السبت، 6 أغسطس 2011

تفريغ الدروس من 41 إلى 50

الدرس الواحد و الأربعون



· كان الكلام في الدرس السابق في الجمع بين قوله تعالى (( الذي أحسن كل شيء خلقه )) و (( الله خالق كل شيء )) و استنتجنا من ذلك أن كل ما في الوجود حسن ، و قلنا بأنه قد يظهر أن هنالك تناقض بين هذه النتيجة و بين قولنا بأن بعض الأفعال قبيحة ولا ينبغي أن تفعل كالكذب و سائر المحرمات؟ هذه الشبهة واحدة من أهم شبهات الجبرية فهم قالوا بأنه لا يوجد في الإمكان إلا فعل الله تعالى و أفعاله كلها حسنة ، فجرائم صدام مثلا هي أفعال الله و هي حسنة حسب منطقهم ، و بالتالي لا وجود للقبيح أصلا بل كل ما في الإمكان حسن (ملاحظة : هذه النقطة بحثت بشكل واسع في التوحيد ج2 إشكالية الشرور)
· الجواب: إنما يتناقض قولنا السابق إذا كان الفعل صادرا عن فاعل واحد و لكن في محل كلامنا فإن الفعل ينبغي أن يوجده الله تعالى ولا ينبغي أن يوجده الإنسان ، فالانبغاء متعلق بفاعل و عدم الانبغاء متعلق بفاعل آخر ، فنحن بينا في المقدمات أن الحسن و القبح فاعليان لا فعليان
· سؤال: إذن إذا كان الفعل حسنا و جميلا فلماذا حرمه الله تعالى عليك و قال بأنه لا ينبغي لك أن تفعله؟
· الجواب: لأنه مانع إياك بأن تصل إلى الكمال المطلوب لك ، فعندما حرمه الله عليك كان تحريمه من أجلك أنت
· سؤال: هل القبح الموجود في الفعل نفسي أم نسبي؟ و هل حسنه نفسي أم نسبي؟
· الجواب: قبحه نسبي و حسنه نفسي ، ولا منافاة بأن يكون الفعل في نفسه حسن و لكن إذا كان مزاحما لغيره يكون قبيحا ، نعم إذا كان هناك فعل في نفسه حسن و هو في نفسه قبيح يكون هنالك تناقض ، و لكن الأفعال جميعا بالنسبة إلى الله تعالى على حد واحد ، ففعل النكاح و الزنا بالنسبة إلى الله تعالى على حد واحد ، و إنما تتصف هذه الصفات بالحسنة و المعصية بالنسبة إلى العبد المخلوق و هذا معنى قول السيد العلامة أن الاتصاف بالطاعة و المعصية مرتبطة بالفاعل و ليست مرتبطة بالله تعالى لأن العبد هو من يريد أن يصل إلى كماله المفقود
· نتيجة: للأفعال نسبة إلى الله و نسبة إلى فاعل الفعل و كلا النسبتين حقيقية ، فنسبة الفعل إلى الله تعالى هو إعطائي القدرة على فعل الفعل و تهيئة المقدمات اللازمة لفعل الفعل والفعل بهذه النسبة حسن ، و لكن له نسبة إلى الفاعل و هذا قد يكون قبيحا على الفاعل أن يفعله فيحرمه الشارع
· الحب نوعان: (1) تكويني و هو مرتبط بالإيجاد فلا يمكن أن يوجد شيء في الوجود و الله لم يأذن بوجوده فقد أذن الله سبحانه بأن يخلق الخمر و فعل الزنا و كل فعل آخر فهذه الأفعال مأذون بها تكوينا لا تشريعا ، بمعنى أن الله سبحانه أراد إيجاده بعدما أردت أنا ذلك و لكنه أراد إرادة تكوينية لا تشريعية (2) حب تشريعي بأن يجيز الله تعالى شرعا فعل الفعل
· مثال: إنسان يركب سيارة و يقودها و لكن السيارة تحتاج أيضا إلى شخص آخر يدفع السيارة من الخارج ، فافترضوا أن الدافع الخارجي للسيارة هو الله و متى توقف عن الدفع وقفت السيارة مباشرة لأن حركتها بهذا الدفع ، و لكن قيادة السيارة هي بإرادة الإنسان ، و الله دائما تعلقت إرادته بأن يدفع السيارة أي يفيض على أفعال الإنسان الوجود آنا فآنا ، و هو قد زود الإنسان قائد السيارة عقلا و نبيا (وحيا) و علمه كيفية قيادة السيارة ، فالله عندما يدفع السيارة خارجيا فهذا بمنزلة حسن الفعل نسبة إليه و بمنزلة حبه التكويني بأن يمد دائما ، و لكن من جهة أخرى لأنه أعرف بمصلحة قائد السيارة و الطريق الموصل إلى كماله يقول هذا لا ينبغي و هو البغض التشريعي لا التكويني
· كل الواجبات محبوبة تكوينا و تشريعا ، و كل المحرمات محبوبة تكوينا و مبغوضة تشريعا
· قلنا بأن الفيض الذي يأتي من الله ليس له لون و إنما يتلون عندنا فيصبح طاعة أو معصية
· السيد العلامة في حاشية له على الكافي ج1 ص150 : (( الحب حبان حب تكويني يتعلق بوجود الشيء من حيث وجوده و حب تشريعي يتعلق بالشيء من حيث هو حسن جميل ولا يتعلق بالقبيح أبدا .. الخ ))
· هناك غرض و فائدة ترجع إلى الفاعل و غرض و فائدة ترجع إلى الفعل ، فالله سبحانه عندما شرع و وضح الأحكام الدينية له غاية ترجع إلى المخلوق لا إليه سبحانه (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) فأفعال الله سبحانه معللة بالأغراض و لكن الأغراض ترجع إلى الفعل لا إلى الفاعل لأنه عين الكمال ، فغرض الخلق هو العبادة لأن العبادة تحقق كمال الإنسان
· قال الطباطبائي في الحاشية : (( للمشيئة والارادة انقسام إلى الارادة التكوينية الحقيقية والارادة التشريعية الاعتبارية )) ولا يريد بالاعتبارية هنا ما لا حقيقة له كما يتضح بتكملة قوله (( فان ارادة الانسان التى تتعلق بفعل نفسه نسبة حقيقية تكوينية تؤثر في الاعضاء الانبعاث إلى الفعل ويستحيل معها تخلفها عن المطاوعة الا لمانع واما الارادة التى تتعلق منا بفعل الغير كما إذا امرنا بشئ أو نهينا عن شئ فانها ارداة بحسب الوضع والاعتبار، لا تتعلق بفعل الغير تكوينيا، فان ارادة كل شخص انما تتعلق بفعل نفسه من طريق الاعضاء والعضلات ومن هنا كانت ارادة الفعل أو الترك من الغير لا تؤثر في الفعل بالايجاد والاعدام، بل تتوقف على الارادة التكوينية من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله لا عن اختيار آمره وناهيه، إذا عرفت ذلك علمت ان الارادتين يمكن ان تختلفا من غير ملازمة، كما ان المعتاد بفعل القبيح ربما ينهى نفسه عن الفعل بالتلقين وهو يفعل من جهة الزام ملكته الرذيلة الراسخة، فهو يشاء الفعل بارادة تكوينية ولا يشاؤه بارادة تشريعية ولا يقع الا ما تعلقت به الارادة التكوينية والارادة التكوينية هي التى يسميها عليه السلام بارادة حتم والتشريعية هي التى يسميها بارادة عزم. وارادته تعالى التكوينية تتعلق بالشئ من حيث هو موجود ولا موجود الا وله نسبة الايجاد إليه تعالى بوجوده بنحو يليق بساحة قدسه تعالى وارادته التشريعية تتعلق بالفعل من حيث انه حسن وصالح غير القبيح الفاسد فإذا تحقق فعل موجود قبيح، كان منسوبا إليه تعالى من حيث الارادة التكوينية بوجه ولو لم يرده لم يوجد، ولم يكن منسوبا إليه تعالى من حيث الارادة التشريعية، فان الله لا يأمر بالفحشاء. فقوله عليه السلام: ان الله نهى آدم عليه السلام عن الاكل وشاء ذلك وامر ابراهيم عليه السلام بالذبح ولم يشأه اراد بالامر والنهى التشريعيين منهما وبالمشيئة وعدمها التكوينيين منهما. واعلم ان الرواية مشتملة على كون المأمور بالذبح اسحاق دون اسماعيل وهو خلاف ما تظافرت عليه اخبار الشيعة ))
· من هنا يتبين أن (( شاء الله أن يراني قتيلا )) هذه المشيئة تكوينية لا تشريعية ، فالله تعالى علم منذ الأزل أنه سيأتي شخص و يريد قتل الحسين فشاء هو سبحانه مشيئة تكوينية ، و لهذا روي عن أبى بصير قال : قلت : لابى عبدالله عليه السلام : شاء وأراد وقدر وقضى ؟ قال : نعم قلت: وأحب ؟ قال : لا ، قلت : وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب ؟ قال : هكذا خرج الينا . ))
· سؤال: عندما نهى الله سبحانه عن قتل الحسين (ع) هل شاء أن يقتل الحسين أم لم يشأ؟ إن كان شاء فسيقع الفعل جزما و بالتالي يكون العبد مجبورا على المعصية ، و إن كان لم يشأ لن يقع الفعل
· الجواب: شاء الله تعالى بالأزل أو لم يشأ بالأزل لأنه هو علم من العبد أنه سيشاء أو لا يشاء و بالتالي شاء هو سبحانه و هكذا لا تنافي مع اختيار الإنسان
· نكتة: قوله تعالى (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا )) هذه الإرادة إرادة تكوينية لا تنافي اختيار أهل البيت (ع) لأنه سبحانه علم أنهم لا يأتون الذنب أزلا و أبدا فشاء تكوينا أن يذهب عنهم الرجس
· يتبين إلى هنا أن الانبغاء و عدم الانبغاء في الأفعال بالنسبة إلى الإنسان مبتني على المصالح و المفاسد المبتنية على فكرة الوصول إلى القرب الإلهي أو الابتعاد عن الله سبحانه و الذي هو غاية كمال الإنسان
· بعض الأفعال ليس فيها مفسدة ولا مصلحة للإنسان وهي المباحات
· إذن المصالح و المفاسد في أفعال الإنسان و الحسن و القبح ليس لها واقع لأنها إنما هي بالنسبة إلى الإنسان لا بالنسبة إلى الله تعالى

الدرس الثاني و الأربعون


الدرس السابق:

· هنالك مصالح و مفاسد وراء الأحكام التي تصدر من الشارع لأنه إنما وجد الشرع لإيصال الإنسان إلى كماله المطلوب و لتخليصه من الوقوع فيما فيه نقصه فعندما يأمر الشارع بشيء فإن فيه مصلحة للعبد و عندما ينهى عن شيء فإن فيه مفسدة للعبد
· ميزنا بين الحب التكويني و التشريعي و بينا أن الفعل مطلقا محبوب تكوينا و إن كان مبغوضا تشريعا
· المصالح و المفاسد المترتبة على الأوامر والنواهي الإلهية هي أمور نسبية منسوبة إلى المخاطب – بفتح الطاء – بالحكم الشرعي ، و كونها أمورا نسبية لا ينافي كونها واقعية ، فمثلا شرب الماء الآسن بالنسبة إلى الإنسان فيه ضرر و لكن بالنسبة إلى المواشي ليس فيه ضرر ، فمفسدة الماء الآسن لصحة الإنسان أمر واقعي و لكنه نسبي
· أمثلة: الزنا بالنسبة إلى العاقل فيه مفسدة و لكن بالنسبة إلى المجنون ليس فيه مفسدة ، و الكذب بالنسبة إلى الطفل ليس فيه مفسدة و لكن بالنسبة إلى البالغ فيه مفسدة
· تبين أن نسبية الشيء لا تنافي واقعيته ولا تستلزم اعتباريته
· إذن: الانبغاء و عدم الانبغاء أمران نسبيان و واقعيان

المراد من المصلحة و المفسدة

· الإنسان سنخ موجود فيه مجموعة قوى كما بينا كالشهوية و الغضبية ، و لو أمر الله تعالى بما هو خلاف هذه القوى لكان ذلك قبيحا ، فلزم أن يأمره و ينهاه بما هو منسجم مع قواه ، و على هذا يتبين أننا نقول بأن الزنا مثلا لا ينبغي لأن فيه مفسدة بينما يقول الأشعري بأنه لا ينبغي لأن الله تعالى قال ذلك و لو قال الشارع بأنه ينبغي لصار حسنا
· الشارع لم يقض على أصل قوى الإنسان و إنما حدد دوائرها و هذبها


هل الأحكام الشرعية ناشئة عن مصالح و مفاسد أم أن المصلحة هي في امتثال الحكم الشرعي دون أن يكون له مصلحة واقعية؟

· يمكننا إدراك بعض المصالح و المفاسد وراء الأحكام الشرعية و لكننا لا ندرك البعض الآخر
· مبنى تقسيمنا للأحكام الشرعية إلى (1) أحكام ظاهرية (2) أحكام واقعية ، مبني على أننا من المخطئة لا المصوبة ، بمعنى أننا نرى أن المجتهد عندما يجتهد فقد يصيب الواقع و قد يخطئه لأن هنالك مصلحة واقعية أو مفسدة واقعية هي ملاك الحكم الشرعي ، و هذا بخلاف من لا يرى للأحكام واقعية حيث يرى أنه عندما أمر الشارع بأن يصلي العبد صلاة الصبح ركعتين صار في هاتين الركعتين مصلحة و ليس عندما كان في هاتين الركعتين مصلحة أولا أمر بهما الشارع بسبب تلك المصلحة ، فهذه من ثمرات هذا المبحث في علم الأصول ، فلو كان الكتابي نجسا مثلا مع أن الفقيه يفتي بطهارته فإن لنجاسته أثر واقعي لا يتغير بتغير اجتهاد المجتهد غير المطابق للواقع (الحكم الظاهري) كما نذهب إلى ذلك ، بخلاف من يقول بأن المصلحة و المفسدة تابعان للحكم الشرعي لا بالعكس
· لو أن شخصا كان لا يتجنب أهل الكتاب باعتبارهم طاهرين ثم تبين له أنهم نجسون بعد عشرة سنوات ، ففي السنوات العشرة الفائتة هل تحقق له الكمال الممتثل لامتثاله للأمر الإلهي الظاهر له أم أن الكمال لم يتحقق لأنه لم يعمل وفق الحكم الواقعي؟
· من المحققين القائلين بأن المصلحة هي في امتثال الحكم الشرعي و ليست في أمر واقعي وراء ذلك هو الشهيد الصدر (رحمه الله) في تقريرات السيد الحائري من مباحث الأصول ج2 ص32 : (( و نحن لا ننكر أنه كثيرا ما يكون ملاك الحكم في ... الحكم دون متعلق الحكم بمعنى أن الإتيان بالمتعلق ليس مطلوبا بعنوانه الأولي و إنما المطلوب هو امتثال حكم المولى فيحكم المولى بالمتعلق كي يمتثله العبد فتتحقق هذه المصلحة خارجا )) أي مصلحة العبودية و الامتثال (( و لعل هذه المصلحة هي الملحوظة في جل العبادات أو كلها )) أي أن المولى عندما قال تجب صلاة الظهر أربع ركعات فالحكم هو الوجوب و المتعلق هو الصلاة أربعة ركعات فهل المصلحة في الإيجاب أم في المتعلق؟ ذكرنا أنه حسب القسم الأول فإن المصلحة في المتعلق (صلاة الأربع ركعات) ، فالإتيان بالمتعلق بعنوانه الأولي حتى قبل أن يأمر به الشارع مطلوب ، و عندما طلب الشارع به فلمصلحة فيه ، و لكن السيد الشهيد يرى المصلحة هي في امتثال الأمر الإلهي فالمصلحة تابعة للأمر الإلهي لا العكس
· أدلة كل من المنهجين موكولة إلى علم الأصول
· قال السيد العلامة الطباطبائي : ((تتمّة : إذا تتبّعنا الكتاب والسُّنّة ، وتأمّلنا فيها تأملاً وافياً ، وجدنا أنّ المدار في الثواب والعقاب ، هو الإطاعة والانقياد ، والتمرّد والعناد . فمن المسلّم المحصّل منهما أنّ المعاصي ـ حتّى الكبائر الموبقة ـ لا توجب عقاباً إذا صدرت ممّن لا يشعر بها أو ممَّن يجري مجراه ، وأنّ الطاعات لا توجب ثواباً إذا صدرت من غير تقرّب وانقياد ، إلاّ إذا كانت ممّا الانقياد ملازم لذاته كبعض الأخلاق الفاضلة الشريفة . وكذلك صدور المعصية ممّن لا يشعر بكونها معصية ، إذا قصد الإطاعة ، لا يخلو من حسن ، وصدور الطاعة بقصد العناد واللعب لا يخلو من قبح . وكذلك مراتب الطاعة والعصية تختلف حسب اختلاف الانقياد والتمرّد اللذين تشتمل عليهما ؛ فقد ورد : (أفضل الأعمال أحمزها) (1) . وورد متواتراً في متفرّقات أبواب الطاعات والمعاصي اختلاف مراتبها فضلاً وخسّة ، وثواباً وعقاباً . والعقل السليم ـ أيضاً ـ حاكم بذلك . وأكثر الآيات القرآنيّة تحيل الناس إلى ما يحكم به العقل . والميزان ـ بناءً على حكم العقل ـ هو الانقياد للحقّ والعناد لا غير ، وهذان أمران مختلفان بحسب المراتب بالضرورة . وحيث إنّ السعادة والشقاوة تدوران مدارهما ، فلهما عرض عريض بحسب المراتب الموجودة من الانقياد والتمرّد . ومن هنا يظهر أنّ المختصّ من السعادة بالمنتحل بدين الحقّ ، إنّما هو كمالها . وأمّا مطلق السعادة ، فغير مختصّ بالمنتحل بدين الحقّ ، بل ربّما وجد في غير المنتحل أيضاً ، إذا وجد فيه شيء من الانقياد ، أو فقد شيء من العناد بحسب المرتبة . وهذا هو الذي يحكم به العقل ويظهر من الشرع ، فإنّما الشرع يعيّن حدود ما حكم به العقل ، كما في الحديث المشهور عنه (صلَّى الله عليه وآله) ، قال : (إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق) (1) . وذلك كما ورد في كسرى وحاتم أنّهما غير معذّبين لوجود صفتي العدل والجود فيهما . ))

الدرس الثالث و الأربعون



· ملاحظة: ما نذكره في هذه الدروس تارة يكون هو الرأي الذي نتبناه و تارة نذكره كرأي وارد في المقام فقط و قد ذكرنا رأيين في الدرس السابق حول رجوع الأحكام الشرعية إلى المصالح و المفاسد دون أن نتبنى أيا منهما
· السيد الشهيد ذكر الرأي القائل برجوع المصلحة في العبادات إلى الامتثال بنحو الاحتمال و لكن السيد العلامة في رسالة "الولاية" ذكره بنحو الجزم
· الاتجاه الثاني كان يعتقد بعدم وجود مصالح و مفاسد في متعلقات الأحكام الشرعية و إنما تنشأ المصالح و المفاسد من خلال الأمر بالحكم الشرعي و الامتثال و الانقياد له
· ما يقوله أنصار الاتجاه الثاني يشبه مسألة أن يأمر الوالدان أبناءهم أحيانا بأوامر لا علة لها من أجل تعويدهم على الطاعة فقط ، يقول السيد الشهيد بأن كمال العبودية للإنسان بأن يكون كالجارحة لله تعالى فاليدان بالنسبة للإنسان لا تعصيانه طرفة عين أبدا ، و كمال الإنسان أن يكون هكذا لله تعالى
· ص34 يقول الطباطبائي : (( وورد متواترا في متفرق أبواب الطاعات و المعاصي اختلاف مراتبها فضلا و خسة و ثوابا و عقابا يدور على قوله "أفضل الأعمال أحمزها" )) فكلما كان العمل أكثر شدة تطلب امتثالا وانقيادا أكبر من العبد فالجهاد مثلا يحتاج إلى درجة عالية من الانقياد مقارنة بالصلاة ، فهنالك تكامل في درجات الطاعة و التمرد ، فلا يستطيع كل شخص أن يكون قاتلا للحسين (ع) فهذه درجة عظيمة من درجات التمرد
· سؤال: إذا كان كلما زادت العبادة زاد الانقياد و الامتثال للأمر الإلهي فهل معنى ذلك أن كل طريق انقياد يحقق المصلحة المبنية على الامتثال و العبودية من قبيل الرياضات الشرعية؟ فيصلي العبد صلاة الصبح عشرين ركعة أو أكثر و يكون قد حقق الانقياد بل حقق أكثر من المطلوب؟
· جواب: زعم بعض أنه بناء على القول بأن هدف العبادات هو الامتثال و معاندة النفس تكون الرياضات الروحية حتى المبتدع منها (( و رهبانية ابتدعوها )) محققة للغرض ، و إذا مات العبد و هو ممارس لها مات على عبادة لا معصية و لكن البيان الحق هو ما ذكره السيد الطباطبائي في رسالة الولاية و إليك نصه:
· رسالة الولاية ص37 قال السيد العلامة : (( نعم يبقى الكلام في كيفية السير في طريق آية النفس، وهل بيّنت الشريعة السُبل للوصول إلى هذا المقام السامي، أم أهملت ذلك، وأوكلت كيفيته إلى السالكين أنفسهم؟ «زعم بعض أنّ كيفية السير من هذا الطريق غير مبيّنة شرعاً، حتى ذكر بعض المصنّفين أنّ هذا الطريق في الاسلام، كطريق الرهبانية التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم إلهي به، فقبل الله سبحانه ذلك منهم، قال سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)([1][484]) قال: فكذلك طريق معرفة النفس غير واردة في الشريعة، إلاّ أنّها طريقة إلى الكمال مُرضية. من هنا ربما يوجد عند بعض أهل هذا الطريق وجوه من الرياضات ومسالك مخصوصة، لا تكاد توجد أو لا توجد في مطاوي الكتاب والسنّة، ولم يشاهد في سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والائمّة من أهل البيت (عليهم السلام). وذلك كلّه بالبناء على ما مرّ ذكره، وأنّ المراد هو العبور والوصْل بأي نحو أمكن بعد حفظ الغاية، وكذلك الطرق المأثورة عن غير المسلمين من متألهي الحكماء وأهل الرياضة، كما هو ظاهر لمن راجع كتبهم، أو الطرق المأثورة عنهم. لكنّ الحقّ الذي عليه أهل الحقّ، وهو الظاهر من الكتاب والسنّة، أنّ شريعة الاسلام لا تجوّز التوجّه إلى غير الله سبحانه، للسالك إليه تعالى بوجه من الوجوه، والاعتصام بغيره سبحانه، إلاّ بطريق أمر بلزومه وأخذه، وأنّ شريعة الاسلام لم تُهمل مثقال ذرّة من السعادة والشقاوة إلاّ بيّنتها، ولا شيئاً من لوازم السير إلى الله سبحانه يسيراً أو خطيراً إلاّ أوضحتها، فلكلّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. قال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)([2][485])، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)([3][486])، وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)([4][487])، وقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)([5][488]). والاخبار في هذا المعنى من طريق أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بل متواترة عن أبي حمزة الثمالي (رحمه الله) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجّة الوداع فقال: «يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه»([6][489]). ممّا تقدّم يظهر أنّ حظّ كلّ امرئ من الكمال بمقدار متابعته للشرع، وقد عرفت أنّ هذا الكمال أمر مشكّك ذو مراتب، ونعم ما قال بعض أهل الكمال، إنّ الميل من متابعة الشرع إلى الرياضات الشاقّة، فرار من الاشقّ إلى الامهل، فإن اتباع الشرع قتل مستمر للنفس (الهوى) دائمي ما دامت موجودة، والرياضة الشاقّة قتل دفعي، وهو أسهل إيثاراً. وبالجملة فالشرع لم يهمل بيان كيفية السير من طريق النفس»
· لو لم يكن للعبادة مصلحة في ذاتها سوى الانقياد و الامتثال لما كان هنالك معنى لأن تجعل صلاة الصبح ركعتين و صلاة الظهر 4 ركعات و هكذا و لكان العبد مخيرا في ذلك ، لقد بين الشرع أهمية الانقياد و الامتثال و لكنه بين أيضا كيفيته و جزئياته
· لو لم تكن هنالك مصلحة في المعلق لما أمر الشارع بأوامر محددة فلو كان الإتيان بـ س من الأعمال مساو للإتيان بـ ص من الأعمال لكان يجب على الشارع أن يخير المكلف بينهما لا أن يفرض عليه أحدهما ، نعم مراتب الكمال و السعادة مختلفة فبعدها أقرب إلى الإيصال و بعضها أبعد ، و أقرب الطرق الموصلة و أكملها هو ما بينه الشارع المقدس ، و هذا لا ينافي أن الطرق الأخرى موصلة أيضا و لكنها لا توصل إلى الكمال المطلق و إنما توصل إلى أواسط الطريق
· سؤال: أنا لا أريد أن أصل إلى الكمال النهائي و إنما أريد أن أصل إلى الجنة فقط فهل يمكنني أن أتخذ طريقة غير الشرع؟
· الجواب: نبينه من خلال سؤال آخر: لو قال شخص بأنني لا أريد أن أصل إلى كمالي و لا أريد الجنة و بالتالي لن أمتثل الأوامر الإلهية و لكن لماذا يعاقبني الله تعالى على ترك الأوامر؟
· الجواب: أنت مأمور بأن تعمل بما يوصلك إلى الكمال ولا بد لك أن تعمل ضمن ما هو مؤد إلى كمالك اللائق بك ، و قد أوجب القرآن و الرواية و العقل الأكمل
· جعل الله تعالى طرقا أخرى غير الشرع موصلة إلى أواسط الطريق لكي لا يضيع على من عمل وفقها الوصول إلى بعض الكمالات و لكن العامل بها لا يصل إلى كمال مطلق و إلا لما كان ثمة فرق بين العمل بفقه الإمامية و العامة
· المكلف ليس مخيرا بين العمل بالكامل و الأكمل بل يجب عليه أن يسعى بإمكان جهده بأن يفعل الأكمل ولا يجب عليه أن يكون موفقا في ذلك
· على أساس مبنى المصوبة يكون لا فرق بين اتباع مذهب الحق و الباطل لأن في كليهما امتثال ، و لكن على أساس مبنى المخطئة يكون المذهب الباطل بما فيه من امتثال موصل إلى شيء من الكمال و لكن الأكملية لا تصاب إلا بالمذهب الحق
· ملاك الأعلمية هو الأقربية إلى الواقع و بالتالي الأقربية إلى الكمال النهائي و إلا لما كان تقليد الأعلم واجبا
· يقول السيد الطباطبائي في كتابه (الإنسان و العقيدة) التالي: (( ومن هنا يظهر أنّ المختصّ من السعادة بالمنتحل بدين الحقّ ، إنّما هو كمالها . وأمّا مطلق السعادة ، فغير مختصّ بالمنتحل بدين الحقّ ، بل ربّما وجد في غير المنتحل أيضاً ، إذا وجد فيه شيء من الانقياد ، أو فقد شيء من العناد بحسب المرتبة . وهذا هو الذي يحكم به العقل ويظهر من الشرع ، فإنّما الشرع يعيّن حدود ما حكم به العقل ، كما في الحديث المشهور عنه (صلَّى الله عليه وآله) ، قال : (إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق) (1) . وذلك كما ورد في كسرى وحاتم أنّهما غير معذّبين لوجود صفتي العدل والجود فيهما . وفي (الخصال) عن الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ (عليهم السلام) ، قال : (إنّ للجنّة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبيُّون والصدّيقون . وباب يدخل منه الشهداء والصالحون . وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا . فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول : ربّ سلِّم شيعتي ومُحبّيَّ وأنصاريَ ومَن تولاّني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بُطنان العرش : قد أُجيبت دعوتك ، وشُفّعت في شيعتك . ويشفع كلُّ رجل من شيعتي ومَن تولاّني ونصرني وحارب مَن حاربني ، بفعل أو قول ، في سبعن ألف من جيرانه وأقربائه . وباب يدخل منه سائر المسلمين ، ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ، ولم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت) (2) . وفي (تفسير القمّي) مسنداً عن ضُريس الكناسي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : قلت له : جُعلت فداك ، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّد (صلَّى الله عليه وآله) من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ، ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال : (أمّا هؤلاء ، فإنّهم في حُفرهم لا يخرجون منها . فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة ، فإنّه يُخدُّ له خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الروحُ في حفرته إلى يوم القيامة ، حتّى يلقى الله ، فيحاسبه بحسناته وسيّئاته ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار ، فهؤلاء المُرجَون لأمر الله) . قال : (وكذلك يفعل بالمستضعفين والبُلّه والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحُلم . وأمّا النصّاب من أهل القبلة ، فإنّه يخدُّ لهم خدّاً إلى النار التي خلقها الله في المشرق ، فيدخل عليهم اللهب والشَّرَر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ، ثمّ بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم) (1) . وفي دعاء كميل المروي عن عليّ (عليه السلام) : (فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النّار كلّها برداً وسلاماً ، وما كانت لأحد فيها مقرّاً ولا مقاماً ، لكنّك تقدَّست أسمائك ، أقسمت أن تملأها من الكافرين ، من الجنّة والنّاس أجمعين ، وأن تخلّد فيها المعاندين) (2) ـ الدعاء . وأكثر الآيات القرآنيّة إنّما توعد الذين قامت لهم البيّنة ، وتمّت عليهم الحجّة ، وتقيّد الكفر بالجحود والعناد ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (3) ، وقال تعالى : (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (4) . وبالجملة : فالميزان كلّ الميزان في السعادة والشقاوة ، والثواب والعقاب هو سلامة القلب وصفاء النفس ، قال سبحانه : (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (1) ، وقال سبحانه : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (2) . وجميع الملل الإلهية تروم في تربية الناس هذا المرام . وهذا مسلّم من سلائقها وما تندب إليها ، وهو الذي يراه الحكماء المتألّهون من السابقين . وأمّا شريعة الإسلام ، فأمرها في ذلك أوضح ، غير أنّها ـ كما مرّ في أوار الفصل الثاني ـ تدعو إلى كلّ سعادة ممكنة . إلاّ أنّ معرفة الربّ من طريق النفس حيث كانت أقرب طريقاً ، وأتمّ نتيجة ، فإتيانها لها أقوى وآكد ؛ ولذلك ترى الكتاب والسُّنّة يقصدان هذا المقصد ، ويدعوان إلى هذا المدّعى بأيّ لسان أمكن ))

· المدار في الروايات على البغض و العناد (( ولم يظهر منه عداوة )) (( و قضيت به من إخلاد معانديك )) لا على الولاء و البراء
· هذا المنهج الذي يعتمد المنطق القرآني القائل بالرحمة الواسعة ، و هنالك منهج آخر يقول بأن أكثر الناس لا يدخل إلى الجنة و يقصر ذلك على نفر قليل و هو منهج مستفاد من روايات أهل البيت (ع) أيضا و للأسف فإن هؤلاء يحملون راية الرواية و الرواية منهم بريئة و هم يضلون الناس بدعوى اتباع الرواية فالله رحمة للعالمين لا رحمة للشيعة فقط

الدرس الرابع و الأربعون


الدرس السابق:

· تعد المسألة المبحوثة بين المخطئة و المصوبة من أهم مباني علم الأصول المعاصر
· ليس السيد كمال الحيدري في هذه الدروس بصدد اتخاذ رأي في مسألة ما إذا كان المناط في الحكم الشرعي هو الامتثال أم أن لمتعلقات الأحكام آثار في ذاتها
· ترتبط هذه المسألة بمسائل أخرى كثيرة كتصحيح اجتهادات المجتهدين و أعمال الجهال القاصرين و قاعدة الإلزام "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم" بالنسبة لأهل الذمة
· من هنا تتبين أهمية تنقيح مباني علم الأصول الكلامية

عود على بدء : إلى ماذا يرجع الحسن و القبح في أفعال الإنسان؟

· يستطيع العقل أن يدرك الأفعال التي ينبغي على الإنسان أن يفعلها و الأفعال التي لا ينبغي عليه أن يفعلها فالحسن و القبح في أفعال الإنسان ثابت
· بالنسبة لله قلنا ما هو كمال ينبغي أن يفعله و ما ليس كمالا لا ينبغي أن يفعله ، و لكن بالنسبة للإنسان نقول ما فيه مصلحة الإنسان ينبغي أن يفعله و ما فيه مفسدته لا ينبغي أن يفعله ، فمرجع الحسن و القبح في أفعال الإنسان هي المصالح و المفاسد
· سؤال: على أساس السابق هل باب الحسن و القبح في أفعال الإنسان مستقل عن باب الحسن و القبح في أفعال الله تعالى؟
· نحن لا نوافق ما ذهب إليه السيد الشهيد في ج1 من مباحث الأصول ص515 : (( الحسن و القبح مع المصلحة و المفسدة في أن الحسن و القبح العقليين )) فذهب الشهيد إلى أن الحسن و القبح لا يرجعان إلى المصلحة و المفسدة
· ما نقصده من المصالح و المفاسد لا العقلائية ولا العرفية بل المصالح و المفاسد بحسب مراتب و سلم الوجود ، و بعبارة أخرى مصلحة الإنسان و مفسدته بحسب كماله اللائق به
· نعم في أغلب الأحيان نحن لا نستطيع أن نشخص الصغريات ، فهل قتل إنسان لأخذ دواء من قلبه و إنقاذ إنسانين آخرين به حسن أم قبيح؟ قال السيد الشهيد: لو نظرنا إلى هذا من زاوية المصالح لكان حسنا ، ولكن لو نظرنا إليه من زاوية الحسن و القبح لكان قبيحا ، و من هنا قال السيد الشهيد بأنه مرجع الحسن و القبح ليس إلى المصالح و المفاسد و أن باب الحسن و القبح ليس هو نفسه باب المصالح و المفاسد ، و في هذا مغالطة كما يرى السيد الحيدري لأنه لو كان الأمر هكذا للزم اختلال النظام فالمنظور هو مصلحة اختلال النظام و ليس هذه الجهة ، فالشارع عندما قال لا يجوز قتل إنسان لإنقاذ إنسانين فنهيه هذا أيضا من باب المصلحة و المفسدة لا من باب العدل و الحسن و غاية الأمر أننا لا نعلم ما هي المصلحة أو المفسدة هذه ، و من هنا يتضح ما ذكرناه بأن المصلحة و المفسدة لا نقصد بها العرفية و العقلائية ، فالنظام الاجتماعي له مدخلية في تكامل الفرد فكثير من الكمالات لا يمكن للإنسان أن يصل إليها إلا بالتعاون مع الآخرين فالإنسان ليس مدنيا بطبعه بل مستخدم بطبعه ليسد نواقصه فاحتياجه للآخرين داخل في كماله الفردي و إلا لكانت العزلة خير كمال ، فهنالك جملة من الكمالات لا يمكن للإنسان أن يحصل عليها إلا بالاجتماع ككمال الإيثار و كمال قضاء حاجة المؤمن و كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد ، فصحيح أن تنظيم المجتمع أمر اعتباري إلا أن له مدخلية في كمال الإنسان و كمال الإنسان أمر واقعي لا اعتباري
· النتيجة: الحسن و القبح في أفعال الإنسان مرتبط بباب المصلحة و المفسدة بالنسبة إلى الإنسان نظرا إلى الكمال اللائق به ، فالكمال اللائق بالإنسان هو الهدف ، و إذا كان الفعل يعين على الوصول إلى هذا الهدف فهو حسن و إذا كان يعين في الوصول إليه فهو قبيح
· من هنا تبرز أهمية الرؤية الكونية ، فالرؤية المادية مثلا ترى أن هدف الإنسان في التزود بالماديات فكل ما هو مقرب إلى متاع الدنيا ففيه مصلحة و ينبغي أن يفعل و كل ما هو مبعد عن الماديات ففيه مفسدة ولا ينبغي أن يفعل ، و من هنا نجد أن الغرب تقدم في الماديات لأن هدف رؤيته الكونية هو المادة ، و لكن عندما نأتيهم في الجانب الروحي نجدهم في أسفل السافلين ، و هنالك سؤال يطرح أخيرا و هو أنه لماذا تأخر الإسلام في الماديات؟
· الرؤية الكونية الثانية جعلت الكمال في الدخول إلى الجنة و النجاة من النار و ليس الكمال المطلوب عندهم هو القرب الإلهي فلو لم يكن هنالك جنة و نار لما عبدوا الله تعالى ، و ترى الرؤية الثالثة أن الهدف هو القرب الإلهي
· الميزان ج16 ص191 : (( أما الأصول العلمية فهي معرفته إجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة و ما عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية فإن المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنه مادي محض ليس له من الحياة إلا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلا السبب المادي الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادية ما وراءها شيء. و المعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية و المعتقدون بالمبدأ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه. ))
· مجتمعاتنا الإسلامية من حيث الاعتقاد و الفكر آخذة بالتفكير المادي و من حيث العمل تريد أن تعمل عملا إسلاميا و إذا أردنا أن ننهض بالأمة يجب علينا أن نبي عقائدها و نصححها أولا ، فإذا كانت عقيدة الأمة عقيدة جبرية أشعرية مثلا فلا يتوقع من هذه الأمة أن تنهض لأنها ترى أن استضعافها و ذلها أمر محتوم عليها ، و إذا كانت عقيدتها معتزلية تعتقد بالتفويض يقايس الإنسان بينه و بين العدو فييأس إذ أن قوة العدو تفوق قوتنا لمئات السنين القادمة ، و لكن لو ربطنا الإنسان بقوة أزلية لا متناهية بحيث اعتقد أن بحسب الموازنة الوجودية بأنه هو الأعلى و المادي هو الأدنى لأن الله مولانا ولا مولى لهم مع مدخليتنا في تقدمنا (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) و كل هذا يبدأ من عقيدة التوحيد و الإيمان بوجود الله سبحانه

الدرس الخامس و الأربعون


الدرس السابق:

· المنشأ في الحسن و القبح في أفعال الإنسان هي المصالح و المفاسد بمعنى أن ما فه مصلحة للإنسان فهو حسن و ينبغي أن يفعل و ما فيه مفسدة للإنسان فإنه قبيح ولا ينبغي أن يفعل
· لكي يتضح مركز المصلحة و المفسدة لا بد من تعيين الهدف الذي وجد من أجله الإنسان و قد بينا 3 رؤى كونية

تكملة:

· كلما كان الهدف أعظم كلما كانت المقدمات الموصلة إليه أعقد و أحمز ، مثال: المقدمات المطلوبة لمن يريد أن يتعلم الرسالة العملية أيسر من المقدمات المطلوبة لمن يريد أن يصبح أعلم الأولين و الآخرين
· من هنا نقول كلما كان انقياد الإنسان للشرع أكبر كلما كانت مرتبته الوجودية أعظم
· للكمال مراتب متعددة و كل مرتبة تستدعي أعمالا لا تستدعيها المرتبة الأخرى فرب مكروه عند طبقة هو حرام بالنسبة إلى طبقة أخرى و رب مستحب عند طبقة هو واجب عند طبقة أخرى (حسنات الأبرار سيئات المقربين) – راجع ص20 من رسالة الولاية للعلامة الطباطبائي
· من هنا يتبين أنه لماذا يغفر للجاهل سبعون ذنب قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد لأن الطبقة الوجودية للعالم تختلف عنها للجاهل
· من جعل هدفه التلذذ بالجنة و النجاة من النار إنما يجعل الله تعالى واسطة لتحقيق ذلك و بالتالي فهو فعلا عابد للجنة و النار لا الله تعالى
· جعل الله الواجب و جعل له حمى و هو المستحب و جعل الحرام و جعل له حمى و هو تجنب المكروه و بالتالي فمن يترك المستحبات قد يقع في ترك الواجبات و من يفعل المكروهات قد يقع في الحرام
· بعد أن ذكر السيد الشهيد هذا المطلب في مباحث الأصول للسيد الحائري ج1 ص515 : (( باب الحسن و القبح مع المصلحة و المفسدة : الواقع أن الإدراك الموجود في نفوس الناس سواء فرضناه حقا أو لا غير مرتبط بباب المصلحة و المفسدة )) ثم يذكر كلاما للمحقق الخراساني صاحب الكفاية يربط فيه صاحب الكفاية بين باب الحسن و القبح و باب المصلحة و المفسدة و لكن ببيان آخر يختلف عن البيان الذي بيناه ثم يقول السيد الشهيد (( و الواقع أن ما ذكره و إن كان ألطف ما ذكره الأصوليون في المقام من حيث التطبيق على المصطلحات لكن التحقيق أن كلامه لا يرجع إلى محصل )) أي غير تام ، ثم يشكل إشكالا حليا غير تام و نوكل بحثه إلى غير هذا المبحث ، كما يشكل السيد الشهيد إشكالات نقضية على صاحب الكفاية نكتفي بذكر نقضين منها
1- (( النقض الأول أنه لو كان الحسن و القبح العقليان مرتبطان بباب المصلحة و المفسدة يلزم محذور أنه من يكون أشد في العقل النظري )) أي المعرفة النظرية كمعرفة التوحيد (( يكون أشد انغضاضا من إدراك الفعل القبيح و استقباحا لصدوره من شخص )) و هذا في الواقع حقيقة و ليس نقضا فمن يكن أشد في العقل النظري يكن أشد انقباضا من الفعل القبيح فرسول الله (ص) بمعرفته التوحيدية لو رأى المعصية من عدوه لبكى عليه قال تعالى (( فلعلكم باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا )) ، فكلما كان الإنسان أعلم بحقائق الأمور كان انقباضه من القبيح أشد
2- (( يلزم من ذلك أن تكون الأمور المباحة و غير القبيحة في نظر الأدنى قبيحة في نظر الأعلى )) و قد بينا أن الأمر كذلك فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فنحن ندوس النمل بينما أمير المؤمنين (ع) لو أعطي الأقانيم لما بخس نملة حقها
· إلى هنا تم الكلام في الحسن و القبح في أفعال الله تعالى و الإنسان و هما مسألتان أساسيتان في العقيدة

نتائج:

· هناك أفعال ينبغي للواجب أن يفعلها (حسنة) و هناك أفعال لا ينبغي للواجب أن يفعلها (قبيحة)
· هنالك أفعال ينبغي للإنسان أن يفعلها (حسنة) و أفعال لا ينبغي له أن يفعلها (قبيحة)
· يوجد حسن و قبح ذاتي في أفعال الله و الإنسان
· للعقل القدرة على إدراك الحسن و القبح في أفعال الله و أفعال الإنسان أيضا فنحن من المؤمنين بالحسن و القبح العقلي و الذاتي في أفعال الله و الإنسان

هل أفعال الله تعالى معللة بالأغراض و الغايات و المنافع ؟

· ذهب الأشاعرة إلى إنكار ذلك و ذهبت المعتزلة إلى إثبات ذلك و منشأ خلافهما رأيهما في الحسن و القبح ، فلو كانت أفعال الله ليست معللة فهو عبث و العبث قبيح
· لا بد من التمييز بين الغاية من جهة و بين الغرض و الفائدة و المنفعة من جهة أخرى
· الغرض أو الفائدة أو المنفعة: معناه أن هنالك داع لإيجاد الفعل من قبل الفاعل ليستكمل الفاعل به بعد أن كان ناقصا ، فالبخيل مثلا ينفق لكي يستكمل و يحصل على ملكة الجود ، و الجائع يأكل لكي يشبع ، و الجاهل يطلب العلم لكي يستكمل
· الغاية: معناها أنه عندما تسأل الفاعل "لم فعلت كذا" فيجيب "لأنه .." فالجواب هو الغاية و ليس هو بالضرورة ناشئ عن نقص في الفاعل أو أنه فعل الفعل ليستكمل به ، فالبخيل ينفق كي يصبح جواد و لكن الجود لو أنفق فإن إنفاقه هو فعل من سنخه و إنما ينفق الجود لأنه جود فهذه غاية لا فائدة لأنها لا تستلزم الاستكمال
· قال الأشاعرة أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض ، و هنا نسألهم هل تقصدون أنه لا يفعل الفعل كي يستكمل به ، فإن كان هذا مقصدهم فهو حق لأنه غني عن العالمين ، و أما إن كان مرادهم أنه لا يسأل "لم فعلت هذا الفعل؟" فكلامهم باطل لأنه يمكن أن يسأل بلم فقد خلق الله تعالى الخلق و يمكننا أن نسأله لم خلقت الخلق ، فنحن نسأل عن الغاية لا عن الغرض و الفائدة
· الأشاعرة قالوا أنه لا يسأل عن الغاية ولا عن الغرض قال تعالى (( لا يسأل عما يفعل و هم يسألون ))
· ليس مراد المعتزلة أن الله ناقص و يفعل ليستكمل و إنما قصدهم أن لفعله فائدة و غرض ترجع إلى نفس الفعل ، فالله سبحانه خلق الخلق للعبادة (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) فالعبادة مرادة و مطلوبة لله و لكن منفعتها ترجع للعباد لا إليه ، و هذا الكلام بظاهره سليم إلا أنه غير تام
· السيد العلامة في نهاية الحكمة ص184 : (( ذهب قوم من المتكلمين إلى أن الواجب تعالى لا غاية له في أفعاله لغناه بالذات عن غيره )) و هذا كلام الأشاعرة (( وهو قولهم إن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض ، و ذهب آخرون منهم إلى أن له تعالى في أفعاله غايات و مصالح عائدة إلى غيره و ينتفع بها خلقه ، و يرد الأول ما تقدم أن فعل الفاعل لا يخلو من أن يكون مطلوبا له بالذات أو منتهيا إليه )) لأن الخير مرجعه إلى الوجود و الوجود مطلوب الذات و النقص مرجعه إلى العدم و العدم مهروب عنه بالذات
· هل كلام المعتزلة تام؟ سيأتي في الدرس القادم

الدرس السادس و الأربعون


في بيان خطأ المعتزلة في مسألة ما إذا كان الله تعالى يفعل لغاية:

· قول المعتزلة في إثبات الغاية و نفي الغرض ليس تاما أيضا لأنه يلزم منه إرادة العالي للسافل و قد تقدم في مباحث التوحيد أنه لا يمكن أن يريد العالي وجودا السافل وجودا بالذات و إنما يمكن أن يريده بالعرض فهو يريد الفعل لأنه أثر له فهو يريد ذاته أولا و بالذات و يريد فعله ثانيا و بالعرض .
· السيد العلامة ص184 من نهاية الحكمة : (( و يرد الثاني )) أي مراد المعتزلة (( وهو أن له تعالى في أفعاله غايات و مصالح عائدة إلى غيره و ينتفع بها خلقه أنه و إن لم يستلزم حاجته تعالى إلى غيره و استكماله بالغايات المترتبة على أفعاله و انتفاعه بها لكن يبقى عليه لزوم إرادة العالي للسافل و طلب الأشرف للأخس )) إذن لا بد أن يكون الله تعالى طالبا لذاته ، و إذا كان طالبا لفعله فإنما ذلك لأنه من آثاره لا من حيث هو مطلوب بالذات

الحق في مسألة الغاية و الغرض:

· نحن نقول أن الله سبحانه لا يسأل عما يفعل و هم يسألون و لكننا لسنا أشاعرة لأننا لا نقول أن كل ما صدر عن الله تعالى حسن و لكننا نقول أنه لا يجوز أن يفعل الله القبيح ، ولا يفعل الله تعالى القبيح أصلا
· يقع البحث هنا في أمرين (1) هل للإنسان غاية و غرض عندما يفعل فعلا ما؟ و قد بينا أن الإنسان لا يفعل أي فعل إلا إذا كان في طريق كماله ولا يترك أي فعل إلا إذا كان يرى أنه مانع عن الوصول إلى الكمال اللائق به (2) هل لله تعالى غاية و غرض؟

هل للإنسان غاية و غرض؟

· على أساس النقطة (1) السابقة ، لو سألنا "هل لله تعالى غايات و أغراض في أفعاله؟" بحيث يكون معنى السؤال "هل لمخلوقات الله تعالى أغراض و غايات في أفعالها" لكان الجواب بالإثبات و الإيجاب لأن كل موجود إنما يفعل ما يكمله ولا يترك إلا ما ينقصه كما تبين ، و هذا ما أشار إليه قوله تعالى : (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) فغاية الإنسان هي العبادة و حقيقة العبادة هي العبودية فحقيقة كمال الإنسان في ذل العبودية لله تعالى .
· من هنا يتبين أن المراد من الفناء في الله تعالى هو الفناء في إرادة الله تعالى لا أن تكون عدما لأن العدم نقص محض ، فالفناء في إرادة الله تعالى بحيث يكون الإنسان كالجارحة بالنسبة لله تعالى لا يسبقه بالقول و هو بأمره يعمل فيحقق معنى العبودية
· لا بد أن تقوم الحرية على أساس العبودية لله تعالى حتى في مجال العلاقات الدولية
· الميزان ج18 ص386 في ذيل الآية المباركة (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) يقول : (( إلا ليعبدون استثناء من النفي لا ريب في ظهوره أن للخلقة غرضا )) لا أن للخالق غرضا (( و أن الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودا للناس )) فلو كان خلقهم كي يصبح معبودا لكان يريد الاستكمال بعبادتهم (( فقد قال "ليعبدون" و لم يقل لأعبد أو لأكون معبودا لهم )) كما في الحديث القدسي "خلقت الخلق لكي أعرف" لا لكي يعرفوني ، و من هنا يتبين رد شبهة هي أنه هل كان قبل خلق الخلق ناقصا؟ .
· إشكال: في قوله تعالى "إلا ليعبدون" هل اللام لام الجنس أم لام الاستغراق ، و على القول بأنها لام الاستغراق فليس جميع الناس يعبدون و هذا يلزم تخلف المراد عن إرادة الله تعالى ، و من هنا ذهبت طائفة إلى أن المراد من العبادة لا التشريعية بل التكوينية التي لا يتخلف عنها موجود ، و السؤال يطرح في قوله تعالى (( و قضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه )) فهل هذا القضاء تكويني أم تشريعي ، فإن قيل تكويني – كما قال العرفاء – فلا يتخلف مراد الله تعالى كما هو حاصل بأنه ما من شيء إلا و هو عابد تكوينا لله ، و لكن على هذا الرأي إشكال كما أن على القول الآخر و هو أنه قضاء تشريعي إشكالات أيضا .
· يقول السيد العلامة أن هنالك قرينة معكوسة في الآية فلو كانت الآية بصدد بيان قوله تعالى (( و إن من شيء إلا يسبح بحمده )) فلماذا خصصت العبادة بالجن و الإنس (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) فالمخصوص بالجن و الإنس هو العبادة التشريعية لا التكوينية
· إذن اللام في الآية "ليعبدون" هي لام الجنس لا الاستغراق فلو عبده سبحانه بعض الخلق لتحقق المراد من الخلقة
· قال الطباطبائي : ((المقصد الأول : عبادة الله تعالي وقال سبحانه و ما خلقت الجن و الإنس الا ليعبدون ( الذاريات - 56) و قوله : « إلا ليعبدون » استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضا و أن الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودا فقد قال : ليعبدون و لم يقل : لأعبد أو لأكون معبودا لهم . على أن الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتى يستكمل به و يرتفع به حاجته . و من جهة أخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي . و يستنتج منه أن له سبحانه في فعله غرضا هو ذاته لا غرض خارج منه و أن لفعله غرضا يعود إلى نفس الفعل و هو كمال للفعل لا لفاعله . فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضا متوسطا. فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة و العبودية و توجيه وجهه إلى مقام ربه . و هذا هو مراد من فسر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة. فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كل شي‏ء و يذكر ربه. فيفعل العبد ما أمره ربه. والعبادة بمعناها الشامل لاتقتصر فقط على مجرد أداء الشعائر الدينية الجسمية الروحية من صلاة وصوم وحج وغيرها ، وإنما تعني الالتزام المخلص والأمين بمباديء الإسلام وتعليماته فى كل شؤون الحياة . فحسن استغلال البيئة عبادة والمحافظة عليها وصيانتها لتستمر الى ما شاء الله تنتفع بها البشرية كافة حتي يرث الله الأرض ومن عليها عبادة ، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة وعدم تلويث الماء والهواء عبادة ، وحسن استعمال المرافق العامة والخاصة من طرق ومياه وكهرباء ومؤسسات مختلفة ( مدارس ـ مستشفيات ـ مصانع وغيرها ) بأسلوب راشد عاقل عبادة.

هل لله تعالى غاية وغرض؟

· هل لله تعالى غاية في فعله أم لا ؟ فهل يمكن أن يسأل الله تعالى بـ"لم" أم لا يمكن؟
· الأشعري يقول أن كل ما فعله الله حسن و ليس لله غاية ولا غرض فهو تعالى لا يسأل عما يفعل
· يوجد في تفسير قوله تعالى (( لا يسأل عما يفعل و هم يسألون اتجاهات ثلاثة ))
(1) المعتزلة قالوا بأنه يمكن أن يسأل الله تعالى عما يفعل ولكن بما أنه تعالى دائما يفعل عن مصلحة فهو لا يسأل عما يفعل و النتيجة أنه لو عمل بخلاف المصلحة لأمكن أن يسأل عما يفعل ولكنه لا يفعل خلاف المصلحة أبدا و لم يبق مجالا لأحد أن يسأله عما يفعل ، و هذا ما ذكره الزمخشري في الكشاف و كذلك الآلوسي و غيرهم ، ص110 ج3 من الميزان : (( إذا كانت عادة الملوك و الجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم و عما يوردون و يصدرون من تدبير ملكهم ، تهيبا و إجلالا ، مع جواز الخطأ و الزلل و أنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك و رب الأرباب خالقهم و رازقهم أولي بأن لا يسأل عن أفعاله ، مع ما علم و استقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة ، و لا يجوز عليه الخطأ و لا فعل القبائح (و هم يسألون ) أي هم مملوكون مستعبدون خطاؤون ، فما خلقهم بأن يقال لهم : لم فعلتم ؟ في كل شي ء فعلوه ))
· إشكال على المعتزلة: هل كان هنالك مصلحة قبل إيجاد العالم؟ فإن لم يكن هنالك مصلحة فكيف نقول بأن الله تعالى يفعل دائما على وفق المصلحة؟
· لهذا نحن ميزنا في بحث التوحيد بين فعل الخالق و فعل المخلوق ، في بحث ج14 من الميزان و معنى الحكمة في فعله تعالى ، و بينا أنه لا معنى بأن يقاس فعله تعالى على المصلحة و المفسدة لعدم وجودهما قبل الخلق
· يقول السيد العلامة مشكلا على هذا الاتجاه بأن الآية مطلقة فهو لا يسأل عما يفعل لا أنه لا يسأل عما يفعل لأن فعله حكيم ، فالآية المباركة نفسها – من غير الاستعانة بآيات أخرى - لا يمكن أن يستنتج منها هذا المعنى : (( وبالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الاطلاق يؤول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لامر خارج عن ذات الفعل وهو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة وقوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا. ولو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الاية عن لفظها لكان أقرب منه التمسك بقوله - وهو متصل بالاية -: " سبحان الله رب العرش عما يصفون " فإن الاية تثبت له الملك المطلق والملك متبع في إرادته مطاع في أمره لانه ملك أي - لذاته - لا لان فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة وإلا لم يكن فرق بينه وبين أدنى رعيته وكانت المصلحة هي المتبعة ولم تكن طاعته مفترضة في بعض الاحيان، وكذلك المولى متبع ومطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه ويأمره به عن وجه الحكمة والمصلحه فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات وسلطنة عليها لذاته. فالله سبحانه ملك ومالك للكل والكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وليس لغيره ذلك، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة ولا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسئ به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الاجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، ومن ألطف الايات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما. ومن هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: " لا يسأل عما يفعل " بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الاية منها كما أشرنا إليه. ))

الدرس السابع و الأربعون

* الدرس السابق :
- انتهينا بالكلام عن الاتجاه المعتزلي في تفسير قوله تعالى (( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ))

* تابع:

- كلام المعتزلة يقتضي أن لله تعالى الحق في أن يتصرف بمخلوقاته لكن لا كل تصرف ، فهنالك تصرفات تعتبر مفسدة و هي لا تحق لله تعالى و هذا يقتضي أن الله تعالى يملك مخلوقاته لا على كل نحو ، بل بنحو من الأنحاء ، و هذا خلل في توحيد الربوبية
- على الاتجاه المعتزلي : لو فعل الله تعالى فعلا خلاف المصلحة و الحكمة لحق لنا أن نسأل عنه ، مثلا : لماذا أدخلت الأنبياء النار؟ ، و حقنا في أن نسأل هذا السؤال ناشئ عن القول بأن ليس لله تعالى الحق في أن يتصرف بخلقه بهذا الوجه من التصرف
- الاتجاه الأشعري: يقول بأنه لا يسأل عما يفعل لأن له تعالى الحق في أن يتصرف بخلقه بكل الوجوه ، فلو أدخل النبي النار فهو حسن ، و لو أدخله الجنة فهو حسن ، و لو أمر بالمعاصي فهو جميل ، ولو أمر بالمعاصي فهو جميل ، فلله الحق في أن يتصرف بملكه بما يشاء بكل الوجوه
- نتيجة التفسير الذي يقدمه الأشاعرة هي نفي الحسن و القبح الذاتيين و العقليين
- الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي نقحه السيد كمال الحيدري و لم ينقحه أحد قبله ، وهو أننا نقبل أنه لا يسأل عما يفعل بنفس المعنى الذي يقوله الأشعري أي لا معنى أساسا للسؤال عن فعله وله تعالى الحق في أن يتصرف بخلقه من كل وجه ، و لكننا مع ذلك نلتزم بالحسن و القبح الذاتي ، فنحن موافقون في الأولى مع الأشعري و في الثانية مع المعتزلي ، لا لأن العقل يقول بأن العدل حسن و الظلم قبيح ، وقلنا بأن مدركات العقل العملي مرجعها إلى مدركات العقل النظري ، و هنا سؤال : كيف توصلنا إلى النتيجتين السابقتين مع أن بينهما منافاة؟
(1) دليلنا أنه تعالى قال (( لله ما في السماوات و ما في الأرض )) و قال (( له ملك السماوات و الأرض )) فأثبت فيها و في نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الإطلاق لا أنه يملك على بعض الوجوه دون البعض الآخر خلافا للمسلك الاعتزالي ، وما سبق دليل نقلي يعضد الدليل العقلي المأخوذ من مباحث توحيد الربوبية ، قال السيد العلامة في ج14 من الميزان ص270 في قوله تعالى : (( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون )) ((و لو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه التمسك بقوله - و هو متصل بالآية -: «سبحان الله رب العرش عما يصفون» فإن الآية تثبت له الملك المطلق و الملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك - أي لذاته - لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة و إلا لم يكن فرق بينه و بين أدنى رعيته و كانت المصلحة هي المتبعة و لم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، و كذلك المولى متبع و مطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه و يأمره به عن وجه الحكمة و المصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات و سلطنة عليها لذاته. فالله سبحانه ملك و مالك للكل و الكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و ليس لغيره ذلك، و له أن يسألهم عما يفعلون و ليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة و لا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسيء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، و من ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: «إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم:» المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له و يوجه مغفرتهم بكونه حكيما. و من هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: «لا يسأل عما يفعل» بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه. ))
(2) يستحيل أن يسأل الله تعالى عن فعله لأن فعله عين المفعول فقبل الإيجاد لا يوجد نظام و مصالح ومفاسد فلا معنى لأن نقول بأن الفعل منطبق على المصلحة أو المفسدة ، يقول السيد العلامة في ج14 ص272 يقول : ((فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي و اشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج و إنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، و كذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج. و هذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقة الخارج كأفعالنا الإرادية و أما الفعل الذي هو نفس الخارج و هو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة و فعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه و تبعثه نحوه كما عرفت. و كل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول «لم فعلت كذا»؟ و المطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي و يشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، و أما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه و لا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، و فعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل و لا نظام آخر فوقه - كما سمعت - حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم. ))
- نستفيد من عبارة العلامة الطباطبائي قبل السابقة أنه لو كنا نأتمر بأوامر الله تعالى لأنها وفق المصالح لما كان ثمة فرق بين الله تعالى و عباده ، فالملك بما هو ملك يطاع أمره و إن لم يكن وفق مصلحة و هذه خصوصيته ، نعم الفرق يكون بأن الملك المخلوق يمكن التهرب من أوامره و الملك الخالق لا يمكن الفرار من حكومته
- قول نبي الله عيسى (ع) (( فإنك إن تعذبهم فهم عبادك )) لا يقتصر على العاصين من العباد
- الفهم الأشعري في رأي السيد الحيدري أقرب إلى القرآن من الرأي المعتزلي و إن كان فيه أخطاء

· إذن يلزم من الاتجاه الثالث (رأي السيد الحيدري) أنه لا حسن ولا قبح ذاتيين ولا عقليين؟

- الله تعالى عالم قادر غني حكيم ، و الموجود بهذه الصفات لا يصدر عنه إلا ما يسانخ وجوده فما يسانخ وجوده ينبغي منه وما لا يسانخ وجوده لا ينبغي منه
- حاشية ج18 ص381 يبين السيد العلامة لماذا خلق الإنسان فيقول: (( فالله تعالى خلق الإنسان ليثيبه و الثواب عائد إلى الإنسان و هو المنتفع به و الله غني عنه )) ثم يبين غرض الله تعالى في خلقه الإنسان ، حينما نسأل لم خلق الله الإنسان؟ ما هو غرض الله تعالى في خلق الإنسان؟ (( و أما غرضه تعالى من خلق الإنسان فهو ذاته المتعالية ، و إنما خلقه لأنه الله عز و جل )) أي أنه سنخ وجود يقتضي أن يفيض ، و الضمير عائد إلى الله لا الخلق أي خلق الله الخلق لأن الله هو الله ، فالجود يجود لأنه جود .
- كتب الله على نفسه الرحمة ولو أنه لم يكتبها على نفسه لفعل ما لا ينبغي له وليس ما سنخه ، لا نقول أنه فعل ما لا ينبغي بل فعل ما لا ينبغي له
- لازمنا كلامنا هذا حول السنخية الحسن و القبح الذاتيان
- العالي لا ينظر إلى السافل فالله تعالى ناظر لذاته و لأنه محب لذاته خلق الخلق
- جعلت العبادة الغاية في قوله تعالى (( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) و لكن آية أخرى بينت أن العبادة ليست هي الغاية الأخيرة و إنما الغاية الأخيرة هي اليقين (( اعبد الله حتى يأتيك اليقين ))
- قال السيد العلامة في الميزان : ((على أن الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض ويرتفع به حاجته والله سبحانه لا نقص فيه ولا حاجة له حتى يستكمل به ويرتفع به حاجته، ومن جهة اخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي ويستنتج منه أن له سبحانه في فعله غرضا هو ذاته لا غرض خارج منه، وأن لفعله غرضا يعود إلى نفس الفعل (1) وهو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الانسان وكمال عائد إليه هي وما يتبعها من الاثار كالرحمة والمغفرة وغير ذلك، ولو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله كان هو الغرض الاقصى والعبادة غرضا متوسطا ))
- خلاصة الاتجاه الثالث: الله مالك لكل شيء من كل وجه ولا يسأل عما يفعل بخلقه ، و لكنه لا يفعل إلا ما هو من سنخه و بالتالي يثبت قول الأشعري من جهة و يبطل قوله في نفس الحسن و القبح الذاتيين و العقليين

الدرس الثامن و الأربعون


* الدرس السابق:

- انتهينا من بيان الآية المباركة التي هي من محكمات القرآن لا من متشابهاتها و هي قوله تعالى (( لا يسأل عما يفعل و هم يسألون )) و قلنا أن مفادها لا كما يقوله المعتزلة من أنه لا يسأل لأنه يطبق أفعاله على الموازين و المصالح الواقعية و إلا لما كان ثمة فرق بينه و بين غيره تعالى و الآية صريحة في بيان الفرق بينهما ، إضافة إلى لوازم أخرى أشرنا إليها من لزوم التقييد في الملك الإلهي و خروج الحق من سلطانه ، و كذلك بينا أن الاتجاه الأشعري و إن كان صحيحا في المدعى إلا أن لوازمه تبين أن الأشاعرة لم يفهموا المدعى كما فهمها الحكيم المتأله ، ولو كانوا قد فهمومها كما فهمها المتأله لما قبلوا أن الحسن و القبح ليسا ذاتيين ، و الاتجاه الثالث في المسألة وهو الحق وهو ما حققه حكماؤنا الإلهيون من أن لله تعالى الحق في أن يفعل ما يشاء لأن كل شيء مملوك له تعالى من كل وجه و لكنه سبحانه كتب على نفسه أن يفعل أمورا و أن لا يفعل أمورا أخرى ، و هذه الكتابة على نفسه كتبها على نفسه لأن الرحمة و العطاء و غيرهما من الكمالات مسانخة له و غيرها غير مسانخ له سبحانه.
- خلق الإنسان و له غرض (لا أن للفاعل غرض بل للفاعل غاية) ، فغرض الإنسان هو العبادة و حقيقتها العبودية والانقياد و التسليم المطلق لله تعالى ، و هنالك آية أخرى في القرآن بينت أن العبادة ليست هي الغرض النهائي و إنما هي وسيلة للوصول إلى اليقين

* الغاية و الغرض من خلق الجن و الإنس

- قوله تعالى (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) يقتضي القول بأنه ما دام هنالك جن و إنس فلا بد من تحقق العبودية ، و هذا يلزم أن النشأة واحدة لأنه لو تغيرت النشأة و كان لكل نشأة أحكامها و قوانينها الخاصة كما هو مبرهن في القوانين العقلية كان لا بد أن تختلف الأحكام ، فلو قلنا بأن العبادة هي الغرض النهائي لخلق الجن و الإنس لما كان هنالك نشأة أخرى
- هل العبودية أمر كمالي للإنسان أم أنه أمر مخرج للإنسان من النقص إلى الكمال؟ الجواب: بينا أن المولى سبحانه لا يأمر بشيء إلا ليخرج المكلف من النقص إلى الكمال ، و إلا فلا حاجة للعمل لو كان المكلف كاملا ، فإنما يحتاج المكلف إلى الشرع و التكليف و الأوامر و النواهي إذا كان ناقصا و يريد أن يستكمل فيخرج من نقصه إلى الكمال ، ولو تغيرت النشأة لما احتاج الإنسان إلى العبادة
- بينا أن الإنسان يولد فاقدا لكل عمل و ملكة عملية (( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا )) و أما الملكة العملية فمن الواضح أنه لم يولد أحد منا و هو مكتمل في كل كمالاته العملية و إلا لو وجد مثل هذا الموجود (مكتمل علميا و عمليا) فلا يوجد بالنسبة إليه أوامر و نواهي و تكاليف شرعية
- على هذا الأساس قلنا أن نشأة التجرد لا يوجد فيها شريعة ، فلا شريعة للملائكة لأنها وجودات مجردة لأن الغرض من الشريعة هو إخراج الموجود من النقص إلى الكمال
- لو وضعنا يدنا على موجود بدؤه (أول وجوده) و حشره واحد (آخر وجوده) فهذا لا يحتاج إلى شريعة ، و لكنه يعبد الله و هذه العبادة لأمر آخر ، و لكن لا يوجد بالنسبة إليه شريعة ولا أوامر و نواهي تشريعية
- السيد العلامة ج8 ص49 من الميزان قال : (( .. و هذا شأنه شأن المجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته و ليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تجريدا ففي الفرض خلف ))
- إشكال: لماذا التكليف و التشريع مختص بالجن و الإنس؟ الجواب: ليست مختصة بالجن و الإنس بل مختصة بالناقص الذي يريد أن يستكمل و مصاديقها الإنس و الجن ولم يثبت عندنا غيرهما من المصاديق
- قوله تعالى (( و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين )) تقيد قوله تعالى (( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون )) فقد وضعت الأولى قيدا للعبادة و نهاية لها ، فالإنس و الجن لن يبقوا يعبدون و لن تبقى الأوامر و النواهي إلى الأبد ، و انقطاع الأوامر و النواهي عندما يأتي اليقين فالعبادة هدف لنشأة معينة و أما النشأة الأخرى فلا عبادة فيها بهذا النوع (حرام ، حلال ، مستحب ، مكروه ، وضعي ، .. الخ) و هذا صريح كلام المفسرين و دليله ما بيناه
- لماذا تنقطع العبادة بالموت؟ لو قلنا أن نشأة الآخرة هي امتداد للنشأة الدنيا من جميع الوجوه
(1) الإنسان ناقص
(2) فطرة الإنسان تريد أن تتمم النقص
(3) يجب أن يستعين الإنسان بالآخرين كي يتمم النقص
(4) فطرة الكمال المطلق تقول للإنسان اطلب اللامتناهي
(5) يحصل هنالك تزاحم بين الناس فكل منهم يطلب الكمال اللامتناهي
- من هنا جاءت فلسفة التشريع ، ويتبين أن الآخرة ليست امتدادا لنشأة الدنيا ، لأن التمتع و التلذذ في الآخرة غير متناه و بالتالي كيف يمكن أن نمنع التزاحم بين أهل الجنة ، فمن أهم مميزات النشأة الآخرة هي أنها نشأة فردية و النشأة الدنيوية نشأة اجتماعية ، فالإنسان في الآخرة يعيش مع عمله فالحور العين و غيرها كلها تجسد لأعمال المكلف
- نشأة الدنيا هي نشأة العبادة لأن فيها تكامل إلا أن نقول بأن درجات الكمال متناهية في الدنيا فيصل الإنسان إلى درجة لا يحتاج فيها العبادة ، و حتى لو افترضنا تناهي درجات الكمال فهذا لا يعني الوصول إلى مرحلة لا نحتاج فيها العبادة كما يقول بعض الجهلة ، لأن الإنسان لا يصل إلى آخر درجات الكمال إلا أن يكون قد طوى مراحل علمية و عملية بحيث وصل إلى مرحلة كان الكمال ملكة له ، فإذا صار الإنسان مثلا له ملكة الجود لا يمكنه إلا أن يجود و بالتالي حتى لو فرضنا تناهي درجات الكمال و أن المكلف بلغ أقصاها في دار الدنيا فإنه سيعمل أيضا ، لهذا كان الرسول (ص) يعمل مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و عندما سئل عن ذلك أجاب (( أفلا أكون عبدا شكورا ))
- لو كانت درجات الكمال لا متناهية فالعبادة لا تنتهي لا في الدنيا ولا في الآخرة و لكن العبادة في الآخرة تختلف و هذا ليس مبحثنا هنا
- قيد القرآن العبادة باليقين ليبين أنه إذا انتقلت إلى النشأة الأخرى (الموت) فإن هذا النوع من العبادة (حلال ، حرام .. الخ) ليست موجودة و لكن لا يعني ذلك أن التكامل في تلك النشأة ليس موجودا بل لا يزال هنالك تكامل
- درجات الكمال لا متناهية و هي الحق لأن الحق ليس متناه ، و نحن نعرف أن للسالك إلى الله تعالى أسفار أربعة الأول من الخلق إلى الحق ، و الثاني من الحق فالسفر الثاني لا متناهي و بالتالي يبقى السالك إلى الأبد من السفر الثاني ، نعم بعض السالكين لمصلحة يجعلهم الله تعالى في السفر الثالث و هو مقام الولاية الموجود عند جميع أنبياء الله ، و اختصاص النبي بالسفر الرابع .
- محل الشاهد هو السفر الثاني و هو لا متناه لأن الحق ليس بمتناه ، فمن يقول بأن رسول الله (ص) انتهى من سفره يلزم من قوله أن الحق متناه سبحانه
- يقول العلامة الطباطبائي في الميزان : ((وعلى هذا فالمراد باتيان اليقين حلول الاجل ونزول الموت الذى يتبدل به الغيب من الشهادة ويعود به الخبر عيانا ويؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله فاصفح الصفح الجميل على قوله وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية فانه بالحقيقة امر بالعفو والصبر على ما يقولون لان لهم يوما ينتقم الله منهم ويجازيهم باعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك. وفي التعبير بمثل قوله حتى ياتيك اليقين اشعار ايضا بذلك فان العناية فيه بان اليقين طالب له وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا هو عالم الاخرة الذى هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذى ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة. وبذلك يظهر فساد ما ربما قيل ان الاية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين وذلك لان المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد دلت آيات كثيرة من كتاب الله انه من الموقنين وانه على بصيرة وانه على بينة من ربه وانه معصوم وانه مهدى بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الاية على كون المراد باليقين هو الموت. وسنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي ان شاء الله تعالى ))
- أكمل سماحة السيد الدرس بذكر مجموعة من المواعظ

الدرس التاسع و الأربعون


· الدرس السابق:

- انتهينا فيه من الكلام في قوله تعالى (( و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين )) و انتهينا إلى أن مفاد هذه الآية أن العبادة لها أمد تنتهي عندها ، فالعبادة هي الهدف الأقصى و النهائي للإنسان في النشأة الدنيا ، فلا يتجاوز الإنسان مرحلة الحاجة إلى العبادة في الدنيا بحيث يصل إلى حالة لا يحتاج فيها إلى العبادة كما ادعاه جهلة الصوفية
- انتهينا إلى هنا من البحث في الحسن و القبح في كلا المقامين (1) الحسن و القبح في أفعال الله (2) أفعال الإنسان ، تلخص لنا من المقام الأول أن الله سبحانه له الحق أن يفعل ما يشاء و له الحق في أن يتصرف في كله بما يشاء لأنه المالك على الإطلاق و من جميع الجهات ، و لكنه كتب على نفسه الرحمة لأنها مسانخة لذاته تعالى ، كما بينا أن العقل يمكنه إدراك الحسن و القبح في أفعال الله تعالى فله القدرة على الكشف ولو بنحو الموجبة الجزئية في قبال المدعى الإخباري الذي أنكر قدرة العقل على الكشف في مقام الإثبات ، و أما في المقام الثاني من البحث فقد انتهينا إلى أن هناك أفعال ينبغي للإنسان أن يفعلها و هناك أفعال لا ينبغي له أن يفعلها (لا أنها لا تنبغي في نفسها) ، و بينا الفرق بين ما لا ينبغي في نفسه و ما لا ينبغي بالنسبة إلى الإنسان ، فالفعل بما هو فعل وجود و الوجود حسن على كل حال ، و إنما لا ينبغي للإنسان أن يأتي بهذا الفعل لأن للإنسان غرض أسمى و هو الوصول إلى الكمال و بعض الأفعال تعيق هذا الغرض و بعضها تدفع نحوه و من هنا أمر الشارع ببعض الأفعال و نهى عن أخرى ، و بالتالي هنالك أفعال حسنة و قبيحة بالنسبة إلى الإنسان و بينا أن العقل غير قادر على تشخيص ذلك بنحو الموجبة الكلية و من هنا احتاج الإنسان إلى الوحي
- ثم بحثنا فيما إذا كانت أفعال الله تعالى معللة بالأغراض كما تبين
- بقي عندنا بعض التطبيقات
- بينا الفرق بين اتجاهنا و اتجاه الأشاعرة كتب الله على نفسه الرحمة ، لكن ماذا لو كتب الله على نفسه الظلم فهل يمكننا أن نقول بأنه لا ينبغي عليه سبحانه؟ الجواب: الأشعري يقول لو عكس لكنا نقول أن الظلم حسن و لكننا لا نقول ذلك و هذا هو الفرق المهم بيننا و بين الأشاعرة ، فنحن نقول بأن الله سبحانه لا يكتب على نفسه جزافا و إنما يكتب على نفسه ما هو مسانخ لوجوده و هو العفو و الرحمة لا الظلم

· في أنه تعالى يفعل لغرض:

- راجع كتاب العدل الإلهي للمطهري في ذلك
- نفي القبح عن الله تعالى ينفي العبث بالنسبة لله تعالى
- بينا فيما سبق أن الحق ليس مع الأشاعرة ولا المعتزلة بل مع الإمامية و بينا مطلبهم بنحو واضح
- دليل المعتزلة (1) كل فعل لا يفعل لغرض فهو عبث (2) العبث قبيح على الله تعالى (النتيجة) الله تعالى يفعل لغرض لاستحالة فعل القبيح بالنسبة إليه سبحانه
- احتج الأشاعرة بأن (1) كل فاعل لغرض و قصد فهو ناقص محتاج إلى ذلك الغرض (2) الله تعالى غني مطلق (النتيجة) لا يفعل الله سبحانه لغرض
- أجاب المعزلة : لو كان النفع و الغرض عائدا إلى الله تعالى لكان نقصا فيه سبحانه و لكنه عائد إلى العباد المخلوقين (( إنما خلقت الجن و الإنس ليعبدون )) لا لأعبَد
- بينا الاتجاه الثالث الصحيح في المقام

· في أن الله تعالى يريد الطاعات و يكره المعاصي

- مثال:
- يريد الله الصلاة و يكره شرب الخمر . هل هذه الإرادة و الكراهة تشريعية أم تكوينية؟ الجواب: تشريعية لأن الفرق بين الإرادة التشريعية و التكوينية أنه في التكوينية متعلق المراد هو فعل نفس المريد لا أنه شيء آخر ، أما في الإرادة و الكراهة التشريعية فهي متعلقة بأفعال الآخرين ، فالله تعالى يريد الصلاة و يكره شرب الخمر لا لنفسه لأنه لا نقص فيه حتى يستكمل بالصلاة و لا يتصور بالنسبة إليه شرب الخمر حتى ينهى عنه بالنسبة إلى فعل نفسه ، فهما من الإرادة التشريعية لا التكوينية
- الآن نأتي إلى زيد المأمور بالصلاة و المنهي عن شرب الخمر ، فهو إما يصلي أو لا يصلي (نقيضان) ، و الله سبحانه قبل أن يخلق زيد كان يعلم أنه يصلي أو لا يصلي و يعلم أنه سيأمره بصلاة الصبح و يعلم أن زيدا مختار في أن يصلي أو لا يصلي
- لو فرضنا أن زيدا سيختار عدم الصلاة فهل يختار الله تعالى له منذ الأزل الصلاة أم عدم الصلاة؟ الجواب: يختار الله تعالى له عدم الصلاة لأن زيدا اختار لنفسه ذلك ولو اختار له الصلاة لكان مجبرا عليها ولا معنى للأمر ، فقد أراد الله من الأزل أن لا يصلي زيد و لكن بعد أن علم أن عبده لا يريد أن يصلي ولا يتنافى ذلك مع أمره التشريعي بالصلاة فهو أمر و شاء أن لا يقع ولا يلزم ذلك الجبر ، و هذه من عويصات مسألة الجبر و الاختيار
- هنا إرادة الله تعالى تابعة لا متبوعة
- وقع الخلط عند الأشاعرة في هذه المسألة فقد وجدوا النصوص تقول (( و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله )) (( أمر و شاء أن لا يقع ونهى و شاء أن يقع )) و ما عرفوا أن مشيئة الله تعالى تابعة لمشيئة العبد
- الله تعالى نهى نهيا تشريعيا عن شرب الخمر و علم أن العبد يختار شربه فاختار الله تعالى له منذ الأزل أن يشرب الخمر لأنه علم أنه سيشربه
- قال الحسين (ع) : (( شاء الله أن يراني قتيلا )) و مشيئة الله تعالى هذه تابعة لعلمه بمشيئة الحسين (ع) ولو علم أن الحسين (ع) يختار القعود لا القيام لشاء الله تعالى له القعود ، فقد نهى الله تعالى عن قتل الحسين و شاء أن يقتل الحسين (ع) .
- من هنا يتضح القول بأن الله سبحانه نهى آدم عن الأكل من الشجرة و لكنه شاء أن يأكل آدم (ع) منها
- أمر الله سبحانه إبراهيم (ع) بذبح اسماعيل ولم يشأ أن يذبح
- لم يستطع الأشاعرة أن يجمعوا بين الأمر التشريعي و المشيئة

· استشهادات على المطلب:

- هذا صريح الروايات الواردة عنهم (ع) في الكافي ج1 ص151
- عن الرضا (ع) : (( إن لله إرادتين و مشيئتين إرادة حتم )) وهي الإرادة التكوينية التابعة لإرادة الإنسان ، فالله سبحانه – وله المثل الأعلى – من قبيل الذي يدفع السيارة من مؤخرتها فإرادته تابعة لإرادة من يمسك بمقود السيارة (( و إرادة عزم ينهى وهو يشاء )) إذا شاء العبد وجود المعصية (( و يأمر )) بالطاعة (( وهو لا يشاء )) تحقق الطاعة في الخارج إذا شاء العبد عدم تحقق الطاعة في الخارج (( أوما رأيت الله نهى آدم (ع) و زوجته أن يأكلا من الشجرة و هو شاء ذلك إذ لو لم يشأ لم يأكلا ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى )) و للزم أن يقع في سلطانه خلاف ما يريد و هو إخراج له سبحانه من سلطانه (( وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز و جل ))
- راجع حاشية رقم 1 على الرواية السابقة للعلامة الطباطبائي ((للمشيئة والارادة انقسام إلى الارادة التكوينية الحقيقية والارادة التشريعية الاعتبارية فان ارادة الانسان التى تتعلق بفعل نفسه نسبة حقيقية تكوينية تؤثر في الاعضاء الانبعاث إلى الفعل ويستحيل معها تخلفها عن المطاوعة الا لمانع واما الارادة التى تتعلق منا بفعل الغير كما إذا امرنا بشى ء او نهينا عن شئ فانها ارداة بحسب الوضع والاعتبار، لا تتعلق بفعل الغير تكوينيا، فان ارادة كل شخص انما تتعلق بفعل نفسه من طريق الاعضاء والعضلات ومن هنا كانت ارادة الفعل او الترك من الغير لا تؤثر في الفعل بالايجاد والاعدام، بل تتوقف على الارادة التكوينية من الغير بفعل نفسه حتى يوجد او يترك عن اختيار فاعله لا عن اختيار آمره وناهيه، إذا عرفت ذلك علمت ان الارادتين يمكن ان تختلفا من غير ملازمة، كما ان المعتاد بفعل القبيح ربما ينهى نفسه عن الفعل بالتلقين وهو يفعل من حيث الزام ملكته الرذيلة الراسخة، فهو يشاء الفعل بارادة تكوينية ولا يشاؤه بارادة تشريعية ولا يقع الا ما تعلقت به الارادة التكوينية والارادة التكوينية هى التى يسميها عليه السلام بارادة حتم والتشريعية هى التى يسميها بارادة عزم. وارادته تعالى التكوينية تتعلق بالشى ء من حيث هو موجود ولا موجود الا وله نسبة الايجاد اليه تعالى بوجوده بنحو يليق بساحة قدسه تعالى وارادته التشريعية تتعلق بالفعل من حيث انه حسن وصالح غير القبيح الفاسد فاذا تحقق فعل موجود قبيح، كان منسوبا اليه تعالى من حيث الارادة التكوينية بوجه ولو لم يرده لم يوجد، ولم يكن منسوبا اليه تعالى من حيث الارادة التشريعية، فان الله لا يأمر بالفحشاء. فقوله عليه السلام: ان الله نهى آدم (ع) عن الاكل وشاء ذلك وامر ابراهيم (ع) بالذبح ولم يشأه اراد بالامر والنهى التشريعيين منهما وبالمشيئة وعدمها التكوينيين منهما. واعلم ان الرواية مشتملة على كون المأمور بالذبح اسحاق دون اسماعيل وهو خلاف ما تظافرت عليه اخبار الشيعة. (الطباطبائى) ))
- البحار ج4 ص139 عن الرضا (ع) : (( قد شاء الله من عباده المعصية و ما أراد و شاء الطاعة و أراد منهم لأن المشية مشية الأمر و مشية العلم و إرادته إرادة الرضا و إرادة الأمر أمر بالطاعة و رضي بها و شاء المعصية يعني علم من عباده المعصية و لم يأمرهم بها فهذا من عدل الله تبارك و تعالى في عباده جل جلاله و عظم شأنه ))
- حاشية للصدوق على الرواية السابقة : (( إن الله تبارك و تعالى نهى آدم و زوجته على أن يأكلا من الشجرة و قد علم أنهما يأكلان منها فشاء لهما ذلك ))

· اقتباس و تعليق وبيان لبعض الوجوه التي استدل بها المعتزلة على مدعاهم:

- (( وإرادة القبيح قبيحة )) أي إرادة القبيح من أفعالنا (( منه سبحانه و تعالى و كذا ترك إرادة الحسن )) من أفعالنا (( قبيح و للأمر و النهي )) أي الأمر بما لا يريده قبيح و النهي عما يريده أيضا قبيح (( أقول مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن و الكافر سواء وقعت أم لا و يكره المعاصي سواء وقعت أم لا )) هذه الإرادة التشريعية (( و قالت الأشاعرة كل ما هو واقع فهو مراد )) أي تشريعا مع أن كل ما هو واقع هو مراد تكوينا لا تشريعا فقد يكون منهيا عنه تشريعا و مردا تكوينا وهذه هي نظرية الجبر ، أضف إلى ذلك أن الفعل بالنسبة إلى العبد يكون معصية و لكنه بالنسبة إلى الله تعالى فلا يعتبر معصية (( و الدليل على ما ذهب إليه المعتزلة وجهان الوجه الأول أنه تعالى حكيم و الحكيم لا يفعل القبيح فالله لا يفعل القبيح )) هذا قياس من الشكل الأول صغراه أن الله حكيم و كبراه أن الحكيم لا يفعل القبيح و نتيجته أن الله لا يفعل القبيح (( فكما أن فعل القبيح قبيح فكذا إرادته قبيحة )) فلا يمكن أن نقول بأن الله يريد المعصية و لو بالإرادة التشريعية (( وكما أن ترك الحسن قبيح فكذا ترك إرادة الحسن قبيحة )) (( الثاني أنه تعالى أمر بالطاعات و نهى عن المعاصي و الحكيم إنما يأمر بما يريده لا بما يكرهه و ينهى عما يكرهه لا ما يريده فلو كانت الطاعة من الكافر مكروهة لله تعالى لما أمر بها ولو كانت المعصية محبوبة لما نهى عنها و لكان الكافر مطيعا لكفره و عدم إيمانه لأنه فعل ما أراده الله منه و امتنع كما كرهه و ذلك باطل قطعا )) و لمزيد من المراجعة لمطلب المعتزلة يرجع إلى كتاب توضيح المراد ص549 حيث ذكر وجوها ثمانية لإثبات دعوى المعتزلة في قبال الأشاعرة

الدرس الخمسون


· الدرس السابق:

- هل تتنافى إرادة الله التشريعية مع التكوينية؟ بينا أنه لا تنافي بينهما

· بيان بعض الوجوه التي استدل بها الأشاعرة على مدعاهم:

- ذكر الأشاعرة كالفخر الرازي عدة وجوه لتأييد مدعاهم عدها بعضهم في سبعة وجوه
- نحن لا نختلف مع الأشاعرة في أنه لا يقع شيء إلا وهو مراد لله ، و لكننا نختلف معهم في قولهم بالتنافي بين النهي و الإرادة التشريعية و التكوينية
- حجج الخصم:
(1) الله فاعل لكل موجود فكل ما هو واقع هو مراد لله تعالى سواء كان طاعة أو معصية و بالتالي فهو محبوب له تعالى فتكون القبائح مسنودة إليه لأنه فاعلها و قد أجبنا بما سبق بأن لكل فعل حيثيتين حيثية الوجود فالفعل بما هو فعل وجوده حسن ، و حيثية أخرى هي حيثية الفعل بالنسبة إلى المباشر له و هي حيثية الطاعة و المعصية و هذه تنسب إلى العبد لا إلى الله تعالى ، فالمعصية و الطاعة عنوانان نسبيان مرتبطان بالإنسان
(2) أن الله لو أراد من الكافر الطاعة و الكافر أراد المعصية وكان الواقع مراد الكافر لزم أن يكون الله سبحانه مغلوبا : و في هذا خلط واضح بين الإرادة التكوينية و التشريعية على ما بيناه ، فالله سبحانه يريد الطاعة من العبد على سبيل الاختيار لا الإجبار و إلا لأمكنه أن يجبر عباده
(3) كل ما علم الله وقوعه وجب أن يقع و ما علم عدمه امتنع أن يقع فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال وقوعها منه : و الجواب كما بيناه أن علم الله سبحانه تابع لا متبوع ، لا بمعنى أنه يوجد بعد وجود الفعل ، بل بمعنى أنه علم ما سيقع من عبده و على ما علم من عبده أراد منه تكوينا

· تذكر مما سبق:
- للعدل معان أربع من أهمها أنها إعطاء كل موجود ما هو مستعد له
- أثبتنا الحسن و القبح في صفات الله تعالى
- من أهم مصاديق الحسن العدل و من أهم مصاديق القبح الظلم و مرجعهما إلى الكمال و النقص
- العدل أن يعطي الله تعالى كل موجود ما هو مستحق له (كان التامة و كان الناقصة) كما تبين

· لماذا التفاوت بين الموجودات؟

- سؤال: هل جميع الموجودات بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء فهو بالنسبة إليهم على حد التساوي أم أنها مختلفة؟ و بالتالي هل يكون العدل أن يعطيهم على حد سواء أم أن يعطيهم حسب قابلياتهم و استعداداتهم؟
- نحن عندما نأتي إلى الوجود نجد تفاوتا بعض الناس أسود و بعضهم أبيض ، بعض الموجود جنة و بعضه نار .. الخ
- المطهري ص73 يقول : (( وبوصول الحديث إلى هنا يظهر أمامنا سؤال آخر هو أن الأشياء جميعا تكون بنسبة واحدة متساوية اتجاه الله سبحانه و تعالى ، ولما كان الاستحقاق غير متوفر في صلة المخلوق بخالقه )) لأنه لا نقبل أن بعض الموجودات تستحق أكثر و بعضها تستحق أقل لأنه لا يوجد لأحد عليه تعالى حق (( فالعدل بمعنى رعاية الاستحقاق لا يتحقق له مصداق هنا على الإطلاق و العدل الوحيد الذي يمكن أن يكون صادقا في حق الله هو الذي يقصد به رعاية التساوي )) لأنه متساو بالنسبة إلى الجميع و الجميع من حيث الاستعداد متساو بالنسبة إليه ، فالعدل إذن بمعنى مراعاة الاستحقاق و التساوي في حق الله يؤديان إلى نتيجة واحدة وعلى هذا يوجب العدل الإلهي أن لا يكون هنالك أي ترجيح أو تفاوت بين المخلوقات ، مع أننا نلاحظ تفاوتا و تنوعا في عالم الوجود ، و من هنا يأتي سؤال : كيف يمكن التوفيق بين العدل الإلهي من جهة و ما نجده من هذه الترجيحات و الاختلافات بين الموجودات الإمكانية في عالم الإمكان؟ فما هو منشأ اختلاف هذه الموجودات؟!
- الخلاصة: الموجودات بالنسبة إلى الله تعالى متساوية فلماذا خلقت مختلفة؟
- التفاوت واضح في السلسلة الطولية و العرضية و سيتبين حل هذه الإشكالية أكثر عندما نبينهما
- إذا كنا ننكر أن الظلم قبيح و العدل حسن كما قالت الأشاعرة فالأمر سهل
- جوابنا عن الإشكالية: هناك جوابان إجمالي و تفصيلي:
(1) الإجمالي: يمكن لكل إنسان مؤمن أن يقنع به نفسه و هو كاف ، و هو من قبيل البرهان اللمي ، فقد ثبت لنا في الأبحاث السابقة أن (مقدمة أولى) الله سبحانه عالم قدير حكيم غني مطلق ، و هذه الصفات تعني أنه سبحانه جميل على الإطلاق فهو الجمال و هو كل الجمال و كله الجمال فلا يوجد جمال إلا وهو واجد له ، و بالتالي ليس فيه سبحانه نقص ولا قبح ، و هذا ثبت في التوحيد (المقدمة الثانية) الفعل مسانخ لفاعله و المعلول أثر لعلته و بالتالي فأفعال الله تعالى كلها جميلة ولا بد أن يكون هنالك أسباب خلف التفاوت بين الخلق إلا أننا لم نطلع عليها كلها ، قالت السيدة زينب (ع) (( ما رأيت إلا جميلا )) ، فلم يعطنا الله تعالى ضمانا بأن نطلع على كل أسرار الكون و نكتنه سر القدر
(2) التفصيلي: (أولا) لا بد أن نعرف أن إرادة الله تعالى الذاتية و إرادته الأزلية و منذ الأزل بماذا تعلقت؟ هل تعلقت بعالم يقوم على أساس الوسائط و الأسباب و المسببات أم لم تتعلق إرادته بإيجاد عالم يقوم على ذلك؟ و قد تبين في بحث التوحيد أن إرادة الله تعالى تعلقت منذ الأزل بإيجاد عالم قائم على أساس تسلسل الأسباب و المسببات بحيث يبتدئ من الصادر الأول (ثانيا) هل هذا الترتيب و النظام في عالم الإمكان تكويني أم اعتباري يمكن التلاعب به؟ و سيتضح أن قولنا بأن الصادر الأول ترتيبه تكويني حقيقي فلا يمكن تغييره و لكن عندما نقول بأن رئيس الجمهورية ترتيبه اعتباري فهو سكون في ساعة رئيسا ثم تزول رئاسته و سيأتي تفصيل في الجواب التفصيلي
- البرهان الإجمالي لا يفيد إلا من يعتقد بوجود الله و كماله وتوحيده ولكن لو انطلق المستدل من الآفاق أي بالبرهان الإني فإنه سيستدل من التفاوت في الخلق على عدم حكمة الله تعالى
- سنبين لاحقا الفرق بين الترجيح من جهة و بين التفاوت و الاختلاف من جهة أخرى و لكننا هنا سنستخدمهم كمترادفات و ليسوا كذلك واقعا
- من انطلق من البرهان الإني قال بأن الكون المتفاوت يدل على عدم حكمة و كمال الله تعالى ، و بالتالي قالوا بنفي العلة الفاعلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق