو إشارة وجوبا أو حرمة استحبابا أو كراهة لها دخالة في سعادة الإنسان و شقائه من قبل الولادة إلى الموت )) و هكذا يتبين أنه لا يمكن أن نصل إلى الله تعالى من دون الفقه و يظهر بطلان من يقول بأننا نرفع الظاهر و التكاليف الشرعية و نصل إلى الله تعالى من طريق الباطن ، لذا تجد تأكيد أهل البيت على الفقه و لكن هنالك تطرف من طائفتين طائفة هم الفقهاء في الفقه الأصغر الذين اهتموا بالأحكام الفقهية و نسوا البواطن ، و هنالك طائفة أخرى متطرفة اهتمت باللب و لم تعط أهمية للقشر و الظواهر و الأحكام الفقهية ، و كلا الفريقين باطل جزما ، فالدين هو الظاهر و الباطن الفقه و الباطن ، فلهذا الشيخ جوادي في رسالة قيمة له يقول بأنه إذا وصل الإنسان إلى اللب و ترك القشر انقلب الحضور غفلة لأن الحضور كان من خلال العمل فإذا ذهب العمل انقلب الحضور غفلة .
- الطريق إلى الباطن هو الفقه و لكن نجد بعض الناس يبتدع أمورا و هذا ناتج عن حب الناس ليتميزوا عن الآخرين فيبتدعون أذكارا أو يلبسون عمائم كبيرة أو يتخذون سبحات طويلة أو يلبسون ملابس مختلفة عن الآخرين و هذه طبيعة الإنسان أنه يحب التميز
- بقي إشكال أخير لكي نختم هذا البحث ، يرتبط هذا الإشكال بمسألة أساسية في عالم الإمكان و خصوصا بعالم الشهادة و نشأة الطبيعة ، و المقدمات السابقة في هذا الدرس ذكرت لتوضيح هذا الإشكال ، من أهم مصاديق هذا الإشكال ما يرد على ابن الزنا حيث نعلم أن تولده من الحرام خارج عن اختياره و لكنه يؤثر كثيرا فيما هو داخل في اختياره ، و بنحو الموجبة الجزئية يمكن القول أن كون الشخص ابن زنا أو ابن شبهة هو في ضمن اختيار الإنسان لا خارج عنه ، فلو فرضنا أن هناك بعض الأعمال من قبيل قتل الأنبياء و الأئمة فهذه الأعمال لا يمكن أن تصدر إلا من نطفة محرمة أي ابن حرام و أما ابن الحلال فلا يمكن أن يقع منه ذلك و يستشهد ببعض الروايات (( لا يبغضك إلا منافق )) ، بما أن الله علم بعلمه الأزلي أن هذا الشخص مستعد لقتل النبي و مختار لذلك يهيء له تعالى المقدمات و منها أن يكون ابن زنا ، كذلك الدكتاتور الطاغية يهيئ له الله تعالى الاستعدادات و منها أن يصبح حاكما مستبدا فيقوم بقتل آلاف البشر فيعاقبه الله تعالى على ذلك و لكن لو لم يزوده بالاستعداد لما أمكنه أن يحقق ما كان في اختياره
- جعل الله تعالى الاستعدادات التي يوفرها لمن يريد أن يرتكب المعصية بنحو الاقتضاء لا العلية فطريق التوبة و الرجوع دائما متاح و لكنه صعب لأن من اختار أن يكون فاسدا و خلقه الله تعالى في مجتمع فاسد فإن طريق صلاحه أصعب ممن ولد في مجتمع صالح
- كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ إرادته النهائية و في لوح المحو و الإثبات إرادته المتوسطة و تفصيل ذلك في بحث القضاء و القدر ، فمثلا عمر فلان في لوح المحو و الإثبات هو 50 عاما بشرط أن يتصدق فإن تصدق صار عمره في لوح المحو و الإثبات 80 عاما ، و لكن في اللوح المحفوظ منذ البداية عمره مسجل 80 عاما
- بهذا يتبين أن الاختلافات الموجودة في عالم الطبيعة تنسجم مع العدل الإلهي و الذي عرفناه بأنه إعطاء كل ذي حق حقه و بينا أنه ليس لأحد حق اتجاه الله تعالى لأن رب العالمين ، و لكن بينا أن الله تعالى للخلق عليه حقوقا فأعطاهم ما يحققون به اختيارهم لأن هذا هو النظام الأكمل و الأحسن فالعدل إذن إعطاء كل ذي حق حقه ، و هذا ما لم يفهمه الأشاعرة لأنهم قالوا بأن ليس لأحد حق على الله دون أن يلتفتوا بأن الله تعالى كتب على نفسه هذه الحقوق (( حق علينا نصر المؤمنين )) و في رواية (( يستوجبون عليه الثواب )) (( يستوجبون عليه العقاب )) لاحظ التعبير بـ "يستوجبون" ، و لكن الحق بالمعنى الذي حققناه الناتج عن "الوجوب عن" لا "الوجوب على" كما قال به المعتزلة.

· روايات

- البحار ج5 ص284 عن النبي عن جبرئيل عن الله تعالى (( قال الله تبارك و تعالى من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة و ما ترددت عن شي‏ء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس المؤمن يكره و أكره مساءته و لا بد منه و ما يتقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه و لا يزال عبدي يبتهل إلي حتى أحبه و من أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا و موئلا إن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته )) ثم موضع الشاهد من الرواية (( و إن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر و لو أغنيته لأفسده ذلك و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى و لو أفقرته لأفسده ذلك و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالسقم و لو صححت جسمه لأفسده ذلك و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالصحة و لو أسقمته لأفسده ذلك إني أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير ))
- لاحظ أن الله تعالى يكفك عن العبادة أحيانا باعتبارك لا تعلم بالمصالح و المفاسد ، و هذا من باب الرحمة الخاصة لأنه عبر بـ (عبادي المؤمنين) فالعبد يريد عدم العجب و لكنه لا يعلم بأن هذه الصلاة أو هذا الفعل يوقعه في العجب فلا يهيئ له الله تعالى الاستعدادات لهذه العبادة و هكذا بقية المصاديق المذكورة في الرواية و هذه هي الصغريات ، ثم ذكر الكبرى في الرواية في نهاية الرواية (( إني أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير )) فهو تعالى يهيئ عباده لما هم مستعدون له ، و أما غير العباد المؤمنين فيمهلهم بل يزيدهم يزدادوا إثما
- في دعاء في الصحيفة السجادية : (( و عمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك فإذا كان عمري مرتعا للشيطان فاقبضني إليك )) فربما بنحو الشبهة المصداقية أتصور أن عمري بذلة في طاعته و لكنه مرتع للشيطان ، و هنا يكون الموت مطلوبا

· مسائل سنبحثها فيما يأتي من الدروس

- مسألة أخبار الطينة و الميثاق و فيها روايات كثيرة يعلق عليها صاحب البحار بعد نقلها (( اعلم أن أخبار هذا الباب من متشابهات الأخبار و من معضلات الآثار و لأصحابنا رضي الله عنهم فيها مسالك و لا يخفى ما فيها و في كثير من الوجوه السابقة و ترك الخوض في أمثال تلك المسائل الغامضة التي تعجز عقولنا عن الإحاطة بكنهها أولى )) و هذا كلام معتدل ولكن البعض قالها بأنها وردت تقية و يضرب بها عرض الحائط ، و لكن الله تعالى وفقنا لفهمها .
- مسألة القضاء و القدر الإلهي و هي من المسائل التي ورد النهي عن الخوض فيها ، و لكن كما يقول العلماء المحققون بأن النهي لضعفاء العقول و المتوسطين و لكن لم يمكنه إدراك مبانيها فعليه الدخول
- مسألة السعادة و الشقاوة
- مسألة الهدى و الضلالة
- مسألة الاستدراج الإلهي و الاختبار و الامتحان


الدرس 63


· الدرس السابق:

- كان الكلام في مسألة (( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا )) و أنه لماذا يكتب الله شيئا على الإنسان و بينا أن ما يصيب الإنسان مكتوب في جميع مراتب العلم الإلهي ، ثم دفعنا شبهة الجبر التي ترافق هذا الاعتقاد و بينا أن الله إنما يكتب على الإنسان الشيء لأنه علم بعلمه الأزلي أن هذا الإنسان سيختاره و يريده
- في رواية بحار الأنوار : ((إن الله عز و جل اختار من ولد آدم أناسا طهر ميلادهم و طيب أبدانهم و حفظهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء أخرج منهم الأنبياء و الرسل فهم أزكى فروع آدم فعل ذلك لا لأمر استحقوه من الله عز و جل و لكن علم الله منهم حين ذرأهم أنهم يطيعونه و يعبدونه و لا يشركون به شيئا فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة و المنزلة الرفيعة عنده و هؤلاء الذين لهم الشرف و الفضل و الحسب و سائر الناس سواء ألا من اتقى الله أكرمه و من أطاعه أحبه و من أحبه لم يعذبه بالنار قال فأخبرني عن الله عز و جل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين و كان على ذلك قادرا قال ع لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم و لم تكن جنة و لا نار و لكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته و نهاهم عن معصيته و احتج عليهم برسله و قطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون و يعصون و يستوجبون بطاعتهم له الثواب و بمعصيتهم إياه العقاب قال فالعمل الصالح من العبد هو فعله و العمل الشر من العبد هو فعله قال العمل الصالح العبد يفعله و الله به أمره و العمل الشر العبد يفعله و الله عنه نهاه قال أ ليس فعله بالآلة التي ركبها فيه قال نعم و لكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه قال فإلى العبد من الأمر شي‏ء قال ما نهاه الله عن شي‏ء إلا و قد علم أنه يطيق ))

· شواهد قرآنية على المطلب

1- سورة الأنعام 53 (( و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا )) إشارة إلى الأنبياء فلماذا من الله على هؤلاء بالنبوة دون غيرهم ، و تبين الآية علة اصطفاء الأنبياء بقوله في ذيل الآية (( أليس الله بأعلم بالشاكرين )) يقول العلامة الطباطبائي في الميزان ج7 ص104 : (( و قوله تعالى: «أليس الله بأعلم بالشاكرين» جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد، بقولهم: «أهؤلاء من الله عليهم من بيننا» و محصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم و لذلك قدم هؤلاء لمنه و أخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون، و من المسلم أن المنعم إنما يمن و ينعم على من يشكر نعمته و قد سمى الله تعالى توحيده و نفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف (عليه السلام): «ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون:» يوسف: 38. فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة و العزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال و بنين و جاه، و لا قدر لها عند الله و لا كرامة، و إنما الأمر يدور مدار صفة الشكر و النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية. ))
2- الأنعام 124 (( الله أعلم حيث يجعل رسالته )) يفسرها في ج7 من الميزان ص341 : (( فمرادهم أنا لن نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل، و فيه شيء من الاستهزاء فإنهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم: "لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم": الزخرف: 31 كما أن جوابه نظير جوابه و هو قوله تعالى: "أ هم يقسمون رحمة ربك": الزخرف: 32 كقوله: "الله أعلم حيث يجعل رسالته،" ))
3- سورة الكهف 80-82 بعد ذكر قصة موسى مع العبد الصالح (ع) : (( إنك لن تستطيع معي صبرا )) فهذا العبد الصالح كان عالما بداية لقائه بموسى أنه لن يستطيع الصبر و فعلا هكذا حدث كما تذكر الآيات تفصيلا ، و آية أخرى موضع شاهد في السورة هي (( و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا )) في هذه الآية رفع الله تعالى المانع من أمام الوالدين و هو الولد لأن الأبوين مؤمنين ، فهذه الآية تقول بأنه يا عبدي إذا كنت مؤمنا فإنني أهيئ لك الأسباب بل و أرفع عنك الموانع ، لاحظ أن العبد الصالح برر أفعاله بقوله (( و ما فعلته عن أمري )) فما فعل كان عن أمر الله تعالى
4- الشاهد الرابع – وهو أوضح الشواهد القرآنية – هو الآية 34 من سورة إبراهيم و نذكرها ضمن مجموعة آيات هي (( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ . اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ . وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )) و الآية موضع الشاهد هي رقم 34 و بالتحديد قوله تعالى (( و آتاكم من كل ما سألتموه )) و فيها أبحاث (1) هل السؤال المقصود في الآية هو السؤال اللفظي أم السؤال الحقيقي بلسان الاستعداد ، و الجواب واضح إذ ليس كل ما نسأل الله تعالى لفظا يجيبه يقول العلامة الطباطبائي في الميزان ((قوله تعالى: "و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" السؤال هو الطلب و يفارقه أن السؤال إنما يكون ممن يعقل و الطلب أعم و إنما تنبه الإنسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فأظهر له أن يرفع ما حلت به من حاجة و كانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه و ربما توسل إليه بإشارة أو كتابة و سمي سؤالا حقيقة من غير تجوز. و إذ كان الله سبحانه هو الذي يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شيء بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده و بقائه إلا بذيل جوده و كرمه سواء أقر به أو أنكره و هو تعالى أعلم بهم و بحاجاتهم ظاهرة و باطنة من أنفسهم كان كل من سواه عاكفا على باب جوده سائلا يسأله رفع ما حلت به من حاجة سواء أعطاه أو منعه و سواء أجابه في جميع ما سأل أو بعضه. هذا هو حق السؤال و حقيقته يختص به تعالى لا يتعداه إلى غيره، و من السؤال ما هو لفظي - كما تقدم - ربما يسأل به الله سبحانه و ربما يسأل به غيره فهو تعالى مسئول يسأله كل شيء بحقيقة السؤال و يسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال اللفظي.)) (2) من في الآية في قوله "و آتاكم من" هل تفيد التبعيض أم لا؟ يقول العلامة الطباطبائي في جواب ذلك ((و قد ظهر مما تقدم أن "من" في قوله: "من كل ما سألتموه" ابتدائية تفيد أن الذي يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو بعضه كما في بعضها الآخر، و لو كانت من تبعيضية لأفادت أنه تعالى يؤتي في كل سؤال بعض المسئول و الواقع خلافه كما أنه لو قيل: و آتاكم كل ما سألتموه أفاد إيتاء الجميع و ليس كذلك و لو قيل: مما سألتموه أفاد أن من الجائز أن لا يستجاب بعض الأدعية و يرد بعض الأسئلة من أصله و الآية - و هي في مقام الامتنان - تأبى ذلك. فبالجملة معنى الآية أن الله تعالى أعطى النوع الإنساني ما سأله فما من حاجة من حوائجه إلا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة. )) (3) هل الإتيان هو إتيان لأفراد الإنسان أم لنوع الإنسان فهل آتى الله نوع الإنسان كل ما سألوه أم أفراد الإنسان؟ الجواب: لو قلنا إلى كل فرد فرد لكان المعنى أن كلما سأل فرد شيئا يؤتاه ، و لو قلنا إلى نوع الإنسان لما كان بالضرورة يؤتى كل فرد و لكن مجموع أفراد الإنسان لا تمنع ، و الجواب هو أن المخاطب هو نوع الإنسان لا الأفراد كما يذهب إلى ذلك السيد العلامة ((هذا بالنسبة إلى السؤال و أما بالنسبة إلى الإيتاء و هو الإعطاء فقد أطلق من غير أن يقيد باستثناء و نحوه فيدل على أنه ما من سؤال إلا و عنده إعطاء و هذه قرينة أن الخطاب للنوع كما يؤيده أيضا قوله ذيلا إن الإنسان لظلوم كفار". و المعنى أن النوع الإنساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم إلا رفع الله حاجته إما كلا أو بعضا و إن كان الفرد منه ربما احتاج و سأل و لم يقض حاجته. )) ولا يتنافى ذلك مع القول بأنه أعطى الأفراد أيضا مما سألوه

· مسائل سنبحثها فيما يأتي من الدروس

- مسألة أخبار الطينة و الميثاق و فيها روايات كثيرة يعلق عليها صاحب البحار بعد نقلها (( اعلم أن أخبار هذا الباب من متشابهات الأخبار و من معضلات الآثار و لأصحابنا رضي الله عنهم فيها مسالك و لا يخفى ما فيها و في كثير من الوجوه السابقة و ترك الخوض في أمثال تلك المسائل الغامضة التي تعجز عقولنا عن الإحاطة بكنهها أولى )) و هذا كلام معتدل ولكن البعض قالها بأنها وردت تقية و يضرب بها عرض الحائط ، و لكن الله تعالى وفقنا لفهمها .
- مسألة القضاء و القدر الإلهي و التوفيق بينهما و بين اختيار الإنسان و هي من المسائل التي ورد النهي عن الخوض فيها ، و لكن كما يقول العلماء المحققون بأن النهي لضعفاء العقول و المتوسطين و لكن لم يمكنه إدراك مبانيها فعليه الدخول
- مسألة السعادة و الشقاوة
- مسألة الهدى و الضلالة
- مسألة الاستدراج الإلهي و الاختبار و الامتحان
 
 
 
الدرس الرابع و الستون


· صعوبة البحث في روايات الطينة

- روايات الطينة من الروايات المعقدة و الشائكة بدرجة أدت إلى أن يترك الخوض فيها كما فعل صاحب البحار (ره) و أشار إلى أن الأئمة (ع) نهوا عن الخوض فيها و ربما ذلك لارتباطها بموضوع القضاء و القدر
- كما أن في القرآن محكم و متشابه فكذلك في الروايات ، و لعل روايات الطينة هي من متشابهات الأخبار كما يصرح السيد عبد الله شبر في "مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار" يقول (( اعلم أن هذا الخبر و نحو هذا الخبر من متشابهات الأخبار و معضلات الآثار ))

· روايات الطينة

- أخبار الطينة كثيرة ، فالتي يرويها صاحب البحار فقط تصل تقريبا 67 رواية مما يورث الاطمئنان بصدورها
- عن أبي اسحق الليثي[1] قال قلت لأبي جعفر الباقر (ع) : يابن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط ؟ قال: اللهم لا، قلت: فيسرق ؟ قال: لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال: لا ; قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا ; قلت: فيذنب ذنبا ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب مسلم ; قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم بالذنب لا يلزمه ولا يصير عليه، (1) قال فقلت: سبحان الله ما أعجب هذا ! لا يزني ولا يلوط ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يأتي كبيرة (2) من الكبائر ولا فاحشة ؟ ! فقال: لا عجب من أمر الله، إن الله عزوجل يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فمم عجبت يا إبراهيم ؟ سل ولا تستنكف ولا تستحسر فإن هذا العلم لا يتعلمه مستكبر ولا مستحسر ; قلت: يا ابن رسول الله إني أجد من شيعتكم من يشرب، ويقطع الطريق، ويحيف السبيل، ويزني و يلوط ويأكل الربا، ويرتكب الفواحش، ويتهاون بالصلاة والصيام والزكاة، ويقطع الرحم. ويأتي الكبائر، فكيف هذا ؟ ولم ذاك ؟ فقال: يا إبراهيم هل يختلج في صدرك شئ غير هذا ؟ قلت: نعم يا بن رسول الله أخرى أعظم من ذلك ; فقال: وما هو يا أبا إسحاق قال: فقلت: يا ابن رسول الله وأجد من أعدائكم ومناصبيكم من يكثر من الصلاة ومن الصيام، ويخرج الزكاة، ويتابع بين الحج والعمرة، ويحض على الجهاد، ويأثر على البر وعلى صلة الأرحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر والزنا واللواط وسائر الفواحش، فمم ذاك ؟ ولم ذاك ؟ فسره لي يا بن رسول الله وبرهنه وبينه فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي وضاق ذرعي ! قال: فتبسم صلوات الله عليه ثم قال: يا إبراهيم خذ إليك بيانا شافيا فيما سألت، وعلما مكنونا من خزائن علم الله وسره، أخبرني يا إبراهيم كيف تجد اعتقادهما[2] ؟ قلت: يا ابن رسول الله أجد محبيكم وشيعتكم على ما هم فيه مما وصفته منأفعالهم لو أعطي أحدهم مما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضة أن يزول عن ولايتكم ومحبتكم إلى موالاة غيركم وإلى محبتهم ما زال، ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيكم، ولو قتل فيكم ما ارتدع ولا رجع عن محبتكم وولايتكم[3] ; وأرى الناصب[4] على ما هوعليه مما وصفته من أفعالهم لو أعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضة أن يزول عن محبة الطواغيت وموالاتهم إلى موالاتكم ما فعل ولا زال ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم، ولو قتل فيهم ما ارتدع ولا رجع، وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلا اشمأز من ذلك وتغير لونه، ورئي كراهية ذلك في وجهه، بغضا لكم ومحبة لهم[5]. قال: فتبسم الباقرعليه السلام ثم قال: يا إبراهيم ههنا هلكت العاملة الناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ومن أجل ذلك قال عز و جل: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا "[6] ويحك يا إبراهيم أتدري ما السبب والقصةفي ذلك ؟ وما الذي قد خفي على الناس منه ؟ قلت: يا ابن رسول الله فبينه لي واشرحه وبرهنه[7]. قال: يا إبراهيم إن الله تبارك وتعالى لم يزل عالما قديما خلق الأشياء لامن شيء ومن زعم أن الله عز وجل خلق الأشياء من شيء فقد كفر لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديما معه في أزليته وهويته كان ذلك أزليا ; بل خلق الله عز و جل الأشياء كلها لا من شئ، فكان مما خلق الله عزوجل أرضا طيبة، ثم فجر منها ماءا عذبا زلالا، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فقبلتها، فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها، وأخذ من صفوة ذلك الطين طينا فجعله طين الأئمة عليهم السلام ، ثم أخذ ثفل ذلك الطين فخلق منه شيعتنا ، ولو ترك طينتكم يا إبراهيم على حاله كما ترك طينتنا لكنتم ونحن شيئا واحدا[8]. قلت: يا بن رسول الله فمافعل بطينتنا ؟ قال: أخبرك يا إبراهيم خلق الله عز وجل بعد ذلك أرضا سبخة خبيثة منتنة، ثم فجر منها ماءا أجاجا، آسنا، مالحا، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت[9] ولمتقبلها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها، ثم أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة وأئمتهم، ثم مزجه بثفل طينتكم، ولو ترك طينتهم على حاله ولم يمزج بطينتكم لم يشهدوا الشهادتين ولا صلوا ولا صاموا ولا زكوا ولا حجوا ولا أدوا أمانة ولا أشبهوكم في الصور، وليس شيء أكبر على المؤمن من أن يرى صورة عدوه مثل صورته. قلت: يا ابن رسول الله فما صنع بالطينتين ؟ قال: مزج بينهما بالماء الأول والماء الثاني، ثم عركها عرك الأديم، ثم أخذ من ذلك قبضة فقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي[10] وأخذ قبضة أخرى وقال: هذه إلى النار ولا أبالي[11] ; ثم خلط بينهما فوقع منسنخ المؤمن وطينته على سنخ الكافر وطينته، ووقع من سنخ الكافر وطينته على سنخ المؤمن وطينته ، فما رأيته من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو خيانة، أو كبيرة من هذه الكبائر فهو من طينة الناصب[12] وعنصره الذي قد مزج فيه لأن منسنخ الناصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر ; وما رأيت من الناصب ومواظبته على الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وأبواب البر فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مزج فيه لأن من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم، فإذا عرضت هذه الأعمال كلها على الله عز وجل قال: أنا عدل لا أجور، ومنصف لا أظلم، وحكم لا أحيف ولا أميل ولا أشطط، الحقوا الأعمال السيئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب وطينته، وألحقوا الأعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته[13] ردوها كلها إلى أصلها، فإني أنا الله لا إله إلا أنا،عالم السر وأخفى وأنا المطلع على قلوب عبادي[14]، لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحدا إلاما عرفته منه قبل أن أخلقه. ثم قال الباقر عليه السلام: يا إبراهيم اقرأ هذه الآية، قلت: يا ابن رسول الله أية آية ؟ قال: قوله تعالى: "قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون "هو في الظاهر ما تفهمونه، وهو والله في الباطن هذا بعينه، يا إبراهيم إن للقرآن ظاهرا وباطنا، ومحكما ومتشابها، وناسخا ومنسوخا. ثم قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان، أهو بائن من القرص ؟[15] قلت: في حال طلوعه[16] بائن ; قال: أليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرصحتى يعود إليه ؟[17] قلت: نعم، قال: كذلك يعود كل شيء إلى سنخه و جوهره وأصله[18]، فإذا كانيوم القيامة نزع الله عز وجل سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب[19]، وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته و أبواب بره واجتهاده من الناصبفيلحقها كلها بالمؤمن[20]. أفترى ههنا ظلما وعدوانا ؟ قلت: لا يا ابن رسول الله ; قال: هذا والله القضاء الفاصل والحكم القاطع والعدل البين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون[21] ، هذا - يا إبراهيم - الحق من ربك فلا تكن من الممترينهذا من حكم الملكوت. قلت: يابن رسول الله وما حكم الملكوت ؟ قال: حكم الله وحكم أنبيائه، و قصة الخضر وموسى عليهما السلام حين استصحبه فقال: "إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ". افهم يا إبراهيم واعقل، أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله (2) حتى قال له الخضر يا موسى ما فعلته عن أمري، إنما فعلته عن أمر الله عزوجل، من هذا - ويحك يا إبراهيم - قرآن يتلى، وأخبار تؤثر عن الله عزوجل، من رد منها حرفا فقد كفر و أشرك ورد على الله عزوجل. قال الليثي: فكأني لم أعقل الآيات - وأنا أقرؤها أربعين سنة - إلا ذلك اليوم، فقلت: يابن رسول الله ما أعجب هذا ! تؤخذ حسنات أعدائكم فترد على شيعتكم، وتؤخذ سيئات محبيكم فترد على مبغضيكم ؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو، فالق الحبة، وبارئ النسمة، وفاطر الأرض والسماء، ما أخبرتك إلا بالحق: وما أتيتك إلا بالصدق، وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، وإن ما أخبرتك لموجود في القرآن كله. قلت: هذا بعينه يوجد في القرآن ؟ قال: نعم يوجد في أكثر من ثلاثين موضعا في القرآن، أتحب أن أقرأ ذلك عليك ؟ قلت: بلى يا ابن رسول الله ; فقال: قال الله عزوجل: "وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم" الآية. أزيدك يا إبراهيم ؟ قلت: بلى يا ابن رسول الله قال: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون "أتحب أن أزيدك ؟ قلت: بلى يابن رسول الله، قال: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما "يبدل الله سيئات شيعتنا حسنات، ويبدل الله حسنات أعدائنا سيئات ; وجلال الله ووجه الله إن هذا لمن عدله وإنصافه لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم. ألم أبين لك أمر المزاج والطينتين من القرآن ؟ قلت: بلى يابن رسول الله ; قال: اقرأ يا إبراهيم: "الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الارض "يعنى من الارض الطيبة والارض المنتنة "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى "يقول: لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لان الله عزوجل أعلم بمن اتقى منكم، فإن ذلك من قبل اللمم و هو المزاج. أزيدك يا إبراهيم ؟ قلت: بلى يابن رسول الله ; قال: "كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله "يعني أئمة الجور دون أئمة الحق "ويحسبون أنهم مهتدون "خذها إليك يا أبا إسحاق، فوالله إنه لمن غرر أحاديثنا وباطن سرائرنا ومكنون خزائنا وانصرف ولا تطلع على سرنا أحدا إلا مؤمنا مستبصرا فإنك إن أذعت سرنا بليت في نفسك ومالك وأهلك وولدك


· سؤال وجواب مفيد من مركز الأبحاث العقائدية:

السؤال: أسئلة حول حديث الطينة وبيان الوجه فيه
السلام عليكم ورحمة الله
ما حقيقة عقيدة الطينة!
(روى ابن بابويه بسنده: عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يا ابن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر (يقصدون
بذلك الرافضي)، إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيشرب الخمر؟
قال: لا، قلت: فيأتي بكبيرة من الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟
قال: لا..، قلت: يا ابن رسول الله إني أجد من شيعتكم من يشرب الخمر، ويقطع الطريق ويخيف السبل، ويزني، ويلوط، ويأكل الربا ويرتكب الفواحش ويتهاون بالصلاة
والصيام، والزكاة ويقطع الرحم، ويأتي الكبائر فكيف هذا ولم ذاك؟
فقال: يا إبراهيم هل يختلج صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يا ابن رسول الله أخرى أعظم من ذلك، فقال: وما هو يا أبا إسحاق؟
قال: فقلت يا ابن رسول الله وأجد من أعدائكم ومناصبيكم (يقصد بذلك أهل السنة) من يكثر من الصلاة والصيام ويخرج الزكاة ويتابع بين الحج والعمرة، ويحرص على الجهاد، ويأثر كذا على البر، وعلى صلة الأرحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر والزنا واللواط، وسائر الفواحش فما ذاك؟ ولفمَ ذاك؟ فسّره لي يا بن رسول الله وبرهنه وبينه، فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي، وضاق ذرعي).
انظر: علل الشرائع: ص 606، 607، وبحار الأنوار: 5/228 ـ 229 .
يقول (يا إسحاق (راوي الخبر) ليس تدرون من أين أوتيتم؟
قلت: لا والله، جعلت فداك إلا تخبرني،
فقال: يا إسحاق إن الله (عز وجل) لما كان متفرداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام مع لياليها، ثم نضب (أي نشف)، انظر بحار الأنوار 5/ 230، هامش رقم (3).
الماء عنها فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين وهي طينتنا أهل البيت، ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثم اصطفانا لنفسه ، فلو أن طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى أحد منهم، وسرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر ولا اكتسب شيئاً مما ذكرت، ولكن الله (عز وجل) أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها ثم نضب الماء عنها، ثم قبض قبضته، وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون (وهو الطين الأسود المتغير)، وهي طينة خبال (أي فاسدة)، (انظر: المصدر السابق)،
وهي طينة أعدائنا، فلو أن الله (عز وجل) ترك طينتهم كما أخذها لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقروا بالشهادتين، ولم يصوموا ولم يصلوا، ولم يزكوا، ولم يحجوا البيت، ولم تروا أحداً منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين طينتكم وطينتهم! فخلطهما وعركهما عرك الأديم، ومزجهما بالمائين فما رأيت من أخيك من شر لفظ ، أو زنا، أو شيء مما ذكرت من شرب مسكر أو غيره، ليس من جوهريته وليس من إيمانه، إنما بمسحة الناصب اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم، أو صلاة، أو حج بيت، أو صدقة، أو معروف فليس من وهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الأيمان اكتسبها هو اكتساب مسحة الإيمان.
قلت: جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فمه؟ قال لي: يا إسحاق أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟ إذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل مسحة الإيمان منهم فرّدها على أعدائنا، وعاد كل شيء إلى عنصره الأول..
قلت: فداك تؤخذ حسناتهم فترد إلينا؟ وتؤخذ سيئاتنا فترد إليهم؟
قال: اي والله الذي لا إله إلا هو.
انظر، علل الشرائع، ص 490 ـ 491، وبحار الأنوار: 5/247 ـ 248.

الجواب:
الأخ جميل المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد ذكر العلاّمة السيد عبد الله شبر في كتابه (مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار 1: 11) وجوهاً تسعة في بيان المراد من أحاديث الطينة، نوردها لكم بتمامها عن كتابه الموسوم أعلآه:
الوجه الأول: أنها أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً فيجب ردّها وطرحها سيما وهي مخالفة للكتاب الكريم والسنّة القطعية وإجماع الإمامية والأدلة العقلية والبراهين القطعية.
وفيه أن هذه الأخبار وقد رواها العلماء الأعلام في جوامعهم العظام بأسانيد عديدة وطرق سديدة ولا يبعد أن تكون من المتواترات معنى فلا معنى لطرحها وردّها بل لابد من توجيهها وقد رواها ثقة الإسلام في الكافي بطرق شتى ومتون عديدة والشيخ في الأمالي والبرقي في المحاسن والصدوق في العلل وعلي بن إبراهيم والعياشي في تفسيريهما والصفار في بصائر الدرجات وغيرهم في غيرها بأسانيد وافرة وطرق متكاثرة بل الأولى حينئذ أن يقال إن هذه الأخبار متشابهة يجب الوقوف عندها ورد أمرها وتسليمه إليهم عليهم السلام فأنّ كلامهم عليهم السلام كالقرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه كما ورد عنهم (ع) إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكمه فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
الثاني: أنها محمولة على التقية لموافقتها لروايات العامة ولما ذهب إليه الاشاعرة وهم جلّهم ولمخالفتها أخبار الاختيار والاستطاعة المعلومة من طريقتهم عليهم السلام وهذا مشارك لما قبله في الضعف فإن الظاهر من بعضها أنها من أسرار علومهم وكنوز أسرارهم.
(في القول الثاني وهو الحمل على التقية مجال للتأمل وأي معنى للتقية في حديث يأمر الإمام فيه بالكتمان ويتوعد على إذاعته بالبلاء في النفس والمال والأهل والولد) .
الثالث: أنها كناية عما علمه الله تعالى وقدره من أختلاط المؤمن والكافر في الدنيا واستيلاء أئمة الجور وأتباعهم على أئمة الحق وعلى أنّ المؤمنين إنما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم وعدم تولي أئمة الحق لسياستهم فيعذرهم لذلك ويعفو عنهم ويعذب أئمة الجور وأتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم.
الرابع: أنها كناية عن علمه تعالى بما هم إليه صائرون فأنه تعالى لما خلقهم مع علمه بأحوالهم فكأنه تعالى خلقهم من طينات مختلفة ولا يخفى ضعفه.
الخامس: أنها كناية عن اختلاف استعدادهم وتفاوت قابلياتهم وهذا أمر بين لا يمكن إنكاره إذ لا شبهة في إن النبي (صلى الله عليه وآله) وأبا جهل ليسا في درجة واحدة من الاستعداد والقابلية وهذا لا يستلزم سقوط التكليف فإنّ الله تعالى كلف النبي (صلى الله عليه وآله) حسبما أعطاه من الاستعداد لتحصيل الكمالات وكلف أبا جهل سبما أعطاه من ذلك ولم يكلفه ما ليس في وسعه ولم يجبره على شيء من الشر والفساد.
السادس: إن غاية ما يلزم من الخلق من الطينتين الميل والمحبة لما يقتضيه كل منهما من خير وشر بالاختيار وذلك لا يستلزم الجبر سيما بعد تصريحه (ع) بخلط الطينتين الموجب لتدافع الطبيعتين والوقوف على حد الاعتدال بحيث يصير المؤمن قادراً على السيئة والكافر قادراً على الحسنة ويؤيده قوله عليه السلام في بعض أخبار هذا الباب فقلوب المؤمنين تحنّف إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه، وظاهره أنّ ذلك الخلط والمزج صار سببا لمجرد الميل لا أنه رفع القدرة والاختيار وصار علة للإجبار، ولعلّ الحكمة والمصلحة في مزج الطينتين إظهار قدرته تعالى في أخراج الكافر من المؤمن وبالعكس دفعاً لتوهم استنادهم إلى الطبايع أو رحمته تعالى في فساق المؤمنين بغفران ذنوبهم أو تعيّش المؤمنين في دولة الكافرين إذ لو لم تكن رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلهم بمنزلة الشياطين فلم يتخلص أحد من بطشهم أو لوقوع المؤمن بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أن الغالب فيه الخير أو الشر أو رفع العفجب عنه بفعل الطاعات أو الرجوع إليه تعالى في حفظ نفسه من المعاصي أو غير ذلك من الحكم والمصالح التي لم تدركها عقولنا القاصرة وإفهامنا الفاترة.
السابع: ما اعتمده أكثر الأصحاب وعولوا عليه في هذا الباب وهو أن ذلك منزّل على العلم الإلهي فأنه تعالى لما خلق الأرواح كلها قابلة للخير والشر وقادرة على فعلها وعلم أن بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان وبعضها يعود إلى الشر المحض وهو الكفر باختيارها عاملها هذه المعاملة كالخلق من الطينة الطيبة أو الخبيثة فحيث علم الله من زيد أنه يختار الخير والإيمان البتة ولو لم يخلق من طينة طيبة خلقه منها ولما علم من عمرو أنه يختار الشر والكفر البتة خلقه من طينة خبيثة لطفاً بالأول وتسهيلاً عليه وإكراماً له لما علم من حسن نيته وعمله وبالعكس في الثاني وعلم الله ليس بعلة لصدور الأفعال وهذا معنى جيد تنطبق عليه أكثر أخبار الباب ويستنبط من أخبارهم (ع) كما أشير إليه في الحديث المذكور بقوله(ع) حكاية عنه تعالى : ويستفاد ذلك من أخبار أخر ذكرها يفضي إلى التطويل.
الثامن: إن الله سبحانه وتعالى لما خلق الأرواح قبل خلق الأبدان في عالم الذر وكلفها بتكليف حين تجردها أجج لها ناراً وأمرها بالدخول إليها والإقتحام فيها فامتثل بعضها وبادر إلى الإطاعة فكانت عليه برداً وسلاماً وأبى بعضها ولم يمتثل فندم وخسر ثم طلب الرجوع مرة أخرى فأبى ولم يمتثل أيضاً فقامت هناك الحجة وثبتت المحجة وتحقق الإيمان والكفر بالإطاعة والعصيان قبل استقرار الأرواح في الأبدان ووقع معلوم الله تعالى مطابقاً لعلمه فخلق تعالى للأرواح المطيعة مسكناً مناسباً لها وهو البدن من طينة علييّن وخلق للأرواح العاصية مسكناً من طينة سجين كما خلق تعالى للمؤمن جنة وللكافر ناراً وذلك ليستقر كل واحد فيما يناسبه ويعود كل جزء إلى كله وكل فرع إلى أصله فظهر أن الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبب عن العمل دون العكس فلا يلزم الجبر ولا ينافي الاختيار، ألا ترى أن الله تعالى لما علم أن بين النبيين والمؤمنين اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر لأن المؤمنين يوافقونهم في العقايد ويخالفونهم أحياناً في الأعمال لصدور المعصية منهم خلق قلوب المؤمنين من طينة النبيين وخلق أبدانهم من دون ذلك لانحطاط درجتهم وشرفهم فوضع كلاًّ في درجته وإنك إذا قررّت لعبدك المطيع بيتاً شريفاً ولعبدك العاصي بيتاً وضيعاً صح ذلك عقلاً وشرعاً ولا يصفك عاقل بالظلم والجور إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يلزم لو أنعكس الأمر أو وقع التساوي فبان أن الخلق من طينتين عليين وسجين تابع للطاعة والمعصية والإيمان والكفر دون العكس.
التاسع: ما صار إليه المحدّث المحقق الكاشاني في الوافي حيث قال بعد إيراد الخبر المذكور باختلاف يسير في ألفاظه ما نصه جملة القول في بيان السرّ فيه أنه قد تحقق وثبت أن كلا من العوالم الثلاثة له مدخل في خلق الإنسان وفي طينته ماودته من كل حظ ونصيب فلعل الارض الطيبة كناية عمّاله في جملة طينته من آثار عالم الملكوت الذي منه الأرواح المثالية والقوى الخيالية الفلكية المعبر عنها ((بالمدبرات أمراً)) والماء العذب عمّاله في طبيعته من أفاضات عالم الجبروت الذي منه الجواهر القدسية والأرواح العالية المجردة عن الصور المعبّر عنها ((بالسابقات سبقاً)) والأرض الخبيثة عمّاله في طينته من أجزاء عالم الملك الذي منه الأبدان العنصرية المسخرة تحت الحركات الفلكية المسخرة لما فوقها والماء الأجاج المالح الأسن عماله في طينته من تهييجات الأوهام الباطلة والأهواء المموهة الردية الحاصلة من تركيب الملك مع الملكوت مما لا أصل له ولا حقيقة ثم الصفوة من الطينة الطيبة عبارة عما غلب عليه إفاضة الجبروت من ذلك والثفل منه ما غلب عليه أثر الملكوت وكدورة الطين المنتن الخبيث عما غلب عليه طبايع عالم الملك وما يتبعه من الأهواء المضلة وإنما لم يذكر نصيب عالم الملك للأئمة(ع) مع أنّ أبدانهم العنصرية منه لأنهم لم يتعلقوا بهذه الدنيا ولا بهذه الأجساد تعلق ركون وإخلاد فهم وإن كانوا في النشأة الفانية بأبدانهم العنصرية ولكنهم ليسوا من أهلها كما مضى بيانه ، قال الصادق(ع) في حديث حفص بن غياث يا حفص ما أنزلت الدنيا من نفسي إلا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها فلا جرم نفضوا أذيالهم منها بالكلية إذا ارتحلوا عنها ولم يبق معهم منها كدورة وإنما لم يذكر نصيب الناصب وأئمة الكفر من أفاضة عالم الجبروت مع إنّ لهم منه حظ الشعور والإدراك وغير ذلك لعدم تعلقهم به ولا ركونهم إليه ولذا تراهم تشمئز نفوسهم من سماع العلم والحكمة ويثقل عليهم فهم الأسرار والمعارف فليس لهم من ذلك العالم (( إلاَّ كَبَاسط كََّفيه إلَى المَاء ليَبلغَ فاه وَمَا هوَ ببَالغه وَمَا دعَاء الكَفارينَ إلاَّ في ضَلاَل )) (سورة الرعد:14).(( نَسوا اللَّهَ فأَنسَاهمْ أَنفسَهمْ )) (سورة الحشر: 19).
فلا جرم ذهب عنهم نصيبهم من ذلك العالم حين أخلدوا إلى الأرض وأتبعوا أهواءهم فإذا جاء يوم الفصل وميّز الله الخبيث من الطيب ارتقى من غلب عليه أفاضات عالم الجبروت إلى الجبروت وأعلى الجنان والتحق بالمقربين ومن غلب عليه آثار الملكوت إلى الملكوت ومواصلة الحور والولدان والتحقق بأصحاب اليمين وبقي من غلب عليه الملك في الحسرة والثبور والهوان والتعذيب بالنيران إذ فرق الموت بينه وبين محبوباته ومشتهياته فالأشقياء وإن انتقلوا إلى نشأة من جنس نشأة الملكوت خلقت بتبعيتها بالعرض إلا أنهم يحملون معهم من الدنيا من صور أعمالهم وأخلاقهم وعقايدهم مما لا يمكن أنفكاكهم عنه مما يتأذون به ويعذبون بمجاورته من سموم وحميم وظل من يحموم ومن حيات وعقارب ذوات لدغ وسموم ومن ذهب وفضة كنزوها في دار الدنيا ولم ينفقوها في سبيل الله واشرب في قلوبهم محبتها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (سورة التوبة: 36) ومن آلهة يعبدونها من دون الله من حجر أو خشب أو حيوان أو غيرها مما يعتقدون فيه أنه ينفعهم وهو يضرهم إذ يقول لهم: (( إنَّكم وَمَا تَعبدونَ من دون اللَّه حَصَب جَهَنَّمَ )) (سورة الأنبياء: 98).
وبالجملة، المرء مع من أحب فمحبوب الأشقياء لما كان من متاع الدنيا الذي لا حقيقة له ولا أصل بل هو متاع الغرور فإذا كان يوم القيامة وبرزت حواقّ الأمر وكسد متاعهم وصار لا شيئاً محضاً فيتألمون بذلك ويتمنون الرجوع إلى الدنيا التي هي وطنهم المألوف لأنهم من أهلها ليسوا من أهل النشأة الباقية لأنهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فإذا فارقوها عذبوا بفراقها في نار جهنم بأعمالهم التي أحاطت بهم وجميع المعاصي والشهوات يرجع إلى متاع هذه النشأة الدنيوية ومحبتها فمن كان من أهلا عذّب بمفارقتها لا محالة ومن ليس من أهلها وإنما أبتلي بها وأرتكبها مع إيمان منه بقبحها أو خوف من الله سبحانه في إتيانها فلا جرم يندم على ارتكابها إذا رجع إلى عقله وأناب إلى ربه فتصير ندامته عليه والاعتراف بها وذل مقامه بين يدي ربه حياء منه تعالى سبباً لتنوير قلبه وهذا معنى تبديل سيئاتهم حسنات فالأشقياء إنما عذبوا بما لم يفعلوا لحنينهم إلى ذلك وشهوتهم له وعقد ضمائرهم على فعله دائماً إن تيسر لهم لانهم كانوا من أهله ومن جنسه (( وَلَو ردّوا لَعَادوا لمَا نهوا عَنه )) (سورة الأنعام:28)
والسعداء إنما لم يخلدوا في العذاب ولم يشتد عليهم العقاب بما فعلوا من القبائح لأنهم ارتكبوا على كره من عقولهم وخوف من ربهم لأنهم لم يكونوا من أهلها ولا من جنسها بل أثيبوا بما لم يفعلوا من الخيرات لحنينهم إليه وعزمهم عليه وعقد ضمائرهم على فعله دائماً إن تيسر لهم فإنما الأعمال بالنيات.
وإنما لكل أمريء ما نوى. وإنما ينوي كل ما يناسب طينته وتقتضيه جبلته كما قال الله سبحانه: (( قل كلٌّ يَعمَل عَلَى شَاكلَته )) (سورة الأسراء:82).
ولهذا ورد في الحديث إن كلاً من أهل الجنة والنار إنما يخلدون فيما يخلدون على نياتهم وإنما يعذب بعض السعداء حين خروجهم من الدنيا بسبب مفارقة ما مزج بطينتهم من طينة الأشقياء مما أنسوا به قليلاً وألفوه بسبب ابتلائهم به ما داموا في الدنيا.
وروي الصدوق(ره) في اعتقاداته مرسلاً أنه لا يصيب أحداً من أهل التوحيد ألم في النار إذا دخلوها وإنما تصيبهم الآلام عند الخروج منها فتكون تلك الآلام جزاءً بما كسبت أيديهم وما الله بظلام للعبيد.(انتهى كلامه رفع مقامه).
ودمتم في رعاية الله



[1] هذه الرواية هي ما سنجعله الأصل في البحث و نجد أن صاحب مصابيح الأنوار نقل فقط هذه الرواية و لم ينقل غيرها من أخبار الطينة لأنها تحتوي على أعقد المطالب في هذا الباب

[2] الرواية تريد أن تقول أن المحورية للإيمان و الاعتقاد لا العمل و إن كان العمل له أهمية كبيرة ، لأن الاعتقاد يجر العبد إلى العمل الصالح

[3] مثل هذا الاعتقاد هو جزء من وجود الإنسان و هو ما نعبر عنه بالفلسفة بأنه حصل اتحاد بين العالم و علمه و هذا لا يكون إلا بشرائطه و مقدماته و ليس كل الشيعة هكذا ، فليس هذا الاعتقاد من قبيل الملكة أو الحالة فهذه يمكن أن تزول

[4] المقايسة في الرواية و في أكثر أخبار الطينة بين الموالي الشيعي و بين الناصب المعادي و ليس لمن لا يعرف هذا الأمر أي ولاية أهل البيت ذكر فيها

[5] سيتبين لاحقا أن سيئات الشيعة تؤخذ منهم و تعطى لأعداء أهل البيت و الأعداء المقصودون هم الذين هذه صفاتهم ، و سيتبين أن هؤلاء النواصب يقعدون بالمرصاد لأهل البيت و شيعتهم فيحاولون ما أمكنهم أن يحرفوهم عن مسيرتهم و يضلوهم كما هو حاصل في الإعلام المضلل اليوم ، و لهذا السبب تؤخذ سيئات الشيعة و تحمل على ظهور هؤلاء النواصب لأنهم – على الأقل – جزء علة تلك السيئات لا علة تامة لأن إرادة الموالي المذنب موجودة أيضا ، و هذا من أوضح مصاديق (( من سن سنة حسنة فله .. و من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة )) فلا محذور في أن تؤخذ سيئات الشيعة و توضع على النواصب ولا يلزم من ذلك الجبر

[6] إشارة إلى الناصبي (( الناصبة العاملة )) لا مطلق غير الموالي بخلاف ما يتصوره بعض الجهلة من أن ذلك في مطلق غير الموالي

[7] لاحظ أنه يطلب من الباقر المعصوم (ع) الدليل و البرهان و الإمام (ع) لم ينهه عن ذلك بل أجابه بالبرهان و من باب أولى أن يطالب سائر الناس بالدليل فلا يقول العالم الفلاني أو العلاني بأنني عالم فاتبعوني دون مطالبة دليل فليس هذا من حق أحد حتى المعصوم

[8] ولكنه لم يتركها لأنه علم من كل مخلوق ما هو مستعد له علما أزليا ، فمن الوجوه التي يذكرها صاحب "مصابيح الأنوار" وهو الوجه السابع يقول (( السابع: ما اعتمده أكثر الأصحاب وعولوا عليه في هذا الباب وهو أن ذلك منزّل على العلم الإلهي فأنه تعالى لما خلق الأرواح كلها قابلة للخير والشر وقادرة على فعلها وعلم أن بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان وبعضها يعود إلى الشر المحض وهو الكفر باختيارها عاملها هذه المعاملة كالخلق من الطينة الطيبة أو الخبيثة فحيث علم الله من زيد أنه يختار الخير والإيمان البتة ولو لم يخلق من طينة طيبة خلقه منها ولما علم من عمرو أنه يختار الشر والكفر البتة خلقه من طينة خبيثة لطفاً بالأول وتسهيلاً عليه وإكراماً له لما علم من حسن نيته وعمله وبالعكس في الثاني وعلم الله ليس بعلة لصدور الأفعال وهذا معنى جيد تنطبق عليه أكثر أخبار الباب ويستنبط من أخبارهم (ع) كما أشير إليه في الحديث المذكور بقوله(ع) حكاية عنه تعالى : أنا المطلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحداً إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه ويستفاد ذلك من أخبار أخر ذكرها يفضي إلى التطويل.))

[9] المحور هو التوحيد و معرفة الله تعالى لا ولاية أهل البيت (ع) و إنما تعرض ولايتهم من حيث أنها الوسيلة إلى ذلك

[10] قوله "لا أبالي" لا يعني جزافا بل كما بينا

[11] وهذا دليل على أن الشيعي يمكن أن يدخل النار لأن الطينة الممزوجة منها ما إلى الجنة و منها ما إلى النار بخلاف ادعاء بعض الجهلة ، نعم لا يخلد الشيعي في النار

[12] يقول صاحب مصابيح الأنوار في الوجه الثالث: ((الثالث: أنها كناية عما علمه الله تعالى وقدره من أختلاط المؤمن والكافر في الدنيا واستيلاء أئمة الجور وأتباعهم على أئمة الحق وعلى أنّ المؤمنين إنما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم وعدم تولي أئمة الحق لسياستهم فيعذرهم لذلك ويعفو عنهم ويعذب أئمة الجور وأتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم. ))فمنشأ كثير من معاصي المؤمنين هو تولي النواصب لسياستهم و إلا لو كان هنالك دولة حق لما ارتكبوا تلك المعاصي

[13] مثال : كثير من الأعمال الحسنة التي تعملها دول الغرب اليوم لم تكن تعملها قبل الثورة الإسلامية ، فمن باب التأثر أو الحرج أو غير ذلك تقوم الدول الغربية ببعض الحسنات كما تقوم بعض الدول الإسلامية ببعض السيئات بسبب ضغوط الغرب أو تأثريهم

[14] وبالتالي فأنا – أي الله تعالى – أعلم ما يريده كل منهم

[15] يعني هل هو بائن من القرص أم هو عين القرص؟

[16] لاحظ تدقيق الليثي في الجواب من خلال ذكر هذا القيد "في حال طلوعه" كما أن مخاطبة الإمام له بهذا الحديث العميق يدلان على أن الليثي كان على قدر من العلم

[17] هذه إشارة إلى نظرية الظهور و البطون عند العرفاء ، فالعرفاء يفسرون الوجود و العدم بالظهور و البطون ، فهم يقولون ظهر منه شيء أي شعاع الشمس و عند الغروب يعود إليه (( إنا لله و إنا إليه راجعون )) و لكن عندما يظهر شعاع الشمس فهذا الشعاع هو غير الشمس حتى لو كان ذلك الشعاع الصادر الأول ، فإذا كان مراد القائلين بالوحدة الشخصية هذا المعنى فلا مداخلة معه ، أما إذا كان مراده هو هو و هو غيره فنحن لا نفهم ذلك

[18] و حيث أن أهل البيت (ع) هم معدن الخير و الفضيلة و التقوى (( إن ذكر الخير كنت أوله و أصله و معدنه و مأواه و منتهاه )) فكل خير يرجع إليهم ، و إنما كانوا هم (ع) هكذا لأن الله عرف منهم إرادة ذلك بعلمه الأزلي

[19] ألا من باب (( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة )) و ثانيا هذا لا يعفي المؤمن الذي عمل السيئة كما سيتبين في عبارة لاحقة تقول (( ومن هنا يصيب المؤمن السيئة و يصيب الكافر الحسنة )) و القرآن يقول بأن من أصاب السيئة فله جزاء ، نعم حيث أن الاعتقاد سالم فهو لا يخلد في النار إن دخلها

[20] أيضا من باب (( من سن سنة حسنة )) و أيضا الكافر الذي أتى بالحسنة يجزى بها

[21] فكل الضوابط الحاكمة لأفعال الله تعالى هو تعالى حكمها على نفسه و لم يحكمها أحد عليه



الدرس 65


· إشكال وجواب

- إشكال: إذا قلنا أن الله يعطي الاستعدادت لكل شخص ما علم بعلمه الأزلي أنه سيختاره ، فهل هذا يعني أن الله يهيئ مقدمات الشر لمن يريد أن يرتكب الشر؟
- جواب: مقتضى عدل الله تعالى و مقتضى أن يخرج كل مخلوق ما في باطنه هو أن يهيء له المقدمات ، و الله تعالى إنما يهيء مقدمات الوجود و الموجود هو من يجعلها خيرا أو شرا فالصبغة الإلهية لا لون لها و إنما لونها يأتي من المخلوق من إرادة الإنسان ونيته ، فعلى هذا الأساس فالطينة ليست علة تامة ولا جزء العلة أيضا ، فالله تعالى خلقهم من الطينة الفلانية لأنه علم من زيد أنه سيختار ما يتناسب مع هذه الطينة ، قال تعالى في الحديث القدسي ((أنا المطلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحداً إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه )) و في القرآن الكريم (( فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى و أما من بخل و استغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) و قال سبحانه (( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ))
- قال بعض الأعلام بأن الاستعدادات التي أعطاها الله تعالى الإنسان هي جزء العلة ، و نحن بينا أن إرادة الإنسان و اختياره هي تماما العلة و هي أساس الاستعدادات

· رواية أخرى من روايات الطينة

- البحار ص235 رقم 10 أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله خلقنا من أعلا عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إلينا وأنها خلقت مما خلقنا منه ; ثم تلا قوله: "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون "
- تعليق: الرواية واضحة حسب المباني التي ذكرناها ، فليس الخلق من طينتهم سبب تشيعهم بل تشيعهم هو سبب الخلق من طينتهم
- نجد من يجعل خلقهم من الطينة سبب تشيعهم كالسيد العلامة في الميزان ، نعم هم يقولون بأن خلقهم من تلك الطينة هو جزء العلة (المقتضى) لا العلة التامة ، و لكن نحن بحمد الله تعالى عكسنا المطلب و قلنا بأن ليس الخلق من الطينة هو سبب التشيع بل العكس

· رواية أخرى

- قال أبو عبد الله عليه السلام: أول من سبق من الرسل إلى بلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل: - لما اسري به إلى السماء - تقدم يا محمد فقد وطأت موطئا لم تطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل. ولولا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه[1]،فكان من الله عز وجل كما قال الله: "قاب قوسين أو أدنى "أي بل أدنى فلما خرج الأمر من الله وقع إلى أوليائه عليهم السلام فقال الصادق عليه السلام: كان الميثاق مأخوذا عليهم لله بالربوبية، ولرسوله بالنبوة، ولأمير المؤمنين والأئمة بالإمامة، فقال: ألست بربكم، ومحمد نبيكم، وعلي إمامكم، والأئمة الهادون أئمتكم ؟ فقالوا: بلى، فقال الله: "شهدنا أن تقولوا يوم القيمة "أي لئلا تقولوا يوم القيامة "إنا كنا عن هذا غافلين "فأول ما أخذ الله عز وجل الميثاق على الأنبياء بالربوبية ، وهو قوله: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم "فذكر جملة الأنبياء، ثم أبرز أفضلهم بالأسامي فقال: "ومنك "يا محمد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله لانه أفضهلم، "ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم "فهؤلاء الخمسة أفضل الانبياء، ورسول الله صلى الله عليه وآله أفضلهم، ثم أخذ بعد ذلك ميثاق رسول الله على الانبياء له بالايمان به، وعلى أن ينصروا أمير المؤمنين، فقال: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جائكم رسول مصدق لما معكم "يعني رسول الله صلى الله عليه وآله "لتؤمنن به ولتنصرنه "يعني آمير المؤمنين صلوات الله عليه تخبروا اممكم بخبره وخبر وليه من الائمة
- عن أمير المؤمنين عليهم السلام في خبر طويل: قال الله تبارك وتعالى للملائكة: "إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين "قال: وكان ذلك من الله تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم، قال: فاغترف ربنا تبارك وتعالى غرفة بيمينه من الماء العذب الفرات - وكلتا يديه يمين - فصلصلها في كفه فجمدت فقال لها: منك أخلق النبيين و المرسلين، وعبادي الصالحين، والائمة المهتدين، والدعاة إلى الجنة وأتباعهم إلى يوم الدين ولا ابالى، ولا اسأل عما أفعل وهم يسألون. ثم اغترف غرفة اخرى من الماء المالح الاجاج فصلصلها في كفه فجمدت ثم قال لها: منك أخلق الجبارين، والفراعنة، والعتاة، وإخوان الشياطين، والدعاة إلى النار إلى يوم القيامة وأشياعهم ولا أبالي، ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون. قال: وشرط في ذلك البداء فيهم، ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء، ثم خلط المائين جميعا في كفه فصلصلهما ثم كفأهما قدام عرشه وهما سلالة من طين
- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عزوجل خلق ماءا عذبا فخلق منه أهل طاعته، وجعل ماءا مرا فخلق منه أهل معصيته، ثم أمرهما فاختلطا، فلولا ذلك ما ولد المؤمن إلا مؤمنا، ولا الكافر إلا كافرا
- تعليق: قوله "فاختلطا" يفهم منه أنهما بإرادتهما اختلطا فهو عندما خلط طينتها كان عالما بأنهما يختلطان ، فقد علم من قلوبهم أنهم يريدون الاختلاط مع أهل الباطل
- عن علي بن الحسين صلوات الله عليه قال: إن الله عزوجل خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق الكافرين من طينة سجيل قلوبهم وأبدانهم، فخلط بين الطينتين فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن، ومن ههنا يصيب المؤمن السيئة، ويصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه (2) وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه
- تعليق: هنا بحث مفصل في هذه الرواية ليس هذا موضعه ، فما أثر خلق القلوب من طينة الأئمة و أبدانهم من دون ذلك ، فهل الأثر للقلب أم البدن؟ الأثر للقلب ، فماذا يكون تأثير خلق أبدان المؤمنين من دون الطينة؟ هذا يفسر عن طريق نظرية الحركة الجوهرية و أن النفس مادية الحدوث

[1] لاحظ أنه لأنه جاء من ذاك الموضع في قوس النزول فهو قادر على الصعود إليه في قوس الصعود ، فالله تعالى خلق قبل عالم التكليف والمادة عالما بنشآته و جعل في هذه النشأة المادية مظاهر لذلك العالم ، و وجدت أن واحدا فقط من الموجودات هو من سبق الناس أجمعين فهيأت له جميع الاستعدادات اللازمة كي يكون أفضل الخلق



الدرس 66


· روايات الطينة

- بإسناده إلى أبي بصير قال : دخلت على أبي عبدالله عليه السلام ومعي رجل من أصحابنا فقلت له : جعلت فداك يا ابن رسول الله إني لاغتم وأحزن من غير أن أعرف لذلك سببا ، فقال عليه السلام : إن ذلك الحزن والفرح يصل إليكم منا لانا إذا دخل علينا حزن أو سرور كان ذلك داخلا عليكم لانا وإياكم من نور الله عز وجل فجعلنا وطينتنا و طينتكم واحدة ، ولو تركت طينتكم كما أخذت لكنا وأنتم سواء ، ولكن مزجت طينتكم بطينة أعدائكم فلولا ذلك ما أذنبتم ذنبا أبدا . قال : قلت : جعلت فداك فتعود طينتنا ونورنا كما بدا ؟ فقال : إي والله يا عبد الله أخبرني عن هذا الشعاع الزاهر من القرص إذا طلع أهو متصل به أو بائن منه[1] ؟ فقلت له : جعلت فداك بل هو بائن منه ؟ فقال : أفليس إذا غابت الشمس و سقط القرص عاد إليه فاتصل به كما بدا منه ؟ فقلت له : نعم ، فقال : كذلك والله شيعتنا من نور الله خلقوا وإليه يعودون ، والله إنكم لملحقون بنا يوم القيامة ، وإنا لنشفع ونشفع ، و والله إنكم لتشفعون فتشفعون ، وما من رجل منكم إلا وسترفع له نار عن شماله ، وجنة عن يمينه ، فيدخل أحباءه الجنة وأعداءه النار ، فتأمل وتدبر في هذا الحديث فان فيه أسرارا غريبة .
- في الزيارة (( و أنفسكم في النفوس )) فالبعض يفسر هذه العبارة تفسيرا ظاهرا بأن نفوسهم من النفوس ولا إشكال في هذا التفسير ، و لكن التفسير الأعمق هو أن نسبة نفوس أهل البيت إلى نفوس العالمين كنسبة نفس الإنسان إلى بدنه ، فلا يمكن أن يحصل أثر في البدن دون أن تلتفت إليه النفس ، فكذلك هم (ع) بالنسبة إلى نفوس العالمين و الشواهد على ذلك كثيرة من الروايات
- عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب ، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ، ثم بعثهم في الظلال : فقلت وأي شيء الظلال[2] ؟ فقال : ألم تر إلى ظلك في الشمس شيء وليس بشيء؟ ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الاِقرار بالله وهو قوله عز وجل : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ، ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأنكر بعض وأقر بعض ، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب ، وأنكرها من أبغض ، وهو قوله عز وجل "ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل" ، ثم قال أبو جعفر عليه السلام : كان التكذيب ثَمَّ[3]
- ابن الوليد عن الصفار عن اليقطيني عن زياد القندي عن عبد الله بن سنان قال بينا نحن في الطواف إذ مر رجل من آل عمر فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره و أغلظ له و قال له بطل حجك إن الذي تستلمه حجر لا يضر و لا ينفع[4] فقلت لأبي عبد الله ع جعلت فداك أ ما سمعت قول العمري لهذا الذي استلم الحجر فأصابه ما أصابه فقال و ما الذي قال قلت له قال يا عبد الله بطل حجك إنما هو حجر لا يضر و لا ينفع فقال أبو عبد الله ع كذب ثم كذب ثم كذب إن للحجر لسانا ذلقا يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة ثم قال إن الله تبارك و تعالى لما خلق السماوات و الأرض خلق بحرين بحرا عذبا و بحرا أجاجا فخلق تربة آدم من البحر العذب و شن عليها من البحر الأجاج ثم جبل آدم فعرك عرك الأديم فتركه ما شاء الله فلما أراد أن ينفخ فيه الروح أقامه شبحا فقبض قبضة من كتفه الأيمن فخرجوا كالذر فقال هؤلاء إلى الجنة و قبض قبضة من كتفه الأيسر و قال هؤلاء إلى النار فأنطق الله عز و جل أصحاب اليمين و أصحاب اليسار فقال أهل اليسار يا رب لما خلقت لنا النار و لم تبين لنا و لم تبعث إلينا رسولا فقال الله عز و جل لهم ذلك لعلمي بما أنتم صائرون إليه[5] و إني سأبتليكم فأمر الله عز و جل النار فأسعرت ثم قال لهم جميعا في النار فإني أجعلها عليكم بردا و سلاما فقالوا يا رب إنما سألناك لأي شي‏ء جعلتها لنا هربا منها و لو أمرت أصحاب اليمين ما دخلوا فأمر الله عز و جل النار فأسعرت ثم قال لأصحاب اليمين تقحموا جميعا في النار فتقحموا جميعا فكانت عليهم بردا و سلاما فقال لهم أ لست بربكم قال أصحاب اليمين بلى طوعا و قال أصحاب الشمال بلى كرها فأخذ منهم جميعا ميثاقهم و أشهدهم على أنفسهم قال و كان الحجر في الجنة فأخرجه الله عز و جل فالتقم الميثاق من الخلق كلهم فذلك قوله عز و جل وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فلما أسكن الله عز و جل آدم الجنة و عصى أهبط الله عز و جل الحجر و جعله في ركن بيته و أهبط آدم ع على الصفا فمكث ما شاء الله ثم رآه في البيت فعرفه و عرف ميثاقه و ذكره فجاء إليه مسرعا فأكب عليه و بكى عليه أربعين صباحا تائبا من خطيئته و نادما على نقضه ميثاقه قال فمن أجل ذلك أمرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة
- أبي رحمه الله قال حدثنا سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبي عمير عن ابن أذينة عن أبي عبد الله ع قال كنا عنده فذكرنا رجلا من أصحابنا فقلنا فيه حدة فقال من علامة المؤمن أن تكون فيه حدة قال فقلنا له إن عامة أصحابنا فيهم حدة فقال إن الله تبارك و تعالى في وقت ما ذرأهم أمر أصحاب اليمين و أنتم هم أن يدخلوا النار فدخلوها فأصابهم وهج فالحدة من ذلك الوهج و أمر أصحاب الشمال و هم مخالفوهم أن يدخلوا النار فلم يفعلوا فمن ثم لهم سمت و لهم وقار
- تعليق: هذه رواية واردة في المقام ، يبقى البحث في سندها
- ففي البحار عن تفسير العياشي عن ابي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع ) , قال : ان اللّه تبارك وتعالى هـبـط الى الأرض في ظلل من الملائكة على آدم , وهو بواد يقال له الروحا , وهو واد بـيـن الـطـائف ومكة , قال : فمسح على ظهر آدم , ثم صرخ بذريته وهم ذر , قال : فخرجوا كما يـخرج النحل من كورها , فاجتمعوا على شفير الوادي , فقال اللّه : ياآدم من ظهرك لاخذ عليهم الميثاق لي بالربوبية , ولمحمد(ص )بالنبوة , كما اخذه عليهم في السما قال آدم : كيف وسعتهم ظهري ؟ قال اللّه يا آدم منهم في الميثاق ؟ قال اللّه : ان لايشركوا بي شيئا , قال آدم : فمن اطاعك منهم يا رب ؟ قـال : اسـكـنـه جنتي , قال آدم : فمن عصاك فما جزاؤه ؟ قال : اسكنه ناري قال آدم : يارب لقد عدلت فيهم ,وليعصينك اكثرهم ان لم تعصمهم

· بحث في الاستدراج و الامتحان ومكر الله تعالى و التوفيق بينها و بين العدل الإلهي

- هنا مجموعة أبحاث (1) ما معنى الامتحان و الاستدراج و المكر (2) الفرق بين الامتحان الإلهي و الامتحان البشري (3) هل الامتحان سنة إلهية لا تبدل ولا يستثنى منها أحد أم أنه ليس سنة إلهية؟ (4) ما آثار و فوائد الامتحان و الاستدراج و المكر الإلهي و لماذا جعلها الله تعالى في نظامه الأحسن بل هل تنسجم مع النظام الأحسن؟
- سؤال: هل يجوز أن نسمي الله تعالى ماكرا أم لا؟ الجواب: بلى يجوز قال تعالى (( ويمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين ))
- أشار السيد العلامة إلى هذه الأبحاث تقريبا في المجلد الرابع من الميزان ص31 (كلام في الامتحان و حقيقته) و لكنه قبل الدخول في هذا البحث قدم مقدمة مهمة
- الهداية على 3 أقسام (1) هداية عامة (( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )) فهذه هداية ليست خاصة بموجود دون الآخر فهي شاملة للجماد و الأحياء و كل شيء (2) الهداية الخاصة التي يقع في قبالها إضلال (( يهدي من يشاء و يضل من يشاء )) (( و الله لا يهدي القوم الفاسقين )) (3) الهداية بمعنى إراءة الطريق (( إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا )) (( و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ))
- حديثنا في النوع الأول من الهداية حاليا هي الهداية العامة ، فهذه هداية إلى ما يطلبه الموجود فقد تكون هداية إلى الجنة أو هداية إلى النار حسب اختيار الموجود ، قال السيد العلامة : ((فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكويناً إلى كمالها المقدَّر لها ، وهدايتها إلى كمالها المشرع لها ، وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين ، وكيف يحيط به القضاء والقدر . فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية . فلابد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة ، جيدة أو رديئة ، فلابدَّ لِسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي الشرعية ، وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية ، حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل )) وهذا هو الغرض الأساسي من الهداية العامة (( فيسعد أو يشقى )) و بالتالي فهي هداية في طريق السعادة أو الشقاوة و ليس في طريق السعادة فقط (( ويظهر ما في مكمن وجوده )) مما علمه الله تعالى بعلمه الأزلي (( وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما )) فمعنى البلاء الإلهي حينئذ يكون أن يهيء لكل موجود المقدمات اللازمة كي يظهر ما في مكمن وجوده ، و يوضح ذلك السيد العلامة بقوله ((ثم إنا نسمي نوع التصرفات في الشيء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه هل له صلوحه أو ليس له بالامتحان والاختبار ، فإنك إذا جهلت حال الشيء )) و هذا معنى الامتحان في الإنسان حيث يرافق الجهل (( أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح ، أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور ، حتى يظهر حاله بذلك ، هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه ، وتسمي ذلك امتحاناً واختباراً واستعلاماً لحاله أو ما يقاربها من الألفاظ . وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على أولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان ، فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية ، فهي امتحانات إلهية ، وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالباً عن الجهل بما في باطن الأشياء ، فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا ، والله سبحانه يمتنع عليه الجهل ، وعنده مفاتح الغيب ، فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان ، لأنه يظهر ويتعين بها حال الشيء أنه من أهل أي الدارين ؟ ، دار الثواب أو دار العقاب ؟ ، ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعنى التشريع وتوجيه الحوادث بلاءً وابتلاءً وفتنة ، فقال تعالى بوجه عام : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف : 7 . وقال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) الإنسان : 2 ، وقال : ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء : 35 . وكأنه يريد به ما يفصله قوله : ( فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ) الفجر : 15 - 16 . وقال تعالى : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) التغابن : 15 . وقال تعالى : ( وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ) محمد : 4 . وقال تعالى : ( كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) الأعراف : 163 . وقال تعالى : ( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً ) الأنفال : 17 . وقال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) العنكبوت : 2 - 3 . وقال تعالى في مثل إبراهيم : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) البقرة : 124 . وقال تعالى في قصة ذبح إسماعيل : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ) الصافات : 106 . وقال تعالى في موسى : ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) طه : 40 ، إلى غير ذلك من الآيات . .. الخ ))
- مثال لطيف يذكره جوادي آملي ، أن مفتاح الباب إذا استخدم في جهة معينة يكون مفتاحا و إذا استخدم في الجهة المقابلة يكون مغلاقا و إرادة الإنسان هي التي تحدد ما إذا كان استخدامه للفتح أو الغلق ، فهذه الآلة بما هي هي ليست إلا قطعة من الحديد و إرادة الإنسان ما يجعلها مفتاحا أو مغلاقا ، كذلك التشريعات إذا استفيد منها بما يوصل إلى السعادة تفتح أبواب السماء و لكن إذا استخدمت هذه التشريعات في غير ما خصص لها تكون مغاليق
- بهذا يكون تبين معنى الامتحان و الابتلاء و يبقى تبيين معنى الاستدراج

[1] لاحظ مدى أهمية هذا المثل و تكرره في الروايات

[2] من هنا نعرف أن ما ورد في كلمات الفلاسفة من عبارات كقولهم "وحدة حقة ظلية" ليست جزافية بل هي واردة في كلمات الأئمة

[3] فلا بد أن هنالك نشأة أخرى كذبوا فيها

[4] وهذه النظرية لا زالت حية إلى اليوم و هي نظرية الوهابية

[5] عبارة واضحة جدا في الدلالة على ما ذكرناه



الدرس 67


· الاختبار و الامتحان

- يستخدم القرآن الكريم الكثير من التعابير للإشارة إلى بحث الاختبار و الامتحان (الاختبار ، الامتحان ، التمحيص ، المكر ، الاستدراج ، الإملاء ، الفتنة .. الخ) و لكننا لسنا بصدد استقصائها و بيان المراد منها لأن ذلك بحث تفسيري لا علاقة له بعلم الكلام
- قلنا أن الامتحان هو إخراج ما هو مكنون إلى الظاهر ، أي إخراج ما هو بالقوة إلى الفعل ، لكي يعلم الله تعالى من الإنسان ما علمه من علما يعلمه منه عينا
- الميزان ج4 ص34 : ((وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على أولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان ، فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية ، فهي امتحانات إلهية )) فإنزال الشريعة للإنسان من أبرز مصاديق الاختبار الإلهي لأن ذلك سيبرز ما هو مكنون في باطن الإنسان ، و كلامنا عن الإنسان باعتباره الموجود المكلف و قد يكون هنالك موجودات مكلفة أخرى لا نعلم عنها
- قال السيد العلامة : (( توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقَّت عليه كلمة العذاب إن بقى على تلك الحال . فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر والنواهي الإلهية ، ويخرج بها من القوة إلى الفعل ، تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء ، وإن كان راضياً بما عنده ، مغروراً بما يجده . فليس ذلك إلا مكراً إلهيّاً ، فإنه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ، ويخيب سعيهم في ما يظنُّونه فوزاًَ لأنفسهم قال تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) آل عمران : 54 . وقال تعالى : ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) فاطر : 43 . وقال تعالى : ( لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) الأنعام : 123 . وقال تعالى : ( سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف : 183 . فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد ، فإنه يعينه على نفسه فيما أراده قال تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) العنكبوت : 4 . ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى : ( فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا ) الرعد : 42 . فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام - ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم - مكر إلهي وإملاء واستدراج . فإن من حقِّهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته [1]، وقد فعل والله غالب على أمره . وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم ، والنزوع إليها دعوة ، ووسوسة ، ونزعةً ، ووحياً ، وإضلالاً ، والحوادث الداعية وما يجرى مجراها زينة له ، ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجيء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى . وأما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التي تستقبله ، فيظهر منه عندها ذلك ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهية ، والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق . قال تعالى : ( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء ) آل عمران : 13 . وقال تعالى : ( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران : 68 . وقال تعالى : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ) البقرة : 257 . وقال تعالى : ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) يونس : 9 .
- وقال تعالى : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام : 122 . هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه ، وأما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمَّى تأييداً وتسديداً منهم . فقال تعالى : ( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) المجادلة : 22 .
- س: لماذا يمكر الله بالبعض دون البعض الآخر؟ الجواب: لأنه علم ما يريده كل إنسان
- إذا علم الله من الإنسان المؤمن أنه يريد الخير و لكنه لو خلي و إرادته فإن إرادته توصله إلى 10 درجات من الخير و لكن مع العناية الخاصة من الله تعالى يصل إلى 100 (( و لدينا مزيد )) مثال: لو ترك الرسول (ص) و إرادته ، فمع أنه يريد الخير لكنه لا يصل إلى مقام (( قاب قوسين أن أدنى )) إلا بعناية خاصة من الله تعالى
- قال السيد العلامة (( فالأشياء محاطة بقوى إلهية ، قوة تدفعها وقوة تجذبها ، وقوة تصاحبها وتربيها ، وهي القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك )) فهنالك أسباب تكوينية تدفع نحو الخيرات و الشرور

· معنى الهداية الخاصة والإضلال الخاص

- - سمينا الهداية العامة امتحانا و اختبارا و استدراجا ، و السؤال: هل هنالك أسماء أخرى لهذه الهداية العامة؟ جواب: تتسمى هذه الهداية بحسب القابل كي يستخدمها و يستعملها و فيما إذا كان يستفيد منها أم ينضر ، قال السيد العلامة : (( وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم ، والنزوع إليها دعوة ، ووسوسة ، ونزعةً ، ووحياً ، وإضلالاً ، والحوادث الداعية وما يجرى مجراها زينة له ، ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجيء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى . وأما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التي تستقبله ، فيظهر منه عندها ذلك ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهية ، والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق . )) وهذا معنى "والله يؤيد بنصره من يشاء" فأعطى الله هؤلاء وهؤلاء لكن بعضهم استخدمه في الخير فسمي هداية خاصة و بعضهم استخدمه في الشر فسمي إضلالا خاصا

· الفرق بين الامتحان الإلهي والبشري

- الامتحان البشري يرافقه الجهل فالإنسان يمتحن الإنسان ليعرف بعض كوامنه و لكن الله تعالى عالم من الأزل بكوامن الإنسان لكنه يمتحنه كي يخرجها من القوة إلى الفعل فتتم الحجة على الإنسان ، قال السيد العلامة : (( وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالباً عن الجهل بما في باطن الأشياء ، فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا ، والله سبحانه يمتنع عليه الجهل ، وعنده مفاتح الغيب فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان ، لأنه يظهر ويتعين بها حال الشيء أنه من أهل أي الدارين ؟ ، دار الثواب أو دار العقاب ؟ .
- ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعنى التشريع وتوجيه الحوادث بلاءً وابتلاءً وفتنة ، فقال تعالى بوجه عام : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف 7))
- الغرض من الامتحان الإلهي هو رفع الجهل عن الممتحن – بفتح الحاء – لا الممتحن – بكسرها – و هو الله تعالى

· هل الامتحان سنة إلهية لا تقبل التبدل ولا يستثنى منها أحد؟

- يذكر السيد العلامة في مواضع متعددة من تفسيره أن الاختبار و الامتحان سنة إلهية لا تقبل التبديل ولا يستثنى منها أحد (راجع الميزان ج16 ص100 ، ج16 ص114 ، ج4 ص36)
- يقول السيد العلامة : ((فقد بَان أن سُنَّة الامتحان سُنَّة إلهية جارية ، وهي سُنَّة عملية متكئة على سُنَّة أخرى تكوينية ، وهي سُنَّة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين ، كالإنسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها ، أي القدر والأجل كما مرَّ بيانه . ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ ، فإن انتساخها عين فساد التكوين ، وهو محال ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى : ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) الأحقاف : 3 . وقوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون : 115 . وقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الدخان : 38 - 39 .وقوله تعالى : ( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) العنكبوت : 5 ، إلى غيرها . فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية ، وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقة ، ومن ورائها مقادير حقة ، ومعها هداية حقة ، فلا مناص عن تصادمها عامة ، وابتلاء أرباب التكليف منها . خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل ، وهذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك . ))
- سؤال: هل يستثنى أحد من الابتلاء؟ الجواب: لا يستثنى أحد قال السيد العلامة : ((وقال تعالى في مثل إبراهيم : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) البقرة : 124 . وقال تعالى في قصة ذبح إسماعيل : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ) الصافات : 106 . وقال تعالى في موسى : ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) طه : 40 ، إلى غير ذلك من الآيات . والآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده وأجزاء وجوده ، كالسمع والبصر والحياة ، والخارج من وجوده المرتبط به بنحو ، كالأولاد والأزواج ، والعشيرة والأصدقاء ، والمال والجاه ، وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع . وكذا مقابلات هذه الأمور ، كالموت ، وسائر المصائب المتوجهة إليه ، وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاءً من الله سبحانه بالنسبة إليه . وفيها تعميم آخر من حيث الإفراد ، فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر ، وصالح أو طالح ، ونبي أو من دونه ، فهي سُنَّة جارية لا يُستثنى منها أحد . فقد بَان أن سُنَّة الامتحان سُنَّة إلهية جارية ، وهي سُنَّة عملية متكئة على سُنَّة أخرى تكوينية ، وهي سُنَّة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين ، كالإنسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها ، أي القدر والأجل كما مرَّ بيانه . ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ ، فإن انتساخها عين فساد التكوين ، وهو محال ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى : ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) الأحقاف : 3 . وقوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون : 115 . وقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الدخان : 38 - 39 . وقوله تعالى : ( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) العنكبوت : 5 ، إلى غيرها . فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية ، وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقة ، ومن ورائها مقادير حقة ، ومعها هداية حقة ، فلا مناص عن تصادمها عامة ، وابتلاء أرباب التكليف منها . خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل ، وهذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك . ))

· فوائد الاختبار و الامتحان:

- فوائده كثيرة منها:
(1) ترتب الثواب و الأجر الإلهي
(2) تمييز المؤمنين عن المنافقين في مقام الفعل لا الذات (( و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين ))
(3) تمييز درجات المؤمنين أنفسهم ، راجع البحار ج5 ص210
(4) الابتلاء يرفع همة الإنسان ، راجع ج9 من الميزان ص124

[1] هذه العبارة من العبارات الأساسية في المطلب ، و قد بينا أن لا حق لأحد على الله إلا أن يقال ذلك بالمعنى الذي بيناه آنفا



الدرس الثامن و الستون


· الروايات في مسألة التمحيص و الاختبار و الابتلاء

- راجع البحار ج5 ص210-220
- على بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء
- تعليق: تدل الرواية على أن في كل شيء ابتلاء ففي كل نعمة و نقمة بل حتى في الشريعة ابتلاء
- عن الإمام الصادق (ع): (( إنّ الله إذا أراد بعبدٍ خيرا فأذنب ذنبا: أتبعه بنقمة، ويذكره الاستغفار.. وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا: أتبعه بنعمة؛ لينسيه الاستغفار، ويتمادى بها.. وهو قول الله عزّ وجلّ: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} بالنعم عند المعاصي )).
- علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج، وعلي بن رئاب ، عن أبي عبد الله عليه السلام إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر وخطب بخطبة ذكرها يقول فيها: ألا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن، غربلة حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سباقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا، والله ما كتمت وسمة، ولا كذبت كذبة، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم
- أشرنا في بحث سابق أن الله أخذ على نفسه أن لا يظلم أحدا ، ولكنه لم يأخذ على نفسه أن لا يبتلي أحدا ، و في هذا ورد في الرواية ((أيها الناس إن الله تعالى قد أعاذكم من أن يجور عليكم ولم يعذكم من أن يبتليكم، وقد قال جل من قائل: "إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين " ))
- تبين مما سبق أنه على أي أساس تختلف درجات الابتلاء و تكراره ، فهذا مبني على ما علمه الله تعالى في علمه الذاتي الأزلي عن العبد (( إنا كنا نستنسخ ما كنت تعملون )) فأعمالكم هي نسخة من العلم الذاتي
- ورد في حاشية البحار عن علي (ع) قال: لا يقولن أحدكم: اللهم أعوذ بك من الفتنة، لانه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فان الله سبحانه يقول: "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة "ومعنى ذلك أنه يختبرهم بالاموال والاولاد ليتبين الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التى بها يستحق الثواب والعقاب، لان بعضهم يحب الذكور ويكره الاناث، وبعضه يحب تثمير المال ويكره انثلام الحال. قال الرضى: وهذا من غريب ما سمع منه في التفسير.
- تعليق : بين في الرواية سبب الامتحان بقوله " ولكن لتظهر الأفعال التى بها يستحق الثواب والعقاب" فالهدف الأساس من الامتحان الإلهي هو أن يظهر العلم لنا لا لله تعالى و هذا فرق أساسي بين الامتحان الإلهي و البشري

بحث في القضاء و القدر الإلهي


· انسجام القضاء و القدر مع الاختيار

- مبنانا أن الله تعالى يهيئ للإنسان المقدمات بحسب ما علم أن العبد سيختاره بعلمه الذاتي الأزلي ، و هنا سؤال: كيف ينسجم ذلك مع الاختيار و ألا يلزم ذلك الجبر؟

· أهمية القضاء و القدر وحكم الخوض في هذا البحث

- وردت روايات كثيرة جدا في القضاء و القدر (راجع البحار ج5 ص84-135) فالروايات في هذا الباب 79 رواية غير الآيات الواردة في المقام
- عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة: حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله بعثني بالحق، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت، وحتى يؤمن بالقدر
- تعليق: الإيمان بالقدر كما في الرواية في عداد أصول الدين ، و هنا يستوقفنا سؤال: ما هذه الأهمية الكبيرة التي تجعل الرسول يجعلها في مصاف أصول الدين و ما هذه الأهمية الكبيرة التي تجعل القرآن يركز على مسألة القضاء و القدر؟
- عن أبي الحسن الاول عليه السلام قال: لا يكون شئ في السماوات والارض إلا بسبعة: بقضاء، وقدر وإرادة، ومشية، وكتاب، وأجل، وإذن، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله، أورد على الله عزوجل
- تعليق: الظاهر أن الترديد في ذيل الرواية من الرواي لا الإمام
- قال العالم كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما يسأله عن القدر، وكتب إليه: فاتبع ما شرحت لك في القدر مما افضي إلينا أهل البيت فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عزوجل فقد افترى على الله افتراءا عظيما، إن الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه، ولا يعصى بغلبة، ولا يهمل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، والقادر لما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادا عنها مبطئا، وإن ائتمروا بالمعصية قال العالم كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما يسأله عن القدر، وكتب إليه: فاتبع ما شرحت لك في القدر مما افضي إلينا أهل البيت فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عزوجل فقد افترى على الله افتراءا عظيما، إن الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه، ولا يعصى بغلبة، ولا يهمل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، والقادر لما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادا عنها مبطئا، وإن ائتمروا بالمعصية
- المعارف الواردة في القرآن و السنة على قسمين (1) معارف المطلوب منها أساسا العمل كالصلاة و الصوم و الحج و غيرها و هذه لا يجب أن يعرف الإنسان حقيقتها و فلسفتها و حكمتها لأن المطلوب الأساسي منها العمل ، فربما تعرف الإنسان على حقيقتها و ربما لم يتعرف على ذلك ولا يمنع ذلك الإنسان من الاعتقاد بها و الإيمان بها تعبدا و ترتيب العمل عليها خارجا و هذه ما نعبر عنها بالتعبديات أي أن المطلوب منها أساسا هو العمل و من هنا فإن التقليد فيها جائز (2) معارف مقصود منها الإيمان و الاعتقاد بشكل أساسي
- القضاء و القدر هنا من القسم الثاني من المعارف ، فهي من أفعال القلوب التي لا بد أن يعتقد بها الإنسان و يعقد عليها قلبه
- سؤال: كيف يمكن أن يأمرنا أهل البيت بأن نعتقد بشيء لا نعرفه (( بحر عميق فلا تلجوه ))؟ الجواب: هذا لا معنى له ولا يقول به عاقل فالقضاء و القدر ليسا كالصلاة نؤمن بها دون أن نعرف حقيقتها ، فالإيمان بالقضاء و القدر يتوقف على فهمهما
- سؤال: كيف نبحث القضاء و القدر مع ورود روايات تذم الخوض في القضاء و القدرو منها ما ذكرها السيد العلامة في "الرسائل التوحيدية" ص65 : (( وأجمع خبر في ذلك ما استفاض نقله عن علي (ع) أنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال: بحر عميق فلا تلجه. فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. قال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. فقال: سر الله فلا تتكلفه ))
- تعليق: نلاحظ أن السيد العلامة يشير إلى أن الخبر مستفيض
- البحار ج5 قال أمير المؤمنين عليه السلام في القدر: ألا إن القدر سر من سر الله، وحرز من حرز الله مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم، لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية، ولا بقدرة الصمدانية ، ولا بعظمة النورانية، ولا بعزة الوحدانية، لأنه بحرز آخر، مواج ، خالص لله عز وجل، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان، تعلو مرة وتسفل أخرى، في قعره شمس تضئ، لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد، فمن تطلع عليها فقد ضاد الله في حكمه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير.
- تعليق: أمثال هذه الروايات يستدل بها من لا خبرة له بمعارف أهل البيت على حرمة الخوض في هذه المعارف ، و نحن نجد في نفس هذه الروايات أن هذا البحث ليس ممنوعا عن الجميع بل ممنوع عن البعض دون البعض الآخر فالنهي ليس نهيا إنشائيا يريد أن يحرم بل هو إخبار عن قدرات الناس ، من قبيل قوله (ع) (( عميت عين لا تراك عليها رقيبا )) فهذا ليس إنشاء بل إخبارا بمعنى أن كثيرا من الناس لا يمكنهم أن يروك عليهم رقيبا فليس الإمام بصدد الدعاء على هؤلاء
- تعليق: قوله ((في قعره شمس تضئ، لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد، فمن تطلع عليها فقد ضاد الله في حكمه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير)) لعله يريد الإمام أن يقول بأن مباحث القضاء و القدر هي لخاصة أهلها و من أعطاها لغير أهلها فقد ظلم نفسه كما أن من منعها من أهلها فقد ظلمهم ، كما يقول الشيخ في آخر الإشارات في وصيته بأن إن أعطيت الإشارات لغير أهلها فالشيخ خصيم من يعطيها يوم القيامة .
- البحار ج5 عن أبيه، عن جده قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه. فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم فلا تسلكه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر قال: سر الله فلا تتكلفه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أماإذا أبيت فإنيسائلك: أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله ؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد ; فقال أمير المؤمنين عليه السلام قوموا فسلموا على أخيكم فقد أسلم، وقد كان كافرا، قال: وانطلق الرجل غير بعيد ثم انصرف إليه فقال له: يا أمير المؤمنين أبا لمشية الاولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: وإنك لبعيد في المشية ؟ ! أما اني سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شئ منها مخرجا: أخبرني أخلق الله العباد كما شاء أو كما شاؤوا ؟ فقال: كما شاء، قال: فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاؤوا ؟ فقال: لما شاء، قال: يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤوا ؟ قال: يأتونه كما شاء، قال: قم فليس إليك من المشية شئ
- تعليق: لاحظ القرينة في الرواية على جواز البحث في القضاء و القدر حينما قال (ع) (( أما إذا أبيت فإني .. )) فلو كان الجواب ممنوعا لما أجاب الإمام سؤال السائل حتى مع إصراره
- تأتي أهمية مسألة القضاء و القدر من ارتباطها بمسائل أساسية هي (1) مسألة المصير الإنساني و الجبر والاختيار فهل القدر هو الجبر أم لا؟ (2) البداء وهو من صلب اعتقادات الإمامية (3) مسألة التوحيد الأفعالي
- أحد أدلة الأشاعرة القوية لإثبات الجبر هي عقيدة القضاء و القدر
- راجع بحث التوحيد الأفعالي في كتاب التوحيد للسيد كمال الحيدري
- ليس من الممكن أن نجعل الإنسان كلهم فلاسفة فنحن في الحوزة لا يمكننا أن نجعل جميع طلبتها يدرسون الفلسفة و يفهمونها و لكن المطلوب أن الثقافة التي نعطيها الأمة تكون ثقافة صحيحة ، فمن خلال مبانينا الفلسفية نشيع في الأمة روح التعاون و التقدم و الرحمة و الائتلاف ومنشأ الثقافة التي ندعو إليها هو منشأ عقائدي فلسفي



لن يتم تقرير مباحث القضاء و القدر لأنها سبق و قررت بشكل مفصل في كتاب التوحيد ج2 للسيد كمال الحيدري