الأربعاء، 28 أغسطس 2013

المتطرف الراديكالي .. "ياهل عود" - بقلم علي العريان


 
 

حينما كنت أدرس علم النفس في الكلية الملكية للجراحين في دبلن لفت نظري الأستاذ بمثال لطيف حينما قال: إذا طلب الطفل من الكبير حلوى مخبأة في إناء موجود في الغرفة و عجز الكبير عن إدراك مراد الطفل فسيغضب الطفل ويبكي وذلك لأن الأطفال في بدايات أعمارهم يعيشون حالة تعرف بالتمركز حول الذات Ergocentrism حيث يفترضون بأن الآخرين يعلمون كل ما يعلمونه هم وأن من يختلف معهم في الرأي مخطئ أو عنيد لا يريد أن يلبي طلباتهم.

لقد أجرى عالم النفس Piaget دراسات تجريبية لدراسة تطور النمو النفسي لدى الأطفال وأثبت من خلالها بأن الأطفال دون السابعة غير قادرين على استيعاب وجود وجهات نظر أخرى تخالف وجه نظرهم أو رأي آخر ، ليس على المستوى المعرفي فحسب بل على المستوى الأخلاقي أيضا ، فلو قمت بكسر لعبة طفل فهو لن يغفر لك أبدا لأنه عاجز عن إدراك عدم تعمدك القيام بذلك.

لا تهمني تفاصيل حالة التمركز حول الذات بقدر ما أثار فضولي ذلك التشابه الوثيق بين تفكير أصدقائي المتطرفين الراديكاليين – على المستوى العقدي والفكري والفلسفي لا السياسي والاجتماعي – و بين التفكير الطفولي غير المتطور ، فأحيانا قد أختلف مع الكثيرين لكنني أبقى قادرا على أن أضع نفسي في موضعهم لأرى الأمور من الزاوية التي يرونها من خلالها فأتلمس الدوافع – الفكرية و البيئية – التي جعلتهم يعتنقون هذا الرأي أو ذاك – حتى لو كنت أعتقد بفساد رأيهم وبطلانه – بل قد ألتمس لهم العذر أحيانا وأقول بأنني لو كنت قد مررت في ظروفهم لربما كان قولي كقولهم ، ولكن بعض المفكرين الراديكاليين – لا كلهم – عاجزون عن ذلك مما يسم أسلوبهم في التفكير بسمات منها:

-        أن المفكر الراديكالي يفترض انعدام احتمال وجود الخطأ البشري في نتائج أفكاره بعضها أو كلها ، و يفترض انعدام احتمال صحة أفكار خصومه ، و كنتيجة مباشرة فإنه لا يتسامح مع الخصوم

-        المفكر الراديكالي يعتقد بأن من يخالفه في الفكر أو العقيدة إما مكابر أو معاند أو جاهل مقصر في البحث والتمحيص ، و كنتيجة لذلك فهو يواجهه بالعصبية والكراهية ويتخذ ذلك سببا لشرعنة العنف اتجاهه

-        المفكر الراديكالي يدعي أنه يستطيع أن يحكم على العلم بمطابقة الواقع أو مخالفته ، وهذه المسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل محله علم المنطق ونظرية المعرفة ، فالجاهل قد يكون جاهلا و لكنه عالم بجهله ، و قد يكون جاهلا مركبا بحيث أنه يجهل الشيء و لكنه يعتقد بأنه عالم به كما في حالة من يعتقد بأن لله ولدا ، فاعتقاده باطل و لكنه متيقن بأنه عالم بهذه المسألة فهذا جاهل مركب ، وما يحصل للراديكالي هو أنه يعتقد بأن الله اصطفاه فجعله قادرا على الحكم بأن أفكاره مطابقة للواقع وأفكار الآخرين مخالفة للواقع فهو "يعلم و يعلم بأنه يعلم" و هذا العلم الثاني في الحقيقة غير متيسر للإنسان العادي غير المعصوم و ذلك لأنه نوع من الألوهية و الهيمنة ومقام حاكم على مقام العقل وأسمى منه.

-        المفكر الراديكالي يتجاهل التفاوت بين الناس في مستوى الذكاء و الفطنة و في الظروف الاجتماعية والمعيشية المهيئة للبحث و التعلم ويفترض بأن الجميع قادر على إدراك ما يعتقده هو من حقائق.

-        المفكر الراديكالي يفترض بأن كل من بحث و اجتهد في بحثه بصدق نية فإنه سيتوصل إلى الحقيقة المطلقة التي توصل هو إليها.

-        المفكر الراديكالي يظهر دائما بمظهر صاحب الاعتقاد الصلب و اليقين الذي لا يهتز ، و يتعامل مع الآخرين باستعلائية فكرية ، فهو لا يناقش ليتعلم من الآخرين ويعلمهم فتتطور الأفكار ، و إنما هو يملي على الآخرين ما يجب أن يعتقدوه و يحدثهم من أعلى ربوة عالية بينما دورهم يقتصر على الجلوس دونه وتقلي ما يقول والإيمان به .

 

فكم هو طفولي هذا النوع من التفكير .. وإنني لمتردد بين أن أصفه بالطفولة المتأخرة أو المرض النفسي أو الرذيلة الأخلاقية .

الجمعة، 16 أغسطس 2013

عن الانتقاد العلني للمقدسات والثوابت .. على هامش الخلاف الشيعي والمذهبي - بقلم علي العريان



 
على هامش الخلاف الشيعي والمذهبي: الأخبارية ، الشيخية ، المشروطة ، فضل الله ، الحيدري ياسر الحبيب وغيرهم
 

كلما انبرى شخص ليطلق حملة انتقاد علنية لمقدسات دين أو مذهب سواء كانت تلك المقدسات عقائد أو مفاهيم أو أشخاصا بأعينهم ، كلما سمعنا بعض الردود الشكلية غير المتعلقة بالموضوع والمضمون بل بالقالب ، وقولي بأنها ردود شكلية لا يعني أنها غير أساسية أو هامشية بل يعني أنها ردود لا ترتبط بأصل المطلب من حيث حقانيتة أو بطلانه ، و من أمثلتها انتقاد توقيت الطرح باعتبار أن الظروف غير مناسبة ، وانتقاد أسلوب الطرح باعتباره حادا و غير ملتزم بآداب النقد العلمي ، و فيما يلي سأحاول عرض وجهتي النظر لأترك للقارئ الكريم الانتصار لإحداهما ..

فمن أهم الانتقادات الشكلية ما يبتني منها على التمييز بين الخطاب العلني الإعلامي الموجه إلى كافة المجتمع بما فيه من طبقات متنوعة في الوعي والهدف والغاية و المستوى العلمي والثقافي و الخلفية العقدية والاجتماعية والبيئية ، و بما فيه من اختلاف في الجمهور ما بين محايد يتقصى الحقيقة و عدو يتصيد في المياه العكرة ومؤمن قد يصاب بالقلق والشك والحيرة ومؤمن آخر قد ينقلب من مؤيد محب للمتحدث إلى عدو يجرح فيه .

ولا ينفك عما سبق كله التوظيف السياسي للأطروحات العلمية المرتبطة بالخلاف ما بين الملل والنحل – خصوصا في ظل الصراع الطائفي الدموي غير المسبوق الذي يشهده الشرق الأوسط اليوم – ، فيرى هذا الفريق أنه من السذاجة القول بأن طرح المسائل العلمية علنا من شأنه أن يظهر الحقيقة و ينمي مستوى الوعي العام وأنه دائما يصب في المنفعة دون المضرة أو أن منفعته تفوق مضرته دائما .

ومن أهم الانتقادات التي يواجه بها النقاد هو أنهم يشقون الصف ويعبثون بوحدة المجتمع أو الحزب أو وحدة أبناء الدين أو المذهب أو الوطن ، كما يواجهون دائما بحملة توهين لمستوياتهم العلمية في مقابل المستوى العلمي للشخص موضع النقد ، وسلب حق النقاد في الانتقاد باعتبارهم لم يبلغوا المبلغ الكافي من العلم الذي يؤهلهم لانتقاد الشخص المقدس أو الفكرة المقدسة ، كما يواجهون بأن قوة ووحدة القيادة – السياسية أو الدينية غالبا – يجب أن لا توهن بالتشكيك و طرح الإشكالات حتى لو كانت تلك الإشكاليات جدية و تتمتع بالمصداقية .

في المقابل يرى آخرون بأن ضحية ذلك هي الحقيقة و شفافية البحث العلمي ، فمن لا يقبل هذه الإشكاليات الشكلية قد يقول بأن المذاهب كل المذاهب و التيارات الفكرية كلها لم تتكون و لم تتشكل - تأريخيا - إلا إثر طرح علني للمشاكل العلمية على الجمهور أي العوام – بحسب تعبير رجال الدين – ، و لو أخذنا البيت الشيعي مثالا فالفتنة التي وقعت بين الشيخية و خصومهم و الأخبارية و خصومهم و فتنة المشروطة كلها اتسمت بطرح الخلافيات التخصصية على الجمهور غير المتخصص مما انتهى بالجمهور لأن يتعصب إلى هذا الطرف أو ذاك و كان رجال الدين المتخصصون الذين يصرون على طرح تلك الأطروحات على العامة يعتقدون بأن تحشيد العوام كان مطلوبا وراجحا بغض النظر عن كل السلبيات التي تترتب عليه و التي كان منها قتل الشيخ فضل الله النوري و قتل الأخباري و قتل السيد الرشتي و اقتتال الشيعة في كربلاء و شق الصف الشيعي الذي بقيت آثاره إلى يومنا الحاضر بحيث أصبحت هذه الحوادث التاريخية هي ما يرسم مكونات البيت الشيعي من أصولية و أخبارية و شيخية وغيرها ، و على المستوى الأوسع يمكننا تلمس الأمر ذاته على مستوى المذاهب الإسلامية و على مستوى الملل و النحل و الأيدولوجيات و المذاهب الفكرية جميعها ، فكلها تبدأ كمسائل فلسفية وفقهية عميقة لا يفهم واقعها إلا المتخصصون و تنتهي بتحشيد العامة و الشارع لكي ترسم في النهاية خريطة الواقع الاجتماعي العقدية ، وما نشهده اليوم ليس إلا احتذاء لسنن الأمم السابقة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة .

ومن الردود التي قد يسوقها من يعترض على الانتقادات الشكلية أن السياسة دائما و أبدا تستغل البحث العلمي و تمتص دماء الدين ، ولو اتخذنا التوقيت عذرا لأوصدنا باب البحث العلمي العلني إلى الأبد .

وأن تعدد الفهم للنص الواحد والخطاب الواحد بتعدد أفهام المتلقين هو مشكلة دائمة و أبدية لا تقتصر على العوام بل تمتد إلى النخب وتزداد تعقيدا مع زيادة الابتعاد الزمني عن وقت صدور النص ، فلا ينبغي أن يكون ذلك أيضا مانعا من الطرح العلني للإشكاليات العلمية المختلف عليها .

كما قد يقول هذا الفريق بأن طرح المطالب العلمية في الكتب و بين أسوار الصروح العلمية كالأكاديميات والحوزات لا ينتج أثره العالمي في نشر المطلب و الإشكال و لا يثير النقاش والأخذ والرد عليه و ينقحه وينضجه بمقدار ما يتأتى من الطرح العلني وعبر وسائل معينة مثل الفضائيات ، فقد أثبتت العولمة الحديثة أن الطرح العلني في حد ذاته يتفاوت من حيث التأثير و إثارة الضجة و التحشيد فلا يقارن المكتوب بالمقروء و لا يقارن المرئي بالمسموع بل و تتفاوت المرئيات بين ما ينشر في الشبكة العنكبوتية و ما ينشر في الفضائيات و غيرها ، مما يزيد إشكاليتنا تعقيدا .
 
وقد يستدل هذا الفريق بنتائج علم النفس الحديث حيث تبين أن المجتمعات تتطور في مستوى ذكائها الجمعي فيما يعرف بظاهرة فلين Flynn effect و العلماء - وخصوصا علماء الدين - قد يختارون أن يثيروا الإشكاليات الغريبة على المجتمع مما يسهم في هذا التطور الاجتماعي و قد يختار بعضهم أن يحافظ على السائد و الرائج من العقائد خشية تشكيك المجتمع بعقيدته .

وأخيرا قد يستشهد هؤلاء بالأسلوب المتبع في الدول الغربية الليبرالية إذ أن الفضاء هنالك مفتوح دون أن يؤدي ذلك إلى انعدام وجود دين أو مذهب أو تيار فكري إلا تلك التي لا تستطيع أن تدافع عن كيانها فيكون انهيارها مؤشرا على بطلانها فعدم قدرتها على مقاومة الهجوم الفكري يجعلها جديرة بالاندثار والاندحار .

 

وإلى هنا أترك لنفسي و للقارئ أن يضيف أو ينقح مما كتبت و ينتقي أي التوجهين يختار .. والحمد لله رب العالمين .