الجمعة، 5 أغسطس 2011

تفريغ دروس العدل الإلهي للعلامة السيد كمال الحيدري - تفريغ الأستاذ علي العريان - الدرس 1-10

* التوحيد أساس العدل الإلهي

تعتبر أبحاث العدل الإلهي امتدادا لبحوث علم التوحيد ، بل إن إحكام سائر المعارف الدينية يتوقف على إحكام التوحيد و إثباته ، وقد أشارت روايات أهل بيت العصمة (ع) إلى هذه النكتة في أكثر من موضع كقول أمير المؤمنين (ع) (( أول الدين معرفته ))[1] و حديث الإمام الصادق (ع) (( إن لمحبينا في السر و العلانية علامات يعرفون بها )) قال السائل : و ما تلك العلامات؟ قال (ع) : (( تلك خلال أولها أنهم عرفوا التوحيد حق معرفته و أحكموا علم توحيده .. الخ ))[2] ، فليس من الاعتبارية أو الرمزية في شيء القول بأن جميع المسائل الدينية ترتكز على حجر أساس هو التوحيد و معرفة الله تعالى .

* هذا البحث

يناقش هذا البحث العدل الإلهي خاصة لا مطلق العدل ، و فيه يطرح آية الله العلامة السيد كمال الحيدري (دام ظله) مباحث مبتكرة و أخرى مستفادة من مدرسة الحكمة الإلهية التي أسسها الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي (رحمه الله) و بحث العدل الإلهي للشهيد مرتضى المطهري (رحمه الله) و بحوث المفسر الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي (رحمه الله) ، يشير السيد الحيدري خصوصا إلى بحث الشهيد المطهري وكتابه "العدل الإلهي" و يبين أن بين ما يذكره في محاضراته حول العدل الإلهي و بين كتاب المطهري عموما و خصوصا من وجه ، بمعنى أن بعض ما ذكر هنالك من مباحث لم يذكر في المحاضرات و العكس صحيح ، كما يشير السيد الحيدري إلى أن بحث المطهري يعد بحثا مبتكرا و لعل أول من ناقش مسألة العدل الإلهي على نحو مستقل وفق المنهج الفلسفي هو الشهيد المطهري (رحمه الله) ، فمما يؤسف له أن المحقق الطوسي نهج نهجا كلاميا في تحقيق مسائل العدل الإلهي مع أنه كان فيلسوفا و ذلك لظروف معينة قال الشهيد المطهري (ره) (( والمتخصصون يعلمون أن الحكماء المسلمين لم يخصصوا بابا بعنوان العدل في الإلهيات ، وقد نهج المتكلمون نهجا مغايرا لذلك فخصصوا بابا للعدل ، فالباحث في العدل يسهل عليه أن يجد آراء المتكلمين في العدل ، ولكنه يضطر لاستخراج آراء الحكماء من تضاعيف بحوثهم المتنوعة ، ولهذا لم يخل هذا البحث من صعوبة بالنسبة إلي . إنني وحتى الوقت الراهن لم أواجه رسالة ولا فصلا ولا مقالة مستقلة تتناول مباشرة موضوع العدل الإلهي بأسلوب الحكماء ، وقد ذكر ابن النديم في الفهرست "كتب يعقوب بن اسحق الكندي رسالة في العدل الإلهي" ، ولست أدري أهذه الرسالة باقية حتى الآن أم لا؟ ولم يصل إلى علمي أيضا أكتبت بأسلوب الحكماء أم بطريقة المتكلمين ، علما أن بعض الحكماء من قبيل نصير الدين الطوسي قد سار في كتاباته على أسلوب المتكلمين ، ولو نظرنا إلى تلك الآراء بإمعان وجدنا غرض هؤلاء الحكماء من تلك الكتابات خطابيا وإقناعيا وليس برهانيا ))[3] و من هنا يتبين مدى صعوبة بحث العدل الإلهي على منهج الحكماء إذ أنه لم يبحث قبلا في الفلسفة و لا بد من استنباط مسائله من قواعد الحكمة الإلهية.


* تاريخ مبحث العدل الإلهي

ابتدأ التساؤل و البحث العقلي في الإسلام منذ القرن الأول الهجري خلافا لمن يدعي أنه لم يبتدئ إلا في القرن الثالث و الرابع الهجريين مع ترجمة كتب اليونان ، فيمكننا تلمس بواكير البحث العقلي في بعض آيات القرآن الكريم مثلا و نصوص نهج البلاغة ، و من أقدم التساؤلات العقلية الإسلامية و التي طرحت في القرن الأول الهجري هي مسألة الجبر و الاختيار ، هل للقضاء و القدر الإلهي مدخلية في فعل الإنسان أم لا؟ فإذا قلنا أن القضاء و القدر الإلهي عين كل شيء فهل مما عين أفعال الإنسان؟ هل الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها أم ليس بعالم بها؟ فإن لم يكن عالما بها لزمه الجهل و إن كان عالما بها فإن الفعل لا بد أن يقع و بالتالي فوقوع المعصية من العاصي حتمي لأن الله علمه مسبقا فلا بد أن يقع؟ و غيرها من الأسئلة التي تصب في هذا المجال ، و يرجع السبب في البروز المبكر لهذه المسألة على الساحة الإسلامية هو نزول الآيات المخبرة عن عقيدة القضاء و القدر إضافة إلى ارتباط هذه المسألة بواقع المسلمين الذين كانوا بصدد الترقي و النهوض و البناء و ابتداء حياة جديدة بعد الجاهلية .
لقد تركت إشكالية الجبر و الاختيار التي بدأت مبكرة في تاريخ علم الكلام الإسلامي آثارها على المنهجيات و المدارس الإسلامية التي لا زالت واقعة إلى اليوم ، فانقسم المتكلمون إلى اتجاهات منها الجبرية و منها المفوضة ، كما قامت بعض السلطات الجائرة كالسلطة الأموية باستغلال مسألة الجبر و الاختيار و تجييرها لصالح أنظمتها الاستبدادية .

* معنى و مناط العدل الإلهي

لا خلاف بين المسلمين في أن الله تعالى عادل و هذا ما ورد بنص القرآن كصفة من صفات الله تعالى ، و لكن البحث الواقع بين المسلمين هو في مناط و معنى العدل الإلهي ، و لكي نفهم معنى العدل الإلهي لا بد لنا أن نحقق في معنى العدل البشري أولا ، فالعدل البشري يرتكز على نقطة أساسية قائمة على الحقوق فالعدل هو إعطاء المستحق حقه و الظلم هو سلب المستحق حقه ، و من هنا فإن العدل و الظلم يستبطنان وجود حق في البين ، فلو لم يكن هنالك حق فلا معنى أن نقول هذا عدل و هذا ظلم ، فإذا لم يكن لشخص حق على شخص آخر لا يمكن أن نقول بأن فلانا ظلم فلانا أو عامله بالعدل لأنه إن أعطاه فقد تفضل عليه و أحسن إليه و إن منعه فلا حق له عليه يحاسبه به . هذا بالنسبة إلى البشر و أما بالنسبة لله تعالى فليس هنالك من الخلق من له حق على الله (عز وجل) لأن وجود كل موجود و كمالات وجوده كلها من الله تعالى و بالتالي فهو مملوك لله ملكا حقيقيا و للمالك حق التصرف في ما يملك ، والمالك الحقيقي هو الله تعالى وحده إذ أن كل مالك سواه إنما هو مالك لما ملكه الله تعالى وملكيته في طول ملكية الله فلا وجود لملكية في عرض ملكية الله و هذا مقتضى الإيمان بتوحيد الربوبية ، يقول المطهري (( من الواضح أن كل ما لدى المخلوق فمن الخالق ، وأولوية المخلوق وملكيته تكون في طول أولوية وملكية الخالق ، ولا توجد أولوية ولا ملكية في عرض أولوية وملكية الخالق ، وللتوضيح نقول : إن ملكية الله وملكية الإنسان من قبيل ملكية الأب وملكية ولده الصغير ، فكل واحد من الأطفال ينسب إلى نفسه حق الأولوية و الملكية بالنسبة إلى اللعب التي في حوزته ، و يعتبر تصرف الطفل الآخر فيها تصرفا عدوانيا و تجاوزا على حقوقه ، ولكن أتستطيع ملكة وأولوية هذا الطفل أن تنفي ملكية وأولوية أبيه ، أم هي ملكية في طول الأب ولا يوجد بينهما أي تضارب ، وإذا تصرف الأب في تلك اللعب فإنه يكون قد تصرف في ماله وملكه؟ فالله سبحانه هو مالك الملك على الإطلاق ، وليس له شريك فيه ، ولابد أن نقول بكل معنى الحقيقة ودون أية شائبة من مجاز "له الملك وله الحمد و إليه يرجع الأمر كله" . وعلى هذا يعتبر أي تصرف لله في العالم إنما هو تصرف في شيء هو منه وله ، ولا يملك أحد بالنسبة إلى الله أي حق ولا أولوية فالظلم إذن في حق الله غير وارد ، ليس من جهة كونه قبيحا و القبيح لا يفعله ، وليس من جهة أن الحسن و القبح لا معنى لهما بالنسبة إلى الخالق ، ولكن من جهة أخرى وهي: مع فرض أن قبح الظلم صفة ذاتية للظلم ، ومع فرض كون الحسن والقبح الذاتيين حاكمين على فعل الله كما هما حاكمان على أعمال البشر ، فإنه بالنسبة إلى الله لا يمكن عمليا أن نجد مصداقا لذلك ، لأنه لا ملكية لأي أحد و بالنسبة إلى أي شيء هو تحت تصرفه في مقابل ملكية الله ليمكن عمليا تحقق الظلم ))[4] ، إضافة إلى ذلك فإن الله تعالى يملك جميع جهات المخلوق بخلاف ملكية الإنسان للأشياء فعلاوة على أنها ملكية اعتبارية فهي ملكية للأشياء من جهات دون جهات فالإنسان يستطيع أن يستفيد من دابته بأن يركبها و يحملها الأحمال إلا أنه ليس له أن يحرقها فمثل هذا التصرف مذموم عند العقلاء ، فالإنسان مالك للدابة من وجوه دون وجوه بخلاف مالكية الله تعالى فهي مطلقة ، ولكي نوضح المطلب أكثر نعطي مثالا آخر فمالكية الإنسان لأعضاء بدنه ذات وجوه أيضا فليس له أن يقطع تلك الأعضاء أو يشوهها ، وهكذا يتبين كيف أن الله تعالى أولى بنا من أنفسنا.

* ارتباط مناط العدل الإلهي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان

ترتبط هذه المسألة ارتباطا وثيقا بمجموعة من المباحث الأصولية و العقائدية ، فهل القاعدة العقلية القائلة بـ"قبح العقاب بلا بيان" صحيحة و تنطبق على الخالق تعالى؟ و في علم أصول الفقه يطرح تساؤل مفاده هل الأصل في الأشياء الحرمة باعتبارها مملوكة لله تعالى فيكون التصرف بها موقوفا على إذنه أم أن الأصل فيها البراءة من باب قبح العقاب بلا بيان؟
لقد برز من علماء الإمامية من ناقش قاعدة قبح العقاب بلا بيان و طرح عدة إشكالات جدية عليها وهو السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فبين بأن القول بقبح العقاب بلا بيان و إجراء هذه القاعدة على الله تعالى يلزم منه الاعتقاد بمحدودية ملك الله تعالى ، وهكذا طرح نظرية (حق الطاعة) واعتبرها مقتضى الإيمان بتوحيد الربوبية .
نعم قد يلزم الله تعالى نفسه بأفعال من باب كونه كاملا سبحانه و أنه سنخ وجود يقتضي أن يفعل الكمال و أن يصدر منه الكمال ، ولكن ما يوجبه الله تعالى على نفسه راجع إليه سبحانه لا إلى عباده ، فليس من حق المخلوق أن يعين وظيفة الخالق ، وهكذا يتبين أن قبح العقاب بلا بيان قبح شرعي لا عقلي لأن العقل يرى لله المالكية المطلقة إلا أن الله سبحانه ألزم نفسه بأن لا يعاقب بلا بيان ، فالقواعد العقلية المبنية على توحيد الربوبية تقول بأن الله تعالى (( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ))[5] و لكن القواعد العقلائية هي ما يقوم عليه الشرع لأن الله سبحانه أراد و أذن أن يجري الشرع وفق الاستحسانات و الاستقباحات العقلية ، وفي هذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في خطبة له : (( أما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم ، فالحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلا جرى عليه و لا يجري عليه إلا جرى له و ولو كان لأحد أن يجري له و لا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه و لكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه و توسعا بما هو من المزيد أهله  .. الخ))[6] ، فقد أوجب الله تعالى على نفسه حقوقا اتجاه عباده مقابل أن فرض عليهم طاعته وعبادته ، و من هذه الحقوق التي جعلها الله تعالى على نفسه هي أن يجزيهم بأفعالهم و هذا هو منشأ ما يعرف بـ (اللطف الإلهي) ، و هكذا يتبين أن قولنا (الله لا يفعل القبيح) ليس سالبة بانتفاء المحمول بل سالبة بانتفاء الموضوع لأن القبح لا يصدق إلا أن يكون هنالك حق للعبد على الله و هذا منتف أساسا و مخل بتوحيد الربوبية ، ولا تظنن أن ما نقول به هو قول الأشاعرة وانتظر حتى يأتيك تفصيله.


* معاني العدل و الظلم

يقابل العدل الظلم تقابل الملكة و عدمها ، وتتعدد معاني العدل و بتبعها معاني الظلم إلى ما يلي:
(1)    التناسب و التوازن فنقول (بدن الإنسان متعادل) أي متناسب و متوازن و (هذا المجتمع متعادل) بنفس المعنى حيث تكون الخدمات و الحالات في المجتمع متناسبة و متوازنة ، و نقول (محلول كيميائي متعادل) أي متناسب فلا هو بالحمضي ولا هو بالقاعدي بل متوازن بينهما ، و في هذا المعنى بحث مستقل لإجابة سؤال (هل هذا العالم خلق بنحو متوازن متناسب أم لا؟) ، قال تعالى : (( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير ))[7] و قال عز و جل : (( و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسي و أنبتنا فيها من كل شيء موزون ))[8] و لإثبات توازن هذا العالم طريقان الأول لمي يكون نسير فيه من العلة إلى المعلول فننظر من هو خالق هذا العالم و علته ، و عندما نرى بأن الخالق كامل مطلقا يكون مخلوقة كاملا من كل جهة وهذا مقتضى قاعدة السنخية ، و الطريق الثاني لإثبات توازن العالم هو الطريق الإني يكون نظرنا فيه إلى الخلق من خلال البحث في العلوم و الطبيعيات لكي نرى مدى كمال تركيب هذا العالم وتأليفه بشكل متعادل متناسب متوازن ، و لكن هذا البحث خارج عن مبحث العدل الإلهي و إن تطرق إليه فيه أحيانا ، و قد حاول البحث أن يجيب عن الشبهات الواردة على العدل الإلهي من خلال فكرة التناسب و التوازن الذي لا بد أن يحكم العالم كجوابهم عن شبهة (الترجيح بلا مرجح) و هذه منهجية خاطئة كما سيأتي حيث أنهم قالوا بأن الترجيح بلا مرجح هو مقتضى أن يكون في العالم توازن فمثلا إذا كان لديك ولدان في البيت و تريد أن توجد انسجاما بينهما تضطر أحيانا أن تظلم أحدهما لكي يرضى الآخر فيحصل بذلك انسجام في المنزل لأن أحدهما مسالم مثلا و يسكت عن هضم حقه و هذه منهجية باطلة ، و الحق أن الترجيح بلا مرجح لا يقع من الله تعالى ، فلا نقول أن الحمار و الإنسان متساويان بالنسبة إلى الله تعالى و من دون استحقاق جعل هذا حمارا و ذاك إنسانا لكي يكون هنالك توازن في العالم.
(2)    التساوي كأن يعامل مسؤول دائرة المراجعين معاملة متساوية بحيث لا يفرق بين العالم و الجاهل و لا بين من لديه شغل مهم و من ليس لديه شغل مهم ، و من هذا الباب فكرة الماركسية عن توزيع الثروات بالتساوي بغض النظر عن عدد ساعات العمل و نوعية العمل أو أي اختلافات أخرى بين أفراد الشعب ، فهل المقصود من العدالة الإلهية المطلوبة هذا المعنى؟ أكثر العامة يفهمون هذا المعنى من العدالة الإلهية و من حقك أن تقول نعم هذا هو المعنى المقصود لأن الجميع بالنسبة إلى الله تعالى كأسنان المشط ، و لكن هنا تطرح شبهة و هو أننا نجد اختلافا بين المخلوقات فهذا حجر وذاك حمار و ذلك إنسان فكيف لم يعامل الله تعالى خلقه بالتساوي؟
(3)    رعاية الاستحقاق بأن يعطي كل شيء حقه فإن منع المستحق حقه أو أعطى غير المستحق شيئا فهو ظالم و هذا هو المعنى الذي تقدم في تفسيرنا للعدل البشري في الدرس الأول و هو قائم على افتراض حق في الرتبة السابقة كما تبين ، و هذه الحقوق إما بنحو الوجوب أو بنحو الاستحباب ، و هذا المعنى خارج عن محل الكلام أيضا لأننا بينا عدم وجود حق لأحد من الخلق على الحق سبحانه.
(4)    المعنى الرابع للعدل هو أن يعطى كل ما هو مستعد له من الوجود (كان التامة) و من كمال الوجود (كان الناقصة) ، فلا شك أن الموجودات متفاوتة في القابليات وتدل على ذلك المشاهدة و التجربة و العقل فعن أبي بصير أنه سأل الصادق (ع) عن علة سرعة الفهم وإبطائه و التفاوت المشاهد بين أفراد البشر في ذلك ، فقال الصادق (ع) : (( أما الذي إذا قلت له أول الشيء فعرف آخره فذلك الذي عجن عقله بالنطفة التي منها خلق من بطن أمه و أما الذي إذا قلت له الشيء من أوله إلى آخره ففهمه فذلك الذي ركب فيه العقل في بطن أمه ، و أما الذي تردد عليه الشيء مرارا فلا يفهمه فذاك الذي ركب فيه العقل بعدما كبر ))[9] ومن هنا كان مقتضى حكمة الله تعالى أن يعطي كل موجود بقدر قابليته و استعداده فالفيض من الله تعالى دائم متصل إلا أن كل موجود يأخذ منه بقدر ما هو مستعد له ، و لا بد أن نشير هنا إلى أن البعض يعبر أحيانا بدل قوله "مستعد" بـ"مستحق" ولا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى خلط بين المعنى الثالث للعدل المذكور و بين هذا المعنى ، فالاستحقاق هنا الذي هو بمعنى الاستعداد غير معنى الاستحقاق في المعنى الثالث ، و هذا المعنى الرابع هو ما اختاره حكماء الإمامية ، و به يفسر العدل كلما نسبوه لله تعالى ويستشهدون عليه بقوله تعالى (( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا ))[10] ، بقي سؤال أخير عن سبب اختلاف الناس في القابليات و الاستعدادات وكيف ينسجم ذلك مع العدل الإلهي ، و يرجأ جوابه إلى بحوث لاحقة.

* توضيح بعض المصطلحات

أ. الحسن و القبح الفعليان

إذا وصف العمل بما هو هو بالحسن أو القبح فهذا هو الحسن أو القبح الفعلي ، فالخيانة بما هي هي و بغض النظر عن فاعلها قبيحة ، و الأمانة بما هي هي بغض النظر عن فاعلها حسنة

ب. الحسن و القبح الفاعليان

يوصف الفعل بالحسن الفاعلي أو القبح الفاعلي إذا نظر إليه باعتبار الفاعل لا الفعل ، فالفعل بما هو هو لا يتصف بالحسن ولا القبح و إنما يعرض عليه الوصف فاعتبار فاعله .
و اعلم أننا عندما نتحدث عن الحسن و القبح في المبحث التالي فإنما نعني بهما الفعليين دون الفاعليين.

ج- الحسن و القبح الذاتيان

أن يكون للفعل بنفسه وفي ذاته حسنا أو قبحا بغض النظر عن فاعله و شروطه الخارجية و سواء استطاع العقل أن يتوصل إلى حسنه أو قبحه أم لا

د- الحسن و القبح العقليان

أن يكون الفعل بنفسه حسنا أو قبيحا مع استطاعة العقل مستقلا بأن يتوصل إلى ذلك

هـ- المستقلات العقلية

للعقل البشري – مستقلا وبدون الاستعانة بمعين خارجي كالشرع – القدرة على تشخيص الحسن و القبح الفعليين أحيانا و هذه القضايا هي المعروفة بالمستقلات العقلية ، و قد أنكر الأشاعرة المستقلات العقلية بناء على مبانيهم كما سيتبين.


* فهرسة البحوث اللاحقة

فيما يلي عناوين ما سنتطرق إليه من مباحث العدل الإلهي:
·       هل الحسن و القبح عقليان أم شرعيان؟
·   لماذا وجدت الشرور؟ فلماذا خلق الله تعالى الشياطين و إبليس باعتباره أهم مصداق من مصاديق الشرور؟
·   لماذا وجد هذا الاختلاف و التفاوت بين الموجودات فهذا إنسان و ذاك حيوان و ذاك جماد و هذا بقر و ذاك حمار و هذا أبيض و ذاك أسود و هذا غني و ذاك فقير؟
·   لماذا خلق الله هذا العالم و هو يعلم أنه مليء بالآفات و المصائب و البلايا؟ لماذا لم يخلق عالما بلا مصائب و بلا بلايا؟ و إذا قلت أن المصائب و البلايا منشؤها فعل الإنسان فكيف تفسر مصائب و بلايا المعصومين (ع)؟
·       لماذا خلق الله تعالى العالم و جعله سائرا إلى الفناء و الموت؟
·   كيف تنسجم عقيدة القضاء و القدر مع اختيار الإنسان و عدم جبره؟ و إذا كان الإنسان مجبرا فهل ينسجم ذلك مع العدل الإلهي و إذا كان مختارا فكيف يمكن التوفيق بين الاعتقاد باستقلاله في الفعل و بين الاعتقاد بأن الله تعالى مالك وخالق لكل شيء حتى لأفعال الإنسان؟
·       هل تتناسب الشفاعة مع العدل الإلهي؟
·   كيف يهدي الله البعض و يضل البعض كما صرحت بعض الآيات فهل ينسجم الإضلال مع العدل الإلهي؟ وكيف يستدرج الله بعض عباده كما نص القرآن؟
·       هل العقاب الأخروي كما ذكر في القرآن الكريم يتناسب مع ذنوب العباد في الدنيا؟

المناهج الإسلامية و مسألة العدل الإلهي


·   تتعدد المناهج الإسلامية في بحث القضايا العقائدية و منها مسألة العدل الإلهي[11] ، و بشكل مختصر هنالك منهج أهل الحديث الذي يعتمد النص بالدرجة الأولى في إجابة الأسئلة العقائدية ، و منهج تجريبي يحاول أن يحل الإشكاليات العقلية من خلال البحوث التجريبية و العلوم الطبيعية ، وهنالك منهج عقلي يعتمد العقل في إجابته عليها ، و المنهج العقلي يفترق إلى منهجين رئيسيين الكلامي و الفلسفي ، كما أن المدارس الكلامية تتعدد إلى مدارس من أهمها مدرسة المعتزلة و مدرسة الأشاعرة ، وكذلك المنهج الفلسفي منه ما يعتمد العقل فقط في بحثه كالمدرسة المشائية ، و منه ما يوفق بين العقل و النقل و الكشف و بعبارة أخرى البرهان و القرآن و العرفان و من المدارس التوفيقية المدرسة الإشراقية التي أسسها شيخ الإشراق السهروردي و مدرسة الحكمة المتعالية التي أسسها صدر المتألهين الشيرازي وهي المنهج الذي نتبناه ، لقد أدى النقاش الدائر بين المناهج الإسلامية المختلفة إلى تعميق البحث العقائدي و تطويره فقد كان لعلم الكلام فضل كبير في تعميق مباحث الفلسفة الإسلامية فعندما دخلت الفلسفة اليونانية البلاد الإسلامية كانت تحمل روحا لا تنسجم مع روح الإسلام إجمالا في سياقها العام لا في جميع أبعادها ، و كان لإشكاليات المتكلمين كالفخر الرازي الفضل في تعديل الفلسفة بما يتوافق مع الأصول الدينية ، وهكذا يتبين مدى أهمة إحياء علم الكلام من جديد في الأوساط العلمية وتأثير ذلك على حيوية البحث الفلسفي ، لقد حكمت أفكار صدر المتألهين الشيرازي ساحة البحث العقلي والإطار العام للفلسفة الإسلامية منذ وفاته وحتى اليوم ، و ربما يكون هذا دليل صحة أفكاره و متانتها و لكنه قد يكون أيضا بسبب غياب الناقد القوي من المدارس الأخرى من الساحة ، مما يلاحظ أيضا في مقام الحديث عن المناهج الإسلامية أن الهوة بين فلاسفة الإمامية و متكلمين أصغر منها بين فلاسفة العامة و متكلمين ، ويلاحظ أيضا أن هنالك سوء فهم اتجاه الفلسفة باعتبارها لا تضع اعتبارا للنص الديني و الحق أن الفلسفة الإسلامية تعتبر النص راشدا للعقل دون أن تقدس الجمود على ظواهره ودون أن تجعله بديلا عن العقل فيما لا يصح أن يكون النص دليلا عليه .

 ، و فيما يلي مزيد بيان حول بعض هذه المنهجيات وآرائها في مسائل العدل الإلهي

أ- منهج أهل الحديث

يتخذ أهل الحديث النصوص الدينية من القرآن و السنة أساسا لإجابة الأسئلة العقلية والعقائدية ، بل يعطل بعضهم القرآن الكريم و لا يعتبر حجية فهم سائر البشر للقرآن إلا من خوطب به وهم المعصومون (ع) حسب دعواهم ، و بالتالي لا يبقى عندهم سوى الحديث ، فكل ما تحدثت عنه الرواية يقبولنه و كل ما رفضته الرواية يرفضونه و كل ما سكتت عنه الرواية يسكتون عنه ، و الواقع أن هؤلاء لا جواب حقيقي لديهم لتلك الأسئلة و إنما هم متسترون بالروايات ، و أول من ابتدع منهج أهل الحديث هم الحنابلة و سرى على أثرهم بعض الإمامية ولا زال بعض أتباع المنهج موجودين حتى يومنا هذا ، و في الرد عليهم نقول أولا: بأن نفس نصوص القرآن و السنة تأمر بالرجوع إلى العقل و هذا جواب جدلي من باب (من فمك أدينك) وإلا لو كان ثبوت حجية العقل متوقف على النقل للزم ذلك الدور الصريح لأن النقل لا يثبت إلا بالعقل ، و نقول في الرد عليهم ثانيا: أن المعارف الدينية تنقسم إلى معارف الغرض الأولي منها العمل وهي فروع الدين وما الغرض الأولي منها الاعتقاد وهي أصول الدين ، وقد جرى ذكر كلا القسمين في النصوص الدينية ولو كان ذكر المسائل والبراهين العقلية في النصوص الدينية غير مقترن بأمر المكلف بأن يعمل عقله وتفكيره لكان ذكر هذه المسائل إما عبثيا أو للقلقلة اللسان و التعبد بتلاوتها فقط دون فهم معانيها ، و نقول في الرد على أهل الحديث ثالثا: هنالك نصوص متعارضة لا يمكن ترجيح بعضها على الآخر من دون إعمال طرف آخر كالعقل أو الكشف ، فإن قيل بأن هنالك روايات تعين وظيفتنا عند تعارض النصوص نقل بأن تلك الروايات نفسها التي تعين موقفنا عند تعارض النصوص متعارضة.

المنهج العقلي (ب) المنهج الكلامي - الأشاعرة

تعتقد الأشاعرة بأمور أربعة في باب العدل الإلهي أولها الجبر أي أن الإنسان مجبور على أفعاله لأنهم قالوا بأن الله خالق كل شيء ولو كان فعل الإنسان مخلوقا له لخرج عن ربوبية الله تعالى و هكذا فالزنا عندما يصدر من الزاني إنما هو فعل الله و الإنسان مجبور عليه و المصلي حينما يصلي إنما صلاته فعل الله و هو مجبور عليها ، و قد وقع الأشاعرة في إشكالية نسبة القبائح إلى الله تعالى و أنه يعاقب الإنسان و يثيبه على أفعال هو مجبور عليها ولا يفعلها بإرادته واختياره ، وهكذا وضعوا ثاني أصولهم لحل هذه المعضلة وهو إنكار الحسن و القبح الذاتيين و بتبعهما العقليين ، وقالوا بأن ليس من حق المخلوق أن يعين وظيفة الخالق (( لا يسأل عما يفعل و هم يسألون ))[12] ، و هكذا قالوا بأن ما فعله الله هو عدل فينتفي مفهوم الظلم من أساسه ، من هنا نجد المعتزلة كأبي الحسين البصري قد شنعوا على الأشاعرة بأمور رديئة عديدة[13] كعدم الجزم بنجاة أي من الأنبياء المرسلين ولا الملائكة المقربين ولا الأولياء و لا الصديقين ولا الجزم بعذاب أي من العاصين و الطغاة و إبطال جميع الأديان و عدم إمكانية التعبد بشرع من الشرايع السابقة و اللاحقة ، وبهذا يتضح معنى قولنا بأن الأمر الثالث الذي اعتقدت به الأشاعرة هو إنكار العدل الإلهي لأنهم لا يرون وجودا له أصلا فكل العالم فعل الله وبالتالي كل العالم حسن و عدل وكل ما يفعله الله عدل لا أن الله لا يفعل إلا العدل ، و الأمر الرابع الذي اعتقدوا به هو إنكار الحكمة بمعنى أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض في رأيهم ، لأنه غير محتاج إلى الأغراض و العلل ، فإن قيل بأن ذلك يستلزم عبثية أفعاله وهي قبيحة قالوا بأننا نفينا التحسين و التقبيح الذاتيين و العقليين من الأساس فليست العبثية قبيحة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وقد برز واضحا انعكاس نكران مبانيهم الكلامية في علم (أصول الفقه) فقالوا بأن المصالح و المفاسد تابعة للأحكام لا أن الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد ، فالصلاة و الزنا من حيث أنهما عمل ليس فيهما مصلحة ولا مفسدة بل من حيث أن الله أمر بالصلاة صار فيها مصلحة و من حيث أنه نهى عن الزنا صار فيه مفسدة .
يمكننا ملاحظة أن المنطلق الأساسي في التفكير الأشعري في باب العدل الإلهي هو توحيد الربوبية و التنزيه المطلق للخالق سبحانه ، ولكنهم ضحوا بالعدل في سبيل التوحيد مقابل المعتزلة الذين ضحوا بالتوحيد في سبيل العدل كما سيتبين لك قريبا ، وهكذا يمكننا أيضا ملاحظة كيفية توصل الأشاعرة إلى نتائجهم من خلال تسلسل عقلي يبدأ بإثبات توحيد الربوبية و يمر بإثبات الجبر و نفي اختيار الإنسان ثم نفي الحسن و القبح الذاتيين و بتبعهما العقليين ثم بنفي تعليل أفعال الله بالأغراض ، فهم و إن أسموا أنفسهم أهل الحديث و استشهدوا على دعاواهم بالنصوص إلا أن منهجهم عقلي أساسا .

المنهج العقلي (ب) المنهج الكلامي – المعتزلة

يعتقد المعتزلة بأمور أربعة في باب العدل الإلهي تقابل الأشاعرة و هي أولا التفويض فقطعوا الصلة بين فعل الله تعالى و الإنسان و نسبوا فعل الإنسان إليه فقط فهو خالق أفعاله ، و ثانيا الحسن و القبح الذاتيين أي أن للأفعال بنفسها وبما هي هي حسنا أو قبحا ، و كذلك آمنوا بالحسن و القبح العقليين فقالوا بأن للعقل القدرة على التوصل إلى حسن أو قبح بعض الأفعال ، وقالوا بأن الحسن و القبح الذاتيين و العقليين ليسا حاكمين على فعل البشر فحسب بل حاكمين على فعل الله تعالى أيضا ، فلو ترك الله سبحانه ما ينبغي فعله فهو ظالم و لو فعل ما لا ينبغي لكان ظالما أيضا ، و هكذا فسر المعتزلة العدل الإلهي بالعدل البشري ، و ثالثا اعتقادهم بالعدل الإلهي و أن للظلم مفهوما في قباله ، و رابعا أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض ، و استندوا في هذا على قاعدة (قياس الغائب على الحاضر).
و كما انعكس اعتقاد الأشاعرة في العدل الإلهي في علم أصول الفقه انعكس اعتقاد المعتزلة كذلك ، فقالوا بأن الفعل بما هو فعل فيه مصلحة أو مفسدة و لأجل هذه المصلحة أو المفسدة أمر الشارع به أو نهى عنه فالأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد.

ملاحظات

·   الملاحظة الأولى: تاريخيا كانت الغلبة للأشاعرة مقابل المعتزلة لأن الأشاعرة أسموا أنفسهم أهل الحديث فاكتسبوا شهرة بهذه التسمية فكان الأشعري عند العامة هو الموافق للسنة و المعتزلي هو المخالف للسنة حتى أسماهم بعض المستشرقين (المفكرين الرافضين للسنة) مع أنه لم يكن المعتزلة غير مبالين بالسنة بل كانت المعتزلة أعمق تضحية و أكثر ارتباطا بالإسلام ، بل إنه من الواضح أن الأشعرية مدرسة عقلية بالدرجة الأولى لا نصية فما هم إلا متسترين بالنص ، و من العوامل المؤثرة في تقهقر المعتزلة هو وقوف السلطات ضدهم و تقديمهم للأشاعرة فأول من طرح الجبر وروج له هم طواغيت بني أمية خدمة لاستبدادهم السياسي .
·   الملاحظة الثانية: بعض نتائج الأشاعرة و هي التوحيد الأفعالي حق و لكن ما رتبوه على ذلك باطل ، كما أن قولهم بأن ليس كمثل الله شيء حق و لكن إنكارهم للحسن و القبح العقليين و فصلهم إياهما عن الله تعالى باطل ، فقد اعتقد الأشاعرة بالتوحيد إلى حد ضحوا بالعدل و اعتقد الأشاعرة بالعدل إلى حد جعلهم يضحون ببعض مباني التوحيد.
·   الملاحظة الثالثة: نقطة ضعف الأشاعرة هي نسبة الأفعال القبيحة كلها لله تعالى و نسبة ضعف المعتزلة هي الشرك في الخالقية لأنهم يقولون بالتفويض المطلق و قطع صلة فعل المخلوق عن فعل الخالق و هذا ينتهي إلى شرك الذات لأن تعدد الفعل يلزم تعدد الفاعل المستقل.
·   الملاحظة الرابعة: روي عن المعصومين (ع) أحاديث في نقض مدعيات الأشاعرة و المعتزلة منها ما روي عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) قال : (( من زعم أن الله يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله و من زعم أن الخير و الشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار ))[14] فأشار في صدر الرواية إلى الجبر و في عجزها إلى التفويض ، و في رواية أخرى (( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ))[15]
·   الملاحظة الخامسة: ما نذهب إليه و هو ما يعتقده حكماء الإمامية و كما سنبينه مفصلا لاحقا هو أولا أن لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين و ثانيا أن للعقل القدرة على إدراك الحسن و القبح العقليين و لكن ذلك لا ينطبق على أفعال الله تعالى كما يعتقد المعتزلة ، و ثالثا أننا نعتقد بالعدل الإلهي بمعناه الرابع الذي ذكرناه في بحث معاني العدل و أخيرا نحن نعتقد أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض ولكن غايته ذاته وليس شيئا خارجا عنها فهو الفاعل وهو الغاية فغرضه عين ذاته
·   الملاحظة السادسة: من متكلمي الإمامية من هو أشعري أو معتزلي في الواقع أي فيما يتباه من نظريات كلامية و إن كان ينتمي لمذهب أهل البيت (ع)


ج- المنهج التجريبي

يتخذ المنهج التجريبي طريقا واحدا إلى إثبات وجود الله و سائر المسائل العقائدية و هو التجربة بخلاف المنهج العقلي سواء منه منهج الفلاسفة أو المتكلمين فله طرق عديدة إلى إثبات وجود الله تعالى مثلا كبرهان الوجوب و الإمكان والحدوث والحركة والنظم ، و لكن التجريبيين حصروا أنفسهم في التجربة فأوقعهم ذلك في معضلات انتهت بكثير منهم إلى إنكار وجود الله تعالى ، و من الأسباب التي أدت ببعضهم إلى ذلك عدم وضوح العلة الغائية للخلقة (لماذا خلق الله المخلوقات؟) ، فرأوا بأن كثيرا من أجزاء هذا العالم لا غرض من خلقه و انتهوا بذلك إلى إنكار العلة الفاعلية (الخالق) ، وبالفعل – كما يقول الحكماء – يؤدي إنكار العلة الغائية إلى إنكار العلة الفاعلية ، من الملاحظات أيضا على المنهج التجريبي أنه قادر على إثبات نشأة وراء عالم المادة ولكنه يتوقف عند هذا الحد إذ أن الميتافيزيقيا ليست موضوعا للعلوم التجريبية ، و من الأمثلة على مشكلات المنهج التجريبي في باب العدل الإلهي هو أنهم بعدما استدلوا على وجود الحق و كماله بالخلق وعندما واجهوا إشكالية الشرور وسبب حدوث الزلازل والبراكين و الأخطاء الجينية وغيرها لم يستطيعوا إلا أن ينكروا كمال الفاعل أي كمال الله تعالى لأنهم إنما أرادوا إثباته في البداية انطلاقا من التجربة والماديات .

المناهج التوفيقية (د) منهج الحكمة المتعالية

وهذا المنهج هو ما نتبناه في هذه البحوث و يرجع فيه إلى ما أسسه صدر المتألهين الشيرازي (ره) من قواعد ، و فيما يلي نخوض ببحوث هذا الكتاب تفصيلا فعلى الله التوفيق والسداد.

بحث في معنى "الفعل"

في علم المنطق يقسم العلم الحصولي إلى تصور و تصديق و كل منهما ينقسم إلى بديهي (ضروري) و نظري (كسبي) ، وقد وقع الخلاف بين المناطقة فيما إذا كان هنالك تصورات نظرية أم أن التصورات كلها بديهية ، وعلى كل حال فإن التصور البديهي هو ما لا يتوقف تصوره على توسط تصور آخر مثل مفهوم الوجود ، ومن التصورات البديهية التي لا تحتاج إلى تعريف هو تصور "الفعل" كما يذهب إلى ذلك الشيخ المطهري (ره) في كتابه حول العدل الإلهي ، نعم  ، وقد عرف بعض المتكلمين الفعل بتعريفات لا تخلو عن إشكال كالدور مثلا ، ومن هذه التعريفات ما يلي:

1- عرف أبو الحسين الفعل بأنه (ما حدث عن قادر) و قيل في تعريف القادر أنه (من يصح أن يفعل و أن لا يفعل) و بالتالي عرف الفعل و أخذت فيه القدرة و عرفت القدرة و أخذ فيها الفعل فالإشكال الأول على هذا التعريف أنه يلزم الدور ، و الإشكال الثاني أن هذا التعريف تعريف بالأخص لأن الفعل أعم من الصادر عن قادر أو غير قادر فهو يشمل الإرادي و الطبيعي و القسري و سيأتي معناها قريبا.
2- وعرف بعض المتكلمين الفعل بأنه (حصول وجود للشيء من شيء آخر بعدما لم يكن) ، وبما أن من جاء بالتعريف يتبع منهج المتكلمين نلاحظ إشارته إلى انتقالة للشيء من العدم إلى الوجود بناء على رأيهم بأن الشيء لكي يكون حادثا لا بد أن يكون مسبوقا بعدم زماني ، و يشكل عليهم الفلاسفة بما لو كان فعل الله تعالى أزليا أبديا ، أفلا يكون هذا فعل الله تعالى؟ و منشأ إشكال الفلاسفة على التعريف هو عدم توافقهم مع المتكلمين في الإيمان بالحدوث الزماني للفيض.
3- عرف بعض الحكماء الفعل بأنه (حصول وجود بعد العدم عن سبب ما) و قالوا بأن العدم هنا أعم من أن يكون زمانيا أو غير زماني.

أقسام الفعل

الفعل على قسمين ، القسم الأول هو ما لا يتصف بوصف زائد من حسن أو قبح كحركة النائم أو الساهي ، و القسم الثاني هو ما يتصف بوصف زائد من حسن أو قبح كالعدل الذي يتصف بالحسن أو كالظلم الذي يتصف بالقبح ، والفعل الحسن هو (ما لا يتعلق بفعله ذم) ، و المراد بالذم هنا العقاب و هو يشمل الأحكام الأربعة (الواجب ، المستحب ، المكروه ، المباح) ، وهكذا يتبين أن الفعل الحسن إما أن (1) لا يتعلق به وصف زائد على حسنه و هو المباح (2) أو أن يكون له وصف زائد (أ) يستحق المدح بفعله و الذم بتركه عند العقلاء و هو الواجب (ب) أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم و هو المندوب (المستحب) أو (ج) يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم و هو المكروه.
و الفعل القبيح بخلاف الحسن أي أنه (ما يتعلق بفعله ذم) وهو يشمل (المحرم).

تحرير محل النزاع

يبحث الباحثون عادة ما إذا كان للعقل القدرة على إدراك الحسن و القبح ويغفلون عن بحث ما إذا كان هنالك حسن و قبح ذاتيان للأفعال أصلا ، و هذا من مواضع الخلط في هذه البحوث ، فبينما يكون الأشاعرة في كثير من كلماتهم بصدد إنكار الحسن و القبح الذاتيين بحيث يكون إنكار الحسن و القبح العقليين نتيجة طبيعية لذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، تجد أن من يريد نقض رأيهم يناقش الحسن و القبح العقليين ، فمن المهم تمييز محل النزاع من هذه الحيثية ، و هنالك حيثية أخرى يجب تمييز محل النزاع فيها و هي أن البحث قد يقع أحيانا في مطلق الفعل بما هو فعل أي في الفعل بما هو هو ، و أحيانا أخرى في الفعل منسوبا إلى الله تعالى أو الإنسان أي في فعل الله و فعل الإنسان .

أدلة القائلين بالحسن و القبح العقليين:

·   الدليل الأول: لو كان إدراك العقل للحسن و القبح متوقفا على الشرع لما أدركهما من لا يقبل الشرع كالملحدين و البراهمة ، بل ندرك وجدانا و بالضرورة حسن و قبح بعض الأفعال فلو جاءنا نبي بخلاف ذلك لما قبلنا منه
·   الدليل الثاني: لو ثبت أن الحسن و القبح بواسطة الشرع لما ثبتا لا شرعا ولا عقلا ، فلعل الشارع يكذب في نواهيه و أوامره و على مدعى أن الحسن و القبح شرعيين يمكن أن تكون الأوامر و النواهي الشرعية كاذبة دون أن يكون ذلك قبيحا فيصبح الحسن شرعا قبيحا و القبيح شرعا حسنا في واقع الأمر دون أن يكون ذلك قبيحا ، و بالتالي يلزم من ثبوت الحسن و القبح العقليين نفيهما و ما لزم من وجوده نفيه فهو محال ، ومن الممكن للقائلين بالحسن و القبح الشرعيين أن يتخلصوا من هذه الإشكالية بأن يعترفوا بحسن الصدق و قبح الكذب عقلا فقط دون غيرهما من الأفعال ، وهذا غير واقع .
·   الدليل الثالث: لو صدق الحسن و القبح الشرعي لجاز التعاكس و مقصدهم من التعاكس هو أن يأمر الله تعالى بما هو قبيح عقلا كأن يأمر بالكذب و ينهى عما هو حسن كالصدق ، و قيل في معنى التعاكس أنه أن يتوهم الفرد ما هو قبيح حسنا و ما هو حسن قبيحا ، و في الحقيقة التعاكس واقع فهنالك مجتمعات ترى ما هو قبيح عندنا حسنا و العكس صحيح و بالتالي فإن التعاكس واقع موجود في المجتمعات ، و هذه المسألة تلفت إلى تساؤل مهم (هل الحسن و القبح متعلقان بمفهوم الفعل أم بمصاديقه؟)

يلاحظ أن أكثر استدلالاتهم في هذا الباب وجدانية يمكن ردها باعتبارها ناشئة من البيئة أو العادة ، فيتضح أن الأبحاث الكلامية قائمة على الجدل أحيانا لا البرهان كما هو شائع في علم الكلام ، و يلاحظ أيضا ارتباط هذه المسائل ببعض بحوث علم التفسير مثل ما وقع من جدل في أمر الله تعالى الملائكة بأن تسجد لآدم (ع) ، فقال البعض بأن السجود لغير الله قبيح عقلا و بهذا فسروا السجود لآدم بأنه سجود لله تعالى واقعا ، وفي المقابل قالوا بأن قبح السجود لغير الله تعالى شرعي فزال هذا القبح و استبدل بالحسن عندما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم (ع) .

أدلة القائلين بالحسن و القبح الشرعيين:

·   الدليل الأول: لو كان الحسن و القبح عقليين لما تفاوتت العقول في إدراكهما و لكان إدراك الحسن و القبح كإدراك (زيادة الكل على الجزء) و (استحالة اجتماع النقيضين) الذي هو إدراك ضروري بديهي نلاحظ بأن هذا الاستدلال مشابه لاستدلال المعتزلة إلا أنه بالعكس ، وفي نقضه نذكر جوابين ، الجواب الأول: يجب علينا أن نميز بين مدركات العقل العملي و النظري ، فقد تتزاحم مدركات العقل العملي في كثير من الأحيان مع مصالح الشخص الفردية أو الاجتماعية مثل الإيثار على النفس إذ يحكم العقل بحسنه و أنه مما ينبغي فتطرأ على هذا الحكم موانع ومشوشات كالمصلحة الشخصية وحب الذات تجعل من الصعب تمييز الحسن و القبح في مصاديق بعض هذه القضايا ، بعبارة أخرى عندما نقارن مدركات العقل النظري بمدركات العقل العملي نجد أن المقتضي تام و المانع مفقود في الأول لأن مدركاته لا علاقة لها بالعمل ، وأما في الثاني كلا من المقتضي و المانع موجودان إذ يقف هذا المانع أمام اقتضاء تلك المقتضيات و هنا يكمن سبب اختلاف الناس في إدراك حسن و قبح تلك الأفعال ، الجواب الثاني : نحن لا ندعي أن جميع جهات الحسن و القبح في جميع الأفعال مدركة لجميع الناس ، و لكن مدعانا هي (الموجبة الجزئية) أي أن (عقول بعض الناس قادرة على إدراك حسن و قبح بعض الأفعال من بعض الجهات أحيانا)
·   الدليل الثاني: لو كان الكذب قبيحا عقلا لكان الكذب لتخليص نبي من القتل أو لإصلاح ذات البين قبيحا أيضا ، و بما أن التالي ليس قبيحا فالمقدم ليس قبيحا عقلا أيضا ، و على هذا النسق يطرح سؤال يزيد الدليل إيضاحا وهو (لو اتخذ أحدهم عهدا على نفسه بأن يكذب غدا ، فهل ينبغي عليه أن يكذب في اليوم التالي أم أن يخلف الوعد؟) فلو كان أحدهما حسنا لكان الآخر قبيحا و العكس بالعكس . و في جواب هذا الاستدلال نقول : توجد جهتان للفعل جهة حسنة و تبقى حسنة و جهة قبيحة و تبقى قبيحة ، فالجهة المرتبطة بالكذب قبيحة و الجهة المرتبطة بتخليص النبي و إصلاح ذات البينة حسنة ، و حصل التعارض بينهما فيصبح الفعل الحسن هو الأرجح منهما و الأهم فلم يتغير ولم يزل الحسن عن حسنه ولا القبيح عن قبحه ، كما يصبح ترك تخليص النبي أقبح من الكذب ، و بالمثل يجب ترك الكذب في غد لأن في المثال جهتا قبح و هو العزم على الكذب و فعل الكذب و فعل الكذب أقبح من العزم عليه ، كما لا يخفى أن المثال السابق يصح عندما يتوقف خلاص النبي و إصلاح ذات البين على الكذب أما لو أمكنت التورية لما جاز الكذب
·   الدليل الثالث: العبد مجبور في أفعاله و كل من هو مجبور في أفعاله فلا معنى لأن يتصف فعله بالحسن و القبح . وفي جواب هذا الاستدلال نقول أولا: سيتبين لاحقا بأن العبد ليس مجبورا على أفعاله ، وثانيا على فرض الاستدلال الثالث هذا ينتفي معنى الحسن و القبح الشرعيين أيضا.

العقل العملي و العقل النظري

- معنى العقل العملي والعقل النظري

تنقسم مدركات العقل – لا العقل نفسه – إلى العقل النظري و العقل العملي ، فالعقل هنا هو القوة المدركة عند الإنسان مطلقا أعم من أن يقصد به مرتبة التعقل أو التخيل أو الحس أو الخيال ، إذ قد يطلق العقل ويراد به ما يقابل هذه الأمور[16] ، ويتميز العقل النظري عن العملي في أن الأول لا يدفع الإنسان نحو الفعل أو الترك وذلك كإدراك أن الشمس طالعة مثلا ، بينما يدفع العقل العملي نحو الفعل أو الترك كإدراك الصدق مثلا حيث يضفي على هذا الإدراك جريا عمليا هو (أنه ينبغي فعله) و كإدراك الكذب حيث يضفي جريا عمليا هو (أنه لا ينبغي فعله) ، نعم مدركات العقل النظري تنتهي غالبا إلى "انبغاءات" أو "لا انبغاءات" ، فمن يؤمن بالتوحيد مثلا ينتهي إلى مواقف عملية معينة ، و لكن بعض مدركات العقل واضح انتهاؤها إلى ذلك فنسميها بمدركات العقل العملي و بعضها غير واضح انتهاؤها إلى ذلك و نسميها مدركات العقل النظري.

- نقل عبارات الأعلام في تعريف العقل النظري والعملي:

وقد تعددت تعبيرات الأعلام في تبيان الفرق بينهما وفيما يلي بعضها:

1) تعريف الآملي في حاشيته على المنظومة حيث يقول : (( إذا كان العلم بما هو خارج عن حيطة قدرتنا و ليس تحت اختيارنا فهذا نسميه عقل نظري )) و أشار بهذا التعريف إلى أن كلا من العقل العملي والنظري علم أو مدرك – بفتح الراء – ،  لكنه قد يكون تارة خارجا عن إمكانية تأثير إرادتنا كعلمك بأن (الأرض موجودة) حيث لا يمكنك أن تعدمها أو أن تتصرف في وجودها ، وتارة يكون العلم داخلا في حيطة قدرتنا كعلمك بصفة الشجاعة مثلا ، وبهذا يكون الفرق بين العقل العملي و النظري إنما هو في المدرك – بفتح الراء – لا في المدرك – بكسرها – .
2) تعريف الفارابي كما أورده الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في تعليقته على النهاية حيث يقول (( فعن المعلم الثاني أن النظري )) أي مدركات العقل النظري (( هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله )) و أما العقل العملي (( فهي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله ))
3) تعريف السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه "دروس في علم الأصول" حيث يقول : (( يقسم الحكم العقلي إلى قسمين )) التعبير بالحكم العقلي - و الحكم هنا بالمعنى الذي يذكره الأصوليون لا المنطقيون- تعبير مسامحي كما بين المحقق الأصفهاني إذ أن وظيفة العقل إنما هي الإدراك لا الحكم وتسمية الإدراك بالحكم من باب التسامح ، فلا يوجد في مدركات العقل أمر و لا زجر و لا نهي و لا ثواب و لا عقاب ، وعلى كل فللحكم العقلي قسمان (( أحدهما : الحكم النظري و هو إدراك ما يكون واقعا )) و ليس من شأنه أن يعمله الإنسان (( و الآخر الحكم العملي و هو إدراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي أن يقع ، و بالتحليل نلاحظ رجوع الثاني إلى الأول )) أي رجوع الانبغاء و عدم الانبغاء إلى إدراك الواقع (( لأنه إدراك لصفة واقعية في الفعل و هي أنه ينبغي أن يقع و هو الحسن أو لا ينبغي و هو القبح . و على هذا نعرف أن الحسن و القبح صفتان واقعيتان يدركهما العقل كما يدرك سائر الصفات و الأمور الواقعية )) و نستفيد من هذه الجملة أن السيد الشهيد قائل بالحسن و القبح الذاتيين للأفعال و أن للعقل دور الكاشفية عنهما لا أنه منشئ لهما (( غير أنهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جريا عمليا معينا خلافا للأمور الواقعية الأخرى ، و على هذا الأساس يمكن أن يقال أن الحكم النظري هو إدراك الأمور الواقعية التي لا تقتضي بذاتها جريا عمليا معينا ، و الحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعية التي تقتضي بذاتها ذلك .. الخ ))[17]
4) تعريف الشيخ المظفر في كتابه "أصول الفقه" حيث ذكر تحت عنوان "المستقلات العقلية" أو عنوان "العقل العملي والنظري" ما يلي : (( إن المراد من العقل - إذ يقولون إن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه بالمعنى الثالث من الحسن و القبح - هو "العقل العملي" في مقابل "العقل النظري" ، و ليس الاختلاف بين العقلين إلا بالاختلاف بين المدركات )) بفتح الراء ، و إلا فالمدرك – بكسرها – واحد (( فإن كان المدرك – بالفتح – مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل مثل حسن العدل و قبح الظلم فيسمى إدراكه "عقلا عمليا" ، و إن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم مثل قولهم "الكل أعظم من الجزء" الذي لا علاقة له بالعمل فيسمى إدراكه "عقلا نظريا" ، و معنى حكم العقل - على هذا - ليس إلا إدراك أن الشيء مما ينبغي أن يفعل أو يترك ، و ليس للعقل إنشاء بعث و زجر ولا أمر و نهي إلا بمعنى أن هذا الإدراك يدعو العقل إلى العمل ، أي يكون سببا لحدوث الإرادة في نفسه للعمل و فعل ما ينبغي ))[18] ويلاحظ مما سبق أن الشيخ المظفر لا يرى واقعية للحسن والقبح[19] خلافا للسيد الشهيد الصدر وهذا ما سيتبين أكثر في السطور الآتية .


- لا ينبغي الخلط بين العقل العملي والنظري والحكمة العملية والنظرية

لا ينبغي الخلط بين العقل النظري و العملي و الحكمة النظرية و العملية فـ"لا يخفى أن مدركات الحكمة النظرية و العملية تدخلان معا تحت القوة النظرية في النفس الإنسانية ، لأن في النفس قوة تدرك من خلالها الحقائق و المعارف النظرية والعملية وقوة يحصل من خلالها تدبير البدن ، وقد اصطلح جملة من المحققين على تسمية القوة النظرية بالعقل النظري و القوة العملية بالعقل العملي . يقول بهمنيار في التحصيل (( اعلم أن النفس الإنسانية تقوى على إدراك المعقولات وعلى التصرف في القوى البدنية ، فبإحداهما تقبل النفس على مفيد الصورة المعقولة وتسمى عقلا نظريا ، وبالأخرى تقبل على البدن وتتصرف في قواها وتسمى عقلا عمليا ، لأن بها تعمل النفس وليس من شأنها أن تدرك شيئا بل هي عمالة فقط )) وتأسيسا على ذلك فلا ينبغي الخلط بين العقل النظري والعقل العملي من جهة وبين الحكمة النظرية و الحكمة العملية من جهة أخرى ، لأن الحكمة النظرية والعملية معا ترتبطان بالعقل النظري في الإنسان ، أجل تختلف مدركات الحكمة النظرية عن العملية في أن الأخيرة تستلزم جريا عمليا بخلاف الأولى فإنها ليست كذلك"[20]

منشأ الرغبة أو الإحجام عن الفعل:

لا شك بأن منشأ رغبة الإنسان في فعل بعض الأفعال و إحجامه عن بعضها الآخر هو حبه لذاته و لكمالها و فراره عن نقصها وهذا ما يتبين تفصيلا في بحثنا حول الفطرة و هو ما يعبر عنه بالفطرة الأولية و الثانوية ، فإذا كان الفعل يؤدي إلى كمال الإنسان رغب به وإن كان يؤدي إلى نقصه فر منه وأحجم عنه .

واقعية مدركات العقل:

من أهم المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الأصوليين و الفلاسفة هي ما إذا كان لمدركات العقل العملي حقيقة واقعية كما هو الحال مع مدركات العقل النظري ، فطرحت نظريتان في المقام:

·   النظرية الأولى: تقول بأن مدركات العقل النظري و العملي جميعا واقعية و حقيقية ، و بهذا يكون الحسن و القبح ذاتيين تماما كقانون العلية و عدم اجتماع النقيضين و أن الكل أعظم من الجزء ، و هذا هو مبنى السيد الشهيد الصدر كما أشرنا بل وذهب إلى هذه النظرية أكثر علماء أصول الفقه .
·   أما النظرية الثانية: فتقول بأن مدركات العقل النظري واقعية ، و لكن مدركات العقل العملي ليست واقعية بل مشهورة[21] ، وإلى هذه النظرية ذهب جملة من الحكماء (الفلاسفة) .

ويلاحظ بأن ثمرة القول بالنظرية الأولى في علم الأصول هي القول بأن الأحكام الشرعية نابعة من أمور واقعية ، فعندما يحكم بنجاسة البول مثلا فإنما ذلك لخبث واقعي فيه يقتضي الاجتناب عنه ، لكن بناء على النظرية الثانية ليس ثمة ضرورة في أن تكون المصالح و المفاسد التي يترتب عليها الحكم الشرعي واقعية وهذا ما دفع أكثر الأصوليين إلى القول بالنظرية الأولى .

معاني الحسن و القبح:

يطلق الحسن أو القبح و يراد به معان متعددة ، وقد تطرق الأشاعرة أنفسهم إلى بحث هذه المعاني لدفع الإشكالات التي أوردتها المدارس الإسلامية الأخرى عليهم ، ولعل من أجود النصوص في هذا العنوان ما ذكره الشيخ المظفر في كتابه "أصول الفقه" تحت عنوان " معنى الحسن و القبح و تصوير النزاع فيهما" نورده للطالب الكريم بنصه ، قال (رحمه الله) : (( إن الحسن و القبح لا يستعملان بمعنى واحد بل لهما ثلاث معان ، فأي هذه المعاني هو موضوع النزاع ؟ فنقول: قد يطلق الحسن و القبح و يراد بهما الكمال و النقص ، و يقعان وصفا بهذا المعنى للأفعال الاختيارية و لمتعلقات الأفعال )) الاختيارية (( فيقال مثلا العلم حسن و التعلم حسن و بضد ذلك يقال "الجهل قبيح" و "إهمال التعلم قبيح".  و يراد بذلك أن العلم و التعلم كمال للنفس و تطور في وجودها ، و أن الجهل و إهمال التعلم نقصان فيها و تأخر في وجودها. و كثير من الأخلاق الإنسانية حسنها و قبحها باعتبار هذا المعنى ، فالشجاعة و الكرم و الحلم و العدالة و الإنصاف و نحو ذلك إنما حسنها باعتبار أنها كمال للنفس و قوة في وجودها ، و كذلك أضدادها قبيحة لأنها نقصان في وجود النفس و قوتها ، ولا ينافي ذلك أنه يقال للأولى "حسنة" و للثانية "قبيحة" باعتبار معنى آخر من المعنيين الآتيين. و ليس للأشاعرة ظاهرا نزاع في الحسن و القبح بهذا المعنى ، بل جملة منهم يعترفون بأنهما عقليان ، لأن هذه من القضايا اليقينيات التي وراءها واقع خارجي تطابقه على ما سيأتي. ثانيا: أنهما قد يطلقان و يراد بهما الملاءمة للنفس و المنافرة لها ، و يقعان وصفا بهذا المعنى أيضا للأفعال و متعلقاتها من أعيان و غيرها ، فيقال في المتعلقات "هذا المنظر حسن جميل" "هذا الصوت حسن مطرب" "هذا المذوق حلو حسن" و هكذا ، و يقال في الأفعال "نوم القيلولة حسن" "الأكل عند الجلوس حسن" "و الشرب بعد العطش حسن" و هكذا ، و كل هذه الأحكام لأن النفس تلتذ بهذه الأشياء و تتذوقها لملاءمتها لها. و بضد ذلك يقال في المتعلقات و الأفعال "هذا المنظر قبيح" و "لولة النائحة قبيحة" "النوم على الشبع قبيح" و هكذا ، و كل ذلك لأن النفس تتألم أو تشمئز من ذلك. فيرجع معنى الحسن و القبح – في الحقيقة – إلى معنى اللذة و الألم ، أو فقل إلى معنى الملاءمة للنفس و عدمها ، ما شئت فعبر فإن المقصود واحد. ثم إن هذا المعنى من الحسن و القبح يتسع إلى أكثر من ذلك ، فإن الشيء قد لا يكون في نفسه ما يوجب لذة أو ألما ، و لكنه بالنظر إلى ما يعقبه من أثر تلتذ به النفس أو تتألم منه يسمى أيضا حسنا أو قبيحا ، بل قد يكون الشيء في نفسه قبيحا تشمئز منه النفس كشرب الدواء المر و لكنه باعتبار ما يعقبه من الصحة و الراحة التي هي أعظم بنظر العقل من ذلك الألم الوقتي يدخل فيما يستحسن ، كما قد يكون الشيء بعكس ذلك حسنا تلتذ به النفس – كالأكل اللذيذ المضر بالصحة – و لكن ما يعقبه من مرض أعظم من اللذة الوقتية يدخله فيما يستقبح. و الإنسان بتجاربه الطويلة و بقوة تمييزه العقلي يستطيع أن يصنف الأشياء و الأفعال إلى ثلاثة أصناف "ما يستحسن" و "ما يستقبح" و "ما ليس له هاتان المزيتان" و يعتبر هذا التقسيم بحسب ماله من الملاءمة و المنافرة ولو بالنظر إلى الغاية القريبة أو البعيدة التي هي قد تسمو عند العقل على ماله من لذة وقتية أو ألم وقتي ، كمن يتحمل المشاق الكثيرة و يقاسي الحرمان في سبيل طلب العلم أو الجاه أو الصحة أو المال ، و كمن يستنكر بعض اللذات الجسدية استكراها لشؤم عواقبها ، و كل ذلك يدخل في الحسن و القبح بمعنى الملائم و غير الملائم . قال القوشجي في شرحه للتجريد عن هذا المعنى "و قد يعبر عنهما – أي الحسن و القبح – بالمصلحة و المفسدة فيقال الحسن ما فيه مصلحة و القبيح ما فيه مفسدة ، و ما خلا منهما لا يكون شيئا منهما" و هذا راجع إلى ما ذكرنا ، و ليس المقصود أن للحسن و القبح معنى آخر بمعنى ماله المصلحة أو المفسدة غير معنى الملاءمة و المنافرة فإن استحسان المصلحة إنما يكون للملاءمة و استقباح المفسدة للمنافرة ، و هذا المعنى من الحسن و القبح أيضا ليس للأشاعرة فيه نزاع ، بل هما عندهم بهذا المعنى عقليان ، أي مما قد يدركه العقل من غير توقف على حكم الشرع ، و من توهم أن النزاع بين القوم في هذا المعنى فقد ارتكب شططا و لم يفهم كلامهم . ثالثا: أنهما قد يطلقان و يراد بهما المدح و الذم و يقعان صفة بهذا المعنى للأفعال الاختيارية فقط ، و معنى ذلك أن الحسن ما استحق فاعله عليه المدح و الثواب عند العقلاء كافة ، و القبيح ما استحق عليه فاعله الذم و العقاب عندهم كافة ، و بعبارة أخرى أن الحسن ما ينبغي فعله عند العقلاء ، أي أن العقل عند الكل يدرك أنه ينبغي فعله ، و القبيح ما ينبغي تركه عندهم ، أي أن العقل عند الكل يدرك أنه لا ينبغي فعله أو ينبغي تركه ، و هذا الإدراك للعقل هو معنى حكمه بالحسن و القبح ، و سيأتي توضيح هذه النقطة فإنها مهمة جدا في الباب . و هذا المعنى الثالث هو موضوع النزاع فالأشاعرة أنكروا أن يكون للعقل إدراك ذلك من دون الشرع ، و خالفتهم العدلية فأعطوا للعقل هذا الحق من الإدراك . تنبيه: و مما يجب أن يعلم أن الفعل الواحد قد يكون حسنا أو قبيحا بجميع المعاني الثلاثة كالتعلم و الحلم و الإحسان ، فإنها كمال للنفس و ملائمة لها باعتبار مالها من نفع و مصلحة و مما ينبغي أن يفعلها الإنسان عند العقلاء ، و قد يكون الفعل حسنا بأحد المعاني ، قبيحا أو ليس بحسن بالمعنى الآخر ، كالغناء مثلا فإنه حسن بمعنى الملاءمة للنفس ، و لذا يقولون عنه إنه غذاء الروح ، و ليس حسنا بالمعنى الأول أو الثالث ، فإنه لا يدخل عند العقلاء بما هم عقلاء فيما ينبغي أن يفعل و ليس كمالا للنفس و إن كان هو كمالا للصوت بما هو صوت ، فيدخل في المعنى الأول للحسن من هذه الجهة ، و مثله التدخين أو ما تعتاده النفس من المسكرات و المخدرات ، فإن هذه حسنة بمعنى الملائمة فقط و ليست كمالا للنفس ولا مما ينبغي فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء ))[22] .

وبهذا تبين بأن للحسن والقبح عدة معان هي إجمالا:

1) الكمال والنقص كقولك "العلم حسن" و"الجهل قبيح" وحسب الظاهر لا نزاع مع الأشاعرة في هذا المعنى حيث يعترف جملة منهم بأن التحسين والقبيح عقليان وفق هذا الإطلاق ، رغم نقض البعض عليهم بأن اعترافهم هذا خلاف مبانيهم.
2) الملاءمة والمنافرة للطبع أو اللذة كحسن الرائحة و قبحها وحسن المطعم وقبحه ، واضح بأن هذا الحسن والقبح بهذا الإطلاق لا يمكن نسبتهما إلى الله تعالى لأنه منزع عن الطبع والمزاج و الأحوال النفسانية ، فهما بهذا الإطلاق خارجان عن محل البحث و النزاع ، بل إنهما بهذا الأطلاق غير واقعيين إذ يختلفان من موجود إلى آخر فما هو حسن بالنسبة إلى موجود قد يكون قبيحا بالنسبة إلى آخر بل ما هو حسن في زمن معين بالنسبة إلى موجود قد يصبح قبيحا في زمن آخر كما هو اختلاف مزاج الإنسان في حال الصحة والمرض وهكذا .
3) أن نصف فعلا من الأفعال - بما هو فعل من الأفعال و بغض النظر عن فاعله - أن نصفه بالحسن أو القبح بمعنى أنه بعد إدراك العقل له يقتضي جريا عمليا (ينبغي أو لا ينبغي) وذلك بغض النظر عن فاعله ، و بالتالي فالحسن ما استحق عليه فاعله المدح لدى العقلاء كافة و القبيح ما استحق عليه فاعله الذم لدى العقلاء كافة ، وهذا هو الإطلاق محل النزاع في المقام .
4)   المصلحة والمفسدة و سنعقد بحثا مستقلا في هذا الإطلاق .

النزاع في المعنى الثالث للحسن والقبح

ثمة فرق دقيق بين أن نقول بأن الحسن هو "ما ينبغي فعله" و القبيح "ما لا ينبغي فعله" وبين أن نقول بأن الحسن هو "ما يستحق المدح عند العقلاء" والقبيح "ما يستحق الذم عند العقلاء" ، فالتعريف في التعبير الأول منصب على الفعل بما هو هو ، بينما التعريف في التعبير الثاني منصب على الفاعل ، نعم مدح العقلاء أو ذمهم يترتب على فعل الحَسَن أو إتيان القبيح إلا أن مدار الحسن والقبح ليس هو مدح العقلاء أو ذمهم وإنما هو الانبغاء أوعدم الانبغاء في ذات الفعل ، إذا ميزت بين هذين التعبيرين الدقيقين أمكنك ملاحظة ما قد يقع فيه بعض الباحثين من خلط بحيث يحسب أن أحد التعبيرين هو عين الآخر ، وذلك كالعلامة الشيخ جعفر السبحاني حيث عرف في كتابه "الإلهيات" الحسن بأنه "ما يستحق المدح عند العقلاء" ، كما أمكنك أن تتبين محل النزاع بين الأشاعرة و العدلية حيث أنكر الأشاعرة واقعية الفعل بما هو فعل وبالتالي جعلوا مناط الحسن والقبح هو الفاعل ، فالفاعل هو علة الحسن و القبح ولا واقعية لهما في نفس الأمر ، بينما قال العدلية بأن الفعل بما هو هو متصف بالحسن أو القبح إذ أن له حقيقة واقعية إذا نظر إليه مجردا عن الفاعل ، وسنبين بأننا لا نتفق في ذلك مع كلا الفريقين ، وعلى كل فقد أشار السيد الشهيد محمد باقر الصدر إلى هذه النكتة في قوله : (( و تفصيل الحال في المقام أن هنا مطلبين : المطلب الأول حسن الفعل و قبحه ، المطلب الثاني : استحقاق العقاب أو استحقاق الثواب )) وتجدر الإشارة إلى أن المتكلمين لم يبينوا ما إذا كانوا يقصدون من الانبغاء الضرورة ( أو الوجوب كما يعبر الفقهاء) أم الإمكان (أو الاستحباب) .

ثلاثة محال للنزاع

أولا: تحرير محل نزاع الأشاعرة والعدلية

مما سبق يتبين أن محل النزاع بين الأشاعرة والعدلية هو في واقعية الفعل أي في المنكشف خلافا لمن يتوهم بأن الخلاف بينهما في الكاشف فقط ، بمعنى أن البعض قد يشكل بأنه إن كان كل من الأشاعرة و العدلية يقولون في نهاية المطاف بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر إلا أن الأشاعرة يرون أن الكاشف لهذا الحسن أو القبح هو الشرع بينما يرى العدلية بأن الكاشف لهما هو العقل فما ثمرة هذا البحث و ما أهميته إذ أن النتيجة في نهاية المطاف واحدة؟! وتبين أن محل النزاع في الحقيقة هو في المنكشف أي في الفعل بما هو هو ، وهل أن له واقعية و هل أن الحسن والقبح ذاتيان في الفعل أم أنهما اعتباريان ، بعبارة أخرى هل يمكن أن يتحول الظلم من قبحه إلى الحسن أو يتحول العدل من حسنه إلى الظلم أم أن ذلك ممتنع امتناعا ذاتيا[23] ، و بالتالي فخلاف الأشاعرة والعدلية في الكاشف إنما هو مترتب على نزاعهما في المنكشف ، وهذا من أهم أسباب المغالطة في فهم هذا البحث التي قد تفهم من عباراتهم ، إذ قد تجد من يرد على الأشاعرة إنما يرد عليهم من باب كونهم منكرين للحسن و القبح العقليين بينما يكون الأشعري في مورد نقض الحسن والقبح الذاتيين .

ثانيا: تحرير محل نزاع بين الأصوليين و بعض الأخباريين من أعلام الإمامية

اتفق الإمامية على الاعتقاد بالحسن والقبح الذاتيين للأفعال خلافا للأشاعرة إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم فيما إذا كان للعقل القدرة على كشف الحسن و القبح فيها ، فقال بعض الأخباريين بعدم قدرة العقل على ذلك وبحاجتنا إلى الشرع لكي يكشف لنا حسن و قبح الأفعال ، فكل من الأشاعرة و الأخباريين قائل بحاجتنا إلى الشرع إلا أن الأشاعرة يقولون بحاجتنا إليه لاعتبار الحسن أو القبح في الأفعال وإضفائهما عليها إضفاء اعتباريا ، بينما يقول الأخباريون بحاجتنا إلى الشرع لكشف الحسن والقبح الواقعيين الذاتيين في الأفعال ، و من هنا يتبين الفرق بين مبنى الأصوليين والأخباريين من علماء الإمامية ، فهما متفقان في مقام الثبوت دون مقام الإثبات ، و خلافهما في الكاشف لا المنكشف ، بخلاف خلاف الأشاعرة مع المعتزلة فهو في المنكشف و الكاشف معا.

ثالثا: تحرير محل نزاع بين الأصوليين أنفسهم

بعد أن تميز العدلية عن الأشاعرة بقولهم بالحسن والقبح الذاتيين ، و تميز الأصولية عن الأخبارية بقولهم بقدرة العقل على كشف الحسن والقبح الذاتيين في الأفعال ، اختلف الأصوليون فيما بينهم في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فهل يجب أن يحكم الشرع بما حكم به العقل؟[24] فقال الفاضل المعاصر بالملازمة خلافا للمحققين من علمائنا كالسيد الخوئي (ره) الذي أنكرها ، وذهب السيد الشهيد الصدر (ره)[25] إلى رأي آخر في المقام حيث قال بأن الشارع سيد العقلاء وبالتالي فهو قد يدرك أمورا لا تدركها عقولنا مما يدل على عدم الملازمة بين الحسن و القبح العقليين و ما يحكم به الشرع ، والواقع أن هذا النزاع إنما هو نزاع أصولي خارج عن مباحث علم الكلام ، وإنما أشرت إليه لبيان أهمية التمييز بين البحثين و معرفة الخطوط الفاصلة بينهما ، كذلك يبحث في علم الأصول حجية الإدراك العقلي للحسن والقبح وما إذا كانت هذه الإدراكات دليلا قطعيا أم ظنيا ، وبهذا يتبين مدى ارتباط البحث الكلامي بالبحث الأصولي و أهمية تنقيح المباني الكلامية لعلم الأصول قبل الدخول فيه وإلا لصار الأصولي مقلدا في مبانيه الكلامية .

العلاقة بين الفعل و ما يستتبعه من الجري العملي:

من خلال فهم العلاقة بين الفعل و ما يستتبعه من الجري العملي يتبين أن من مناشئ إشكالات الأشعرية أنهم لم يميزوا بين العناوين جيدا وذلك حينما استدلوا على اعتبارية الحسن والقبح لأنهما يتغيران بتغير عنوان الفعل وظرفه ، كالكذب مثلا حيث يقبح في أمور ويحسن في أخرى كإصلاح ذات البين ، فأشكلوا بأنه لو كان حكمه عقليا لما صح أن يتغير بتغير العناوين العارضة عليه ، لذا لزم بحث العلاقة بين الفعل وجريه العملي ، والأفعال بهذا اللحاظ على ثلاثة أنحاء:

الأول: أفعال تقتضي الجري العملي (الانبغاء أو عدم الانبغاء) بنحو العلية فأينما صدق الفعل (العلة) صدق إلى جانبه جريه العملي (معلولها) ، فأينما صدق العدل مثلا صدق الحسن و الانبغاء ، وبهذا يكون الموضوع علة تامة للمحمول في قولك (العدل حسن) ، و كذلك يترتب "عدم الانبغاء" على بعض المواضيع بنحو العلية مثل الظلم في قولك (الظلم قبيح) ، وعلى هذا يستحيل أن يصدق على شيء أنه عدل أو ظلم دون أن يصدق عليه أنه حسن أو قبيح ، لأن الأولين علتان تامتان للأخيرين ، تماما كقولك (اجتماع النقيضين محال) فلا يمكن أن يصدق الموضوع دون أن يصدق المحمول.
الثاني: أفعال لو قطع النظر عن مزاحماتها و موانعها فهي تدخل تحت عنوان الحسن أو القبيح و لكن لا بالذات بل بالعرض ، فمثلا نقول بأن الصدق حسن ، و لكن حسنه ليس ذاتيا له و إنما لأنه داخل تحت عنوان العدل في حد ذاته ، و لكن لو تغير العنوان إلى عنوان آخر فدخل الصدق تحت عنوان الظلم لصار قبيحا كما لو لزم من صدقك موت مؤمن أو ظلم مؤمن ، فالصدق النافع حسن و الكذب الضار قبيح و إلا فالكذب لإصلاح ذات البين حسن .
الثالث: الأفعال التي لا تعتبر بذاتها علة ولا مقتضية للحسن و القبح ، وإنما هي (لا بشرط) من حيث الحسن و القبح إذ أنها بذاتها لا تتصف بالحسن ولا القبح ، كالضرب مثلا إذا كان للتأديب فهو حسن و إذا كان للبطش صار قبيحا فلا يتصف في نفسه لا بالحسن و لا بالقبح ، وعندما نقارنه بالصدق نقول بأن الصدق في نفسه لو لم يزاحم لكان حسنا و لكن شرب الماء مثلا ليس كذلك فالصدق من القسم الثاني بينما شرب الماء و الضرب من القسم الثالث.

وإذا تبين ذلك نسجل ملاحظات إضافية مهمة وهي:

أولا: كل أحكام العقل العملي مرجعها إلى حكمه الرئيسي الذي هو حسن العدل و قبح الظلم ، قال السيد الشهيد (( الثالث ما ذكره المحقق الأصفهاني من أن كل أحكام العقل العملي مردها إلى الحكم الرئيسي الأولي بقبح الظلم و حسن العدل ))[26]
ثانيا: النزاع في مسألة القبح و الحسن الذاتيين و العقليين هو في القسم الأول دون القسمين اللاحقين.
ثالثا: تنقسم مدركات العقل العملي إلى قسمين:
(1) مدركات أولية بديهية: ولها مصداقان فقط هما حسن العدل و قبح الظلم .
(2) مدركات ثانوية نظرية: و هي سائر المدركات الراجعة إلى حسن العدل و قبح الظلم ، وفي هذه قد يقع الخطأ أو الاشتباه.


معلولية الحسن والقبح للمصلحة والمفسدة

وقع خلاف واسع في هذا المبحث حتى بين علماء الإمامية أنفسهم ، ويمكن أن نقرأ اتجاهين رئيسيين في المسألة ، الأول يقول بأن كل ما ثبت حسنه فلا بد أن تكون فيه المصلحة (هو حسن لأن فيه مصلحة) ، كما أن كل ما ثبت قبحه فلا بد أن تكون فيه مفسده ، بينما ينفي الاتجاه الثاني ذلك ، ومرادهم من المصالح و المفاسد - في هذا المبحث - ما كان مصلحة أو مفسدة للنوع البشري أو المجتمع الإنساني ككل ، لا ما كان مصلحة أو مفسدة للفرد الواحد.
وفي هذا يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) تحت عنوان "الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع" ما نصه : (( عرفنا أن مرجع الحكم العملي إلى الحسن والقبح وأنهما أمران واقعيان يدركهما العقل ، وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي أن نقول كلمة عن واقعية هذين الأمرين ، فإن جملة من الباحثين فسر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيين ، أي مجعولين من قبل العقلاء تبعا لما يدركونه من مصالح ومفاسد للنوع البشري ، فما يرونه مصلحة كذلك يجعلونه حسنا ، وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا ، وتميزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائية اتفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما لوضوح المصالح والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما ، وهذا التفسير خاطئ وجدانا وتجربة أما الوجدان فهو قاض بأن قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أي جاعل كإمكان الممكن ، وأما التجربة فلأن الملحوظ خارجيا عدم تبعية الحسن والقبح للمصالح والمفاسد فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ومع هذا يتفق العقلاء على قبحه ، فقتل إنسان لأجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتم به إنقاذ إنسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشك أحد في أن هذا ظلم وقبيح عقلا ، فالحسن والقبح إذن ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة بل لهما واقعية تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثير من الأحيان وتختلف معها أحيانا ))[27].
يمكننا أن نلاحظ بأن ليس للسيد الشهيد برهان كي يثبت بطلان المطلب و إنما استدل بالوجدان و التجربة ، فلو دققنا النظر لوجدنا بأن مثال القتل المضروب في النص ينطبق عليه عنوان الظلم وهو مزاحم للمصلحة المتحققة منه ، فلو لم يكن عنوان الظلم عارضا عليه لانتفى قبحه ، بالتالي فكلام السيد الشهيد لا يخلو من خلط ناشئ عن عدم تمييز بين أقسام الفعل المذكورة آنفا ، فالحسن والقبح معلولان للمصالح والمفاسد ، غاية الأمر أن المصالح و المفاسد تارة تكون دائمة و تارة تكون متبدلة ، فمفسدة الظلم دائمة على مدى التاريخ البشري وفي كل الظروف ، لذا قلنا بأن قبحه عقلي ، والحق أن الحسن والقبح ليست أمورا عقلية بل مشهورة لا واقعية لها وراء اتفاق العقلاء عليها خلافا لجملة من الأصوليين .
لكن هل يصح أن نقول بأن حسن أو قبح الفعل الإلهي دائر أيضا مدار المصالح والمفاسد؟ الحق أن الله تعالى هو جاعل المصالح والمفاسد وخالقها فلا يصح أن نقول بأن فعله دائر مدارها ويجب التفريق ما بين فعله سبحانه و فعل المخلوق ، ففعله ليس معلولا للمصالح والمفاسد خلافا لأفعال خلقه .

فائدة: في مناقشة بعض ردود العدلية على الأشاعرة

من أقوى الردود التي ذكرها المعتزلة في معرض مناقشتهم للأشاعرة ما أشار إليه الشيخ المظفر في كتابه "أصول الفقه" بقوله : (( والأحسن تصوير الدليل على وجه آخر فنقول: إنه من المسلم عند الطرفين وجوب طاعة الأوامر والنواهي الشرعية ، وكذلك وجوب المعرفة ، وهذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعي حسب دعواهم ، فنقول لهم: من أين يثبت هذا الوجوب؟ لا بد أن يثبت بأمر من الشارع ، فننقل الكلام إلى هذا الأمر ، فنقول لهم: من أين تجب طاعة هذا الأمر؟ فإن كان هذا الوجوب عقليا فهو المطلوب ، وإن كان شرعيا أيضا فلا بد له من أمر ولا بد له من طاعة فننقل الكلام إليه .. وهكذا نمضي إلى غير نهاية ، ولا نقف حتى ننتهي إلى طاعة وجوبها عقلي لا تتوقف على أمر الشارع وهو المطلوب . بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقف على التحسين والتقبيح العقليين ، ولو كان ثبوتها من طريق شرعي لاستحال ثبوتها ، لأنا ننقل الكلام إلى هذا الطريق الشرعي فيتسلسل إلى غير النهاية ، والنتيجة: أن ثبوت الحسن والقبح شرعا يتوقف على ثبوتهما عقلا ))[28] وقد أشار السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) إلى ذلك في مقاربة أخرى في قوله : (( انسداد باب إثبات نبوة نبينا بل سائر النبوات لأن ذلك مبتن على مقدمة عقلية هي قبح إجراء المعجزة على يد الكاذب )) ثم بين (رحمه الله) بأن النقضين السابقين غير تامين ، إذ باستطاعة كل من المنكر الأشعري – ثبوتا – و الأخباري – إثباتا – أن يجيب عن كلا النقضين ، فأما رد النقض الأول فهو في أن إنكار الحسن والقبح العقليين لا يعني عدم إمكانية تحصيل الاحتمال بحسن وقبح الأفعال عن طريق العقل وحده غاية الأمر أن المنكر للحسن و القبح العقليين لا يقول بأنه قاطع بعدم حسن و قبح تلك الأفعال وإنما هو قائل بعدم قطعه بإثباتها ، أي أنه ليس قاطعا بعدم حسن الصدق مثلا وإنما هو غير قاطع بحسنه قبل ورود الشرع ، وبهذا يكون المحرك نحو الطاعة و الرادع عن المعصية هو الحسن و القبح العقليان المحتملان وهما كافيان في تحريك الإنسان نحو العمل طالما أن الاحتمال قائم ، وهذا من باب وجوب دفع الضرر المحتمل الذي يبحث في موضوع وجوب تحصيل المعرفة فراجع ، بل إن احتمال الحسن والقبح قائم حتى مع فرض عدم صدق الشارع في وعده بالجنة ووعيده بالنار ، يقول السيد الحائري في تقريرات دروس السيد الشهيد الصدر ج1 مباحث الأصول للسيد الحائري (تقريرات دروس السيد الشهيد في الأصول) ص506: (( أما النقض الأول فلأن بإمكان الإخباري و الأشعري أن يجيبا و يدعيا )) .
وأما المقاربة الثانية فيقال في نقضها بأن المعجزة إذا كانت دالة على صدق النبوة بنفسها فلا حاجة إلى مدرك الحكم العقلي في دلالتها عليها ، وإلا فهي غير دالة على صدق النبوة بنفسها وإنما محتاجة إلى حكم عقلي كي تدل عليها ، وبهذا يكون إجراؤها على يدي مدعي النبوة ليس دليلا على نبوته و ليس تضليلا لأنها – في حد ذاتها – لا تدل على ذلك[29] .

فهرسة البحوث الآتية:

·       هل ينقسم الفعل بما هو فعل إلى حسن و قبيح؟ (بحث في الحسن و القبح الفعلي)
·       هل هنالك أفعال تعد بالنسبة إلى الله تعالى حسنة أو قبيحة؟ (بحث في الحسن و القبح الفاعلي)
·   لو فرضنا أن الفعل بما هو فعل ينقسم إلى حسن و قبيح و أن الأفعال بالنسبة إلى الله تعالى تنقسم إلى حسنة و قبيحة ، فهل للعقل القدرة على أن يكشف عن ذلك أم لا؟
·   لو كان الفاعل هو الإنسان فهل تنقسم الأفعال بالنسبة إلى الإنسان إلى حسنة و قبيحة؟ (بحث في الحسن و القبح الفاعليين أيضا)
·   إذا كانت بعض الأفعال بالنسبة إلى الإنسان حسنة أو قبيحة ، فما هو منشأ الحسن و القبح و ما هو ملاكهما؟
·   إذا كانت بعض الأفعال بالنسبة إلى الله حسنة أو قبيحة ، فما هو منشأ الحسن و القبح و ما هو ملاكهما؟

ملاحظة: ما يلي من بحوث هي أصل بحث العدل الإلهي ، وتقسم بشكل عام إلى مقامين (1) البحث في فعل الله تعالى (2) و البحث في فعل الإنسان.

المقام الأول من البحث: البحث في فعل الله تعالى

هل يوجد حسن و قبح ذاتي في أفعال الله تعالى؟ و هل للعقل القدرة على إدراكهما إن وجدا؟


هل تتصف أفعال الله تعالى بالضرورة (يجب عليه ، يمتنع عليه)؟

من المسائل الخلافية بين المتكلمين والفلاسفة هي مسألة اتصاف فعل الله تعالى بالضرورة ، فهل يصح أن نقول بأن هذا الفعل واجب على الله تعالى وذاك الفعل ممتنع على الله تعالى ، كما لو قلنا بأن العدل واجب على الله تعالى و الظلم ممتنع عليه ، فهل يصح أن يتصف فعل الله تعالى بالضرورة أم لا يصح ذلك؟ وبعبارة أخرى : عندما نقول "ينبغي على الله تعالى أن يعدل" و "لا ينبغي على الله تعالى أن يظلم" فهل الانبغاء وعدمه يعنيان ضرورة الوجوب أو ضرورة الامتناع؟ قال الفلاسفة بأن صفات الله تعالى قد تتصف بالضرورة ، وقال المتكلمون بأن صدور الأفعال من الله تعالى على نحو الإمكان ، و معنى الإمكان هو أنه يجوز أن يفعل و يجوز أن يترك ، ومن هنا اتهم المتكلمون الفلاسفة بأنهم قائلون بأن الله تعالى مجبور على فعل بعض الأفعال وترك بعضها الآخر مما يقيد قدرة الله عز وجل ، إلا أن الفلاسفة بدورهم أشكلوا على المتكلمين بقولهم بأن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فلا يجوز أن تكون فيه سبحانه جهة إمكانية وإلا لزم الخلف لأن جهة الإمكان تلازم الماهية و الماهيات مختصة بالموجودات الحادثة .

فكرة السلطنة:

لقد أدى هذا الخلاف بين المتكلمين و الفلاسفة ببعض علمائنا كالميرزا و على تبعه السيد الشهيد الصدر إلى استحداث مفهوم ثالث في المسألة و هو مفهوم (السلطنة) ، حيث قالوا بأن الله تعالى يفعل الفعل بإعمال السلطنة لا بالضرورة و لا بالإمكان لأن الضرورة تساوق الاضطرار وهو ينافي الاختيار ولأن الإمكان لا معنى له في واجب الوجود سبحانه و تعالى ، فقاعدة السلطنة تقول بأن (الشيء ما لم يجب و لم يعمل الفاعل السلطنة لم يوجد) ، خلافا لقاعدة الفلاسفة التي تقول بأن (الشيء ما لم يجب لم يوجد) وهي قاعدة عقلية عندهم لا تنخرم أبدا سواء كان الفعل إلهيا أو بشريا ، وقد أنكرها المحقق الخوئي في الفواعل الاختيارية وقال بأنها خاصة بالفواعل الطبيعية كالنار مثلا ، وأما الفواعل الاختيارية عنده فتعمل وفق قاعدة السلطنة أي أنها ما لم تجب ولم يعمل الفاعل السلطنة لم توجد .

مناقشة فكرة السلطنة:

سبب قول من قالوا بفكرة السلطنة هو أنهم اشتبهوا في فهم الوجوب وظنوا بأن مقصود الفلاسفة منه هو (الوجوب على) ومن هنا قالوا بأنه يقتضي الجبر ، ويتبين هذا الاشتباه جليا في كلام السيد الشهيد الصدر حيث قال في ج2 من تقريرات بحثه يقول (( و فرق بين حالة له أن يفعل و حالة عليه أن يفعل )) فليس هنالك أمر ثالث فإما له أو عليه أن يفعل (( و حيث أن الضرورة تساوق الاضطرار و الاضطرار يقابل الاختيار فالضرورة تقابل الاختيار )) فلو كان الله مضطرا لكان غير مختار (موجبا) و فعله من قبيل حركة المرتعش التي هي حركة ضرورية .
والحق بأن مقصود الحكماء كالشيخ الرئيس وصدر المتألهين بالوجوب هو (الوجوب عن) لا (الوجوب على) ، إذ لم يكن قبل خلق الخلق ثمة موجود غيره سبحانه كي يوجب عليه شيئا والقول بـ (الوجوب على) يستلزم وجود موجود يوجب عليه الفعل ، فالحق بأن الله تعالى هو من أوجب على نفسه فعل الحسن و منع نفسه من فعل القبيح وهذا معنى (الوجوب عن) و هو غير مستلزم للجبر و الاضطرار كما هو واضح بل هو غاية الاختيار ، و بهذا عندما نقول بأن الفعل الكذائي واجب على الله تعالى نعني بذلك أن كماله يقتضي ذلك وأنه كتب على نفسه ذلك لأنه سنخ وجود لا يصدر عنه إلا الكمال ، فنحن نجزم بأنه لا يخلف الميعاد مثلا ، ولتقريب المفهوم إلى الأذهان – ولله تعالى المثل الأعلى – إليك المثال التالي : عندما نرى رجلا عاقلا رزينا فنحن نجزم بأنه لا يسير في الشارع عاريا لا لأنه عاجز عن ذلك ولا لأنه مجبور على عدم إتيان الفعل لكن كماله و عقله ورزانته تقتضي ذلك ، و كذلك الأمر بالنسبة إلى ارتكاب المعصية من قبل المعصومين (ع) في عقيدتنا نحن الإمامية ، فإننا نجزم أنهم لا يفعلون المعصية ولا يتركون الطاعة دون أن يتنافى ذلك مع اختيارهم (ع) ، وبهذا يتلخص بأننا لا نعين وظيفة لله تعالى بمقولة (الوجوب عن و الامتناع عن) بخلاف مقولة (الوجوب على و الامتناع على) ، فـ(الوجوب عن) يقع في طول السلطنة.





[1] نهج البلاغة ج1 ص14
[2] تحف العقول ص326
[3] العدل الإلهي ص18
[4] العدل الإلهي ص57
[5] سورة الأنبياء الآية 23
[6] نهج البلاغة ج2 ص198
[7] سورة الملك الآية 3-4
[8] سورة الحجر الآية 6
[9] مناقب آل أبي طالب ج3 ص384
[10] الإسراء 20
[11] راجع بحث السيد الحيدري حول المناهج و المدارس الإسلامية في مقدمة كتابه "دروس في الحكمة المتعالية" ج1
[12] الأنبياء 23
[13] راجع نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي و ما ينقله عن أبي الحسين البصري ص72
[14] الكافي للكليني ج1 ص158
[15] الكافي ج1 ص160
[16] كما هو في بدايات منطق المظفر وهنالك بين معنى كل من قوة الخيال والتخيل والحس و الوهم فراجع شرح العلامة السيد الحيدري عليه لمزيد من البيان.
[17] دروس في علم الأصول تأليف السيد محمد باقر الصدر ج2 ص254
[18] أصول الفقه تأليف الشيخ المظفر ج2 ص277
[19] بل وللشيخ المظفر عبارة أكثر صراحة في الدلالة على اعتقاده عدم واقعية الحسن والقبح العقليين وذلك في كتابه "المنطق" حيث قال : (( انقل العبارة )) أيضا راجع عبارته بتمامها في كتابه الأصولي
[20] دروس في الحكمة المتعالية ج1 ص121
[21] راجع معنى المشهور في الجزء الثالث من منطق المظفر
[22] أصول الفقه تأليف الشيخ محمد رضا المظفر ج2 ص272-276
[23]  ملحوظة: يلزم من القول بواقعية الحسن و القبح اتحاد العامل و العمل اتحادا واقعيا و لهذا نتيجة مهمة في علم الأخلاق تبحث في محلها.
[24] انظر في ذلك أصول المظفر ص293
[25] راجع دروس في علم الأصول ج2 ص256
[26] دروس في علم الأصول ج3 ص26
[27] دروس في علم الأصول ج2 ص255 .
[28] أصول الفقه تأليف الشيخ المظفر ص290
[29] للمزيد من القراءة انظر تقريرات السيد الحائري في الأصول ص503 إلى ص554 و انظر أيضا أصول المظفر و كتاب بداية المعارف الإلهية للخرازي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق